قراءة في سيرة ذاتيّة باللّغة الفرنسيّة للشاعرة التونسيّة نفيسة وفاء مرزوقي

خاص- ثقافات

*نورة عبيد

تهامي بن نافع مرزوقي والقلم الأمين هدى للقرّائين. نبأ للمربّين. قول مولودة على صراط الوالد تستقيم … أ

وتار شاعرة ونبض عاشقة. فنّ سيرة وتوثيق مسيرة. قصّ وشعر. كتابة موصولة ببرهان وشعر رهانه الإمكان. خطاب معقود بخطاب. وتر يجترح أوتار. زمن يستدعي أزمنة. ولادة فارقة لمولود مفارق مهما أتيح له الإمكان!

والشّاعرة؛ نفيسة وفاء مرزوقي مذ ودّعت الفاضل الأبيّ الاب ذات ثلاثاء من 29 نوفمبر 2011 وهي في أغرودة علويّة وغسق ثقيل وحوار لا يلين ورجعة ميؤوس منها عن الكتابة. أيّ كتابة؟

كتابة عن الكلّ لأنه الكلّ. والشّفاء بالكلّ من الكلّ! إزاحة الحنين بلسان فرنسيّ قائم في الكتابة إقامة أصيلة.

الكتابة وتهامي بن نافع مرزوقي. الكتابة عن تهامي بن نافع مرزوقي بقلم نفيسة وفاء مرزوقي تأصيل لكيان جديد ومضيّ بالسيرة إلى منتهى التّجليّ؛ الخلاص والنّماء.

ما شفيت الشّاعرة من ألم الفقد. دهشة الوداع دامت بعض الأشهر. والكتابة لاسترجاع الفقيد بدأت سبتمبر 2012 بجندوبة. ومراجعة عهد الانتماء والوفاء تمّ بكتابة ثانيّة بعد سنة . كان ذلك ذات نوفمبر 2014  بخزذدار بضاحيّة باردو من تونس العاصمة.

 والكتابة العقد؛ الخطاب بين الشّاعرة والعالم تمّ في سنتين   العقد وليد كتابة ثالثة بجندوبة، “سوق لربعا ” ذات سبتمبر 2016.

جدل الكتابة جدل وجوديّ منه كانت الشّاعرة شاعرة. والكتابة في ظلال السّيرة فنّ ميثاقه الوثوق بالوجود كون تأريخ وتوثيق. وصل الحاضر بالغائب وربط ما كان بما يجب أن يكون.

تمهيد وترتيب. سيرة الأب بمسار قدّ من وحي زاد في الكتابة بفرنسيّة بليغة نثرا وشعرا لترتيل ما نفع من النّافع للكلّ ؛ الجمهوريّة أوّلا والجمهور ثانيّا دون جمهرة ، وإنّما بجمرة الإكبار والحنين.

مطلق الانتماء للأب بآداب جمعت النثر بالشعر والوقائع بالمجاز. صور عجيبة قدّت من الكون والفساد؛ القلم والممحاة. أرضها وعاء الحروف والرّموز أينما كانت الكتابة مطلق الوجود.

نفيسة، دعيني أعزيك من جديد. قلمي بكى وقلبي همي. ماذا فعلت بالوفاء؟

رفعت ما هو خاص إلى صلاة حنين. صلاة ابتهال. صلاة اعتدال. صلاة استقبال. صلاة وداع بإخراج مسرحيّ من وحي إقامة في أقاصي النّصوص الكلاسيكيّة من الآداب الاجنبيّة لاسيما الأدب الإنجليزي بلسان فرنسي ونبض عربي!

السّيرة بعد معاشرتها والتّخلّص من ثقل وجعها – إذ وجع صديقي وجعي – استقرت لي مسرحيّة محبوكة بتقنيّة إنجليزية التّوجّه. مادّتها أربعة فصول في التّأريخ ملزمة وفصل في الرّثاء مرقّق مسحوب على الوداع لتفيق الوفاء على فناء الجسد. ووتدان في بناء الكتابة أخرجت السّيرة إلى فنّ السّيرة وعاؤها المسرح.  أمّا الوتد الاوّل فاصل موسيقيّ في نهاية الفصل الأوّل. وأمّا الوتد الثّاني فأغرودة وجوديّة ينسدل عليها السّتار في الفصل الذي اقتنعت الكاتبة أنّه الأخير.

 

 

 تتحوّل الاغرودة إلى ملحمة تهامي بن نافع مرزوقي، ترنيمة تردّدها الصّبوات السّاكنة النّفوس الكبار.

 هي Le prologue   في التّقليد الفرنسيّ مقدّمة للنّصوص الأدبيّة، وفي التّقليد الإنجليزي منتهى الحبكة الدّراميّة في المزاوجة بين البعد التّاريخي الموضوعي والبعد التّخييلي الفنّي يرتفع قدّاسا خاشعا لمودّع جليل. آلته الموسيقى، جوهره الموسيقى، أقصاه الموسيقى. سمفونيّة ترتفع ولا تنخفض.

الرّجل جوهره عقل. و” نحن نساق بالطّبيعة إلى الموت ونساق بالعقل إلى الحياة” والعبارة لأبي حيّان التّوحيدي.

ما فتئ عقلا يعلّم نفيسة والكلّ عطف القلوب على الحياة. فأخرجته لحونا بآهات ونغمات شتّى. بترانيم. بترحال ورياح شتّى، بآلات وكلمّات شتّى. رفعته بالرّيشة إلى مسرح الرّيش يتلّقاه الجمهور ليكتب ما يكتب. حلبة لكائن خفّته من ثقل في التّاريخ لا يقلّ. الحياة حلبة صراع خاضها تهامي بشهامة القلب المضيء لعقل منار بنداء الحريّة والتّطوّر.

الدّقل في سفينة السّيرة “نفيسة” عالمة بما كان بالفعل وبما هو كائن بالقوّة فيما توارثته من نور السّعي بين الكتابة والمحو. صناعة تأريخيه تَدُّعُها عن حُزْن لا يليق بمؤمن بالحقّ. الحياة فتنة والموت حقّ. والكتابة فتنة الحقّ تورّث للشعوب العظيمة. «أعطني مسرحا أعطيك شعبا عظيما” قال شكسبير. نفيسة تعطي للسّيرة وعاء مسرحيّا – فيما ذهبت –  لعلّ المتقبّل يستجيب لما خفي من عظمة مطلق الإنسان يكشفها له معلّم الجمهوريّة. فانصتوا!

بناء شديد الاتقان سمت به الشّاعرة إلى الكتابة عن أبيها، لعلّه ترقّ مقصود في أن تبتدع سيرة خارقة تليق بمن هداها إلى صراط اللّغة الفرنسيّة وأسرارها. ورأى برفقتها وقلبها وعينيها ويديها ما رافقته في آخر العهد به. مؤمنة أنّه باق يرافقها المسيرة والمصير فدفعت له بهذا الأثر المجدّد في فن السّير لعلّه يستفيق من جديد.

هندسة الفصول عناوينها فيزيولوجيّة:

– الفصل الأوّل: الرّأس

– الفصل الثّاني: العينان

– الفصل الثّالث: الرّجلان

– الفصل الرّابع: سياج المنزل المرزوقي

– الفصل الخامس: ما أقرّت به الأخير: الأغرودة

تهامي بن نافع مرزوقي – رحمه اللّه – رأس لا تقبل ألاّ يكون مجموع 2+2 إلاّ 4.

 تهامي بن نافع مرزوقي عينان من حكمة حامية للكلّ من الكلّ، عينان خضروان من خضرة اللّوز. وهبه الخالق البخت مبدوء بلون العينين إذ اللّون الأخضر حسب المنظور الديّني والثّقافيّ باعث الصّفاء والامل. وهو فيما ذهب إليه عالم النّفس “أردتشام” يبعث السّعادة والبهجة هو اللّون الأخضر، لذلك هو المفضّل في غرفة العمليّات. فكان طبيبا جرّاحا يبتر ما خمل عن سنن الارتقاء.

تهامي بن نافع مرزوقي رجلان مشّاءتان من ركوب للنّجاة ودفع للحياة. من القصبة إلى حْكيم بسوق لربعا ذات نوفمبر 1942عبر مجاز الباب فسوق الخميس (بوسالم). يعود تلميذ الإعدادي، القرويّ “للبلاد ” ماشيا من مدرسة من انتخبتهم الظروف وأصول العراقة الأسريّة إلى أيقونة المنابر العلميّة “المدرسة الصّادقيّة”. يعود ماشيّا بعد ان أغلقت داره بتونس وأعني مدرسته بسبب اشتداد الحرب بين المحور والحلفاء. فصنع بنجاته وشجاعته فتوّة القبيلة قبيلة “مرازيق جندوبة” فتوّة عارفة بالصّراط الأمين. كلّ ما يصنع القرب عالجه بأمان المشي وركوب السّيارات وركوب الاماني وتقريب الأغاني وعزف بهجة المودّة والرّحمة بين تهامي وزوجته تصوّره نفيسة وفاء مرزوقي إخبارا عبقا بروائح “الحنّة والحرقوص” وزينة عروس الاربعينيّات إخبار مشابهة ومفارقة.

 الأمّ  “قبايلية”  من جندوبة، فارسها من ” المرازيق”  زُفّا على النّمط الإفرنجي : فيه ما فيه من احتفال ببهجة الجسد الواهب روح البقاء. مشى مع نفيسة كأن لم يمش حتّى حُمِلَ، مشى وطلب المعرفة حتّى ترقّى من معلّم إلى مدير جهويّ للتّعليم  الابتدائي بولاية جندوبة …

مشى بما حصّل من جدّ وعزم حتّى مات لا يتمنّى إذ كُرِّم ووُسِّم وكانت له المنزلة الجليلة موظّفا حكوميّا ومتطوّعا خادما للحاجة المكمّلة ما به يكون الإنسان حاميّا لكرامة الإنسان.

تهامي بن نافع مرزوقي سياج المنزل المرزوقيّ. ومن يخرق سياج القانون والعادة؟ وأيّ عادة؟ عاداته النّهل ممّا أمكن بالقدر الممكن. “بنى وعلّى ” في أسماء الأبناء ممّا يقرأ ويسمع  بمّن أَعْجَبَ من السياسيين العرب أو الأدباء أو ممّا استقرّ من نبإ الأنبياء … رعى ما أمكن ممّا وُهِب من زينة الدّنيا فحصد ما زرع في قلوبهم من نور وضياء .فكانوا خير الأبناء منزلة ومكانة –  كما أخبرت طاوس صديقة نفيسة أتى بها اللّقاء دون أن تكون نفيسة وسيطة اللّقاء – مضى بهم إلى خير المصير. فهيّأ وهو سيااج البيت الأمين من عمارة وطلاء تذكره الشّاعرة في تدقيق. البيت هو وهي .هو. فلها كلّ التّفاصيل حتّى شبّت الرّعدة في الجدران بخروج النعش حاملا الطّريق إلى الطّريق القرير.

هذه فصول المسرحيّة الحقّ. مسرحيّة طفل التّسع سنوات يساوره الحظّ بقدرة مستوطن فرنسي ببوفيشة. إذ ساق النّزوح الجدّ نافع وزوجته زينة ذات الأصول الجزائريّة وابنيه تهامي وعبد المالك إلى هناك. ساقه حارسا للمستوطن وما استوطن. تهامي يلعب بالحساب الذّهني لعبا. أعاده من قدّر ما به من “عبقريّة” و “نباهة” إلى المدرسة بأمر فاقترب المُحال.

 تهامي من ورع في حفظ السّتين حزبا بالمدرسة وأخوه بالمدرسة الفرنسيّة العربيّة 1936بسوق لِرْبْعا … وضحك الحظ. الحارس ببوفيشة صبايحي بسوق لربعا. ثمّ تُحَدِّثْ نفيسة. أنْصِتْ لِتَعْتَبِرْ. – اللّهم لا حسد –

مسرحيّة للتّوجيه والإرشاد والاعتبار. والمسرح عند الغربيين أصل التّثقيف والتّأديب ،ومنبع الفضائل ومحاسن الأخلاق. وهو عندهم توأم الجرائد والقصص والسّير. تعرض الابنة من تاريخ أبيها وتاريخ تونس وتاريخ المدرسة الصّادقيّة وتاريخ المربّين ما يغرس الفضيلة في نفوس القرّائين.

 تروي بمواثيق تاريخ الظّفر بالمرغوب. فلك يا منازل في القلوب منازل. على حدّ قول المتنبي صاحب الحقّ استردّ الحقّ فتداعت النّجلة حنينا وأنينا.

 قلب مسرح الإرشاد إنشادا صوفيّا يتطلّب الشّجن. شيخ الثّمانين، سيدي، لا يمحو ولا يكتب، لا يسمع ولا يرتّل، لا يحدّث ولا يتحدّث، يترك ما يحدّث عنه المدرسة والمدرسة و المدرسة.

كلّها مدارس وبمقدار. معلّم الصّبيان والبنات، معلّم الصّغار والكبار، معلّم المعلّم، معلّم الجمهوريّة. مناضل. ناضل ومحا ما اقتدر شرّ النّفس والبشر. شرّ الجهل والتّسليم، شرّ السّذاجة والتّسليم. تهامي لا يكتب نفيسة تكتب. فيشتدّ الوتر وتشدّ الوتد. الفاصلة والأغرودة.

فاصلة واصلة للحنين مقرونة ب TT تمام إنشاء الكتابة، من تدرّب على الحرف ساكنا أيّ سكن فيما بقي من تحدّي المحن. المحفظة الخضراء والقلب المعطاء.

 من المكتب ؛ الطباشير يكتب والكلّ خلف المكاتب يستكتب، الإصبع يرفع ويخفض والعقل يجمع ويقسم، إمّا حسن وإمّا لا، تمهّلْ، فكّرْ. غادرْ ولا تصْخَبْ … عاداتُ للمعلّم عشقٌ لا ينْضُبْ… نفيسة وفاء مرزوقي لا تعتَبْ تذكِّرْ، السّماء تتمدّد من حليب أبجديتك. صانع أبجديّة تهامي، رافع أميّة وفي البدء كانت الكلمة وكانت الرّضاعة أولى أبجديّات الحياة!

نار الحنين وقّادة والموت لهّاب، ولنفيسة نَفَسٌ مطواع! لا ترثي الأب فمناقبه باقيّة وهي الشّاهدة. نفيسة تحترق بالحديث وتهيّج النّواح في الأركان. فاشهدوا الملهاة المأساة. باب التّوتير الدّرامي فيما فكّرت وأخلصت. هناك قبل الخلود تحدّث حديثا قد يستحيل. أحقّا صاحب الحمل بها جفاء؟ أحقّا كان ما أبدت الجدّة زينة؟

وليكن. هناك تهامي في حياء بشري لا تقلق ولا تضجر.. نفيسة انطقت الصّخر ليشهد أنّها البّارة على الدّوام. دوّامة بعدك الحياة.

هناك في ملكوتك الأخضر الواسع الأرجاء. اهنَأْ في أمان . بأجراس العودة تهبك نفيسة الاطمئنان.

في السّيرة اطمئنان للفنّ والتّاريخ. صِيغَ بنسق غير خطّي. يعكس فنون إعادة الكتابة بجهد ورأي، بوجع وانتظار. لا زالت باقيّة هناك تعلِّمُ مما علِمَتْ.

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *