الكاتب والناقد فخري صالح مترجم كتاب “موت الناقد”: ثمّة فوضى عارمة في الحقل النقدي العربي

*حاورته/ نـوّارة لحـرش

في هذا الحوار، يتحدث الكاتب والناقد والمترجم الأردني فخري صالح، عن كتاب “موت الناقد” للمؤلف البريطاني رونان ماكدونالد، الذي صدر عن دار العين والمركز القومي للترجمة في القاهرة، والذي قام بترجمته من الإنجليزية إلى العربية، كما يتحدث عن إشكالات ذات صلة بالناقد والنقد والتي تطرق لها المؤلف رونان، وهي تمس في جوانب كثيرة منها، واقع النقد العربي الذي يرى المترجم أنه أكثر تعقيدًا. ليس بسبب غياب حكم القيمة فقط، بل في انهيار التعليم الأكاديمي، وغلبة التعليم الكمّي على الكيفيّ.

كما يتناول في حواره هذا، أطروحات “ماكدونالد”، ويذهب إلى القول بأنّ المخاوف التي يطرحها مؤلف “موت الناقد” بخصوص غياب دور الناقد، أو “موته المجازي”، يبالغ قليلاً في ذلك ليدقّ ناقوس الخطر. وفي ذات الوقت يعترف: “تأملات ماكدونالد واستنتاجاته لحضور الناقد وأفولِ نجمه فيما بعد في الثقافة البريطانية، متقاطعةً مع تأملاتي الشخصية وما كتبته عن النقد العربي والأزمة التي تمر بها الثقافة النقدية في العالم العربي”. كما يقر من جهة أخرى بأنّ ماكدونالد مهتمٌ بضرورة استعادة الناقد لدوره في المجال العام، وفي الفضاء الإعلامي والأكاديمي. كما يخوض الناقد فخري صالح في مسائل أخرى احتواها كِتاب رونان، منها تخوف هذا الأخير من تلاشي المؤسسة النقدية، وحلول نوع من الكتابات السريعة، التي تعتمد على الذائقة لا المعرفة، محل الكتابة التي تضيء النصوص والكتابات.

كتاب “موت الناقد” لرونان ماكدونالد والّذي ترجمته من الإنجليزية إلى العربية. ما الذي حفزك على ترجمة هذا الكتاب تحديدا، وهل ثمّة في أحوال النقد العربي من الأسباب ما جعلك تقوم بترجمة الكتاب؟

فخري صالح: بلى، كتاب “موت الناقد” هو نوعٌ من القراءة الخاصة بالنقد والنظرية في السياق الثقافي الأنجلو ساكسوني يمكن تعميمها على سياقات وعوالم ثقافية أخرى. لقد بدت لي تأملات ماكدونالد واستنتاجاته لحضور الناقد، وأفولِ نجمه فيما بعد، في الثقافة البريطانية، وإلى حدّ ما في الثقافة الأمريكية، متقاطعةً مع تأملاتي الشخصية وما كتبته من مقالات عن النقد العربي والأزمة التي تمر بها الثقافة النقدية في العالم العربي. إن ما يقوله عن اضمحلال حضور الناقد في الثقافة الغربية يصدق تمامًا على حال الناقد العربي الآن. ينبع ذلك، من وجهة نظري، من كوننا نعيش عصر تدفق المعلومات عبر شبكة الإنترنت وانهيار الحدود بين الحقول المعرفية المتخصصة، وشيوع ظاهرة التسليع في حياة البشر.

الوجه الآخر من وجوه الأهمية التي يكتسبها “موت الناقد” أنه يقدم تلخيصًا دقيقًا لتحولات النظرية النقدية في الغرب، في الوقت الذي يدعو إلى عودة نظرية القيمة “وحكم القيمة وعملية التقويم” إلى المجال النقدي، وعدم الاكتفاء بالقول “إن الجمال في عين الرائي”، بحيث تتساوى الآراء ويتحول كلّ قارئ إلى ناقد، مهما تدنّت معرفته الأدبية والنقدية والنظرية.

الكِتاب سرد فيه المؤلف تخوفه من تلاشي المؤسسة النقدية، وحلول نوع من الكتابات السريعة، التي تعتمد على الذائقة لا المعرفة، محل الكتابة التي تضيء النصوص والكتابات. إلى أي حد ترى أنّ هذه المخاوف في محلها حقا؟

فخري صالح: كما أشرتُ في إجابتي على السؤال الأوّل، فإنّ ماكدونالد مهتمٌ بضرورة استعادة الناقد لدوره في المجال العام، وفي الفضاء الإعلامي والأكاديمي، كما كان يفعل في النصف الأول من القرن العشرين. وهو يرى أن الناقد هو أوّل الذين عملوا على التقليل من دوره في المجال العام، حين رضي بالتواري في صومعته الأكاديمية أولا، ثم من خلال عزل الأدب عن المجتمع بجعل النص الأدبي يكتفي بذاته مقيمًا في شرنقته الداخلية. حدث ذلك مع تنظيرات الشاعر والناقد البريطاني -الأميركي ت. س. إليوت، والناقد الكندي نورثروب فراي، وصولاً إلى البنيوية وما بعد البنيوية وانتهاءً بالنقد الثقافي. فكلُّ هذه التنظيرات تعاملت مع الأدب بوصفه إما منتجًا جماليًّا مكتفيًا بذاته “كما في البنيوية ونسلها”، أو بوصفه وسيلةً لشرح العمليات السياسية الاجتماعية “كما في الدراسات الثقافية”. في هذه التصوّرات النظرية وعمليات تعريف معنى الأدب، وتحديد مجاله الخصوصي أو العمومي، يختفي الأدب ويفقد خصوصيته وتواصله مع الفضاء السياسي/ الاجتماعي الذي يُنتَج ضمنه.

أمّا فيما يتعلق بالمخاوف التي يطرحها المؤلف بخصوص غياب دور الناقد، أو “موته المجازي”، فأظن أنّه يبالغ قليلاً في ذلك ليدقّ ناقوس الخطر. إن “موت الناقد” يحيل على “موت المؤلف” الذي أعلنه منذ ما يزيد على نصف القرن الناقد الفرنسي رولان بارت. كلا الموتين مجازيّ، ويعبّر عن تحول في التصورات النظرية ولموقع كلّ من المؤلف والناقد في النسق المعرفي والثقافي لزمانه.

الكِتاب يقول أيضا: “إنّ دور الناقد الأكاديمي القائم على حكم القيمة، قد تراجع وتضاءل تأثيره وضعفت صلته بجماهير القراء في ظل مد النقد الثقافي، الّذي يتصدر المشهد النقدي في المؤسسة الأكاديمية البريطانية والأمريكية”. فهل حقا دور الناقد الأكاديمي العربي أيضا، القائم على حكم القيمة تراجع وتضاءل تأثيره بسبب مد النقد الثقافي، وهل أصبح هذا الأخير هو السائد والمتصدر في المشهد النقدي الراهن؟

فخري صالح: المشكلة في النقد العربي أكثر تعقيدًا. لا تقيم المسألة في غياب حكم القيمة فقط، بل في انهيار التعليم الأكاديمي، وغلبة التعليم الكمّي على الكيفيّ، ما ينتج أعدادًا هائلة من أنصاف المتعلمين الذين يحملون شهادات ويُدرّسون في الجامعات ويرددون كالببغاوات ما يقرؤون في الترجمات العربية الضعيفة للكتب النقدية الصادرة بالفرنسية والإنجليزية. إن بعض من كتبوا عن النقد الثقافي، أو ألفّوا كتبًا “مرجعيّة” عنه، لا يفقهون معنى النقد الثقافي ولا يحسنون ترجمة مصطلحاته، أو التمييز بين مدارسه وتياراته المختلفة. والشيء نفسه يصدق على من كتبوا عن البنيوية أو ما بعد البنيوية أو نقد ما بعد الاستعمار. ثمّة فوضى عارمة في الحقل النقدي العربي، وكلُّ من يحمل إجازة في الأدب يصبح ناقدًا. نحن نعيش زمان غياب المعايير.

كأنّ كِتاب “موت الناقد”، لرونان ماكدونالد، جاء ليدعم مقالة “موت المؤلف” للناقد والأكاديمي، رولان بارت، وليقول أيضا، إنّ موت الناقد، نتيجة حتمية لموت المؤلف. ما رأيك؟

فخري صالح: لا المسألة مختلفة بالنسبة للاثنين. مقالة بارت ركّزت على تحوّل مثلث العلاقة بين النص/المؤلف/القارئ، حيث يرى بارت أن المؤلف أخلى موقعه للنص. وأنتِ تعرفين أن النصّ فيما بعد، أي في نظريات القارئ والاستقبال، أخلى موقعه للقارئ. هكذا تتغيّر مواضع التشديد لأسباب عديدة. أما “موت الناقد” بالنسبة لماكدونالد فيعلن غيابه واضمحلال دوره. “الموتان”، كما قلت، مجازيّان، يتقاطعان في بعض من رؤاهما، لكن رؤية بارت تبدو أقوى نظريًّا وأقلّ تركيزًا على البعد العمليّ والذرائعي الذي يبدو مهيمنًا في كتاب ماكدونالد.

كيف هو وضع النقد العربي اليوم؟، وهل ترى أنّ ما جاء في كِتاب الناقد البريطاني ينعكس على واقع النقد العربي؟

فخري صالح: يصعب أن أجيب في عجالة عن حال النقد العربي الآن. ثمّة أمراض كثيرة تدبّ في أوصال هذا النقد، وفوضى تعيث في جنبات بيت النقد العربي: على رأسها الببغاويّة، وغياب الشخصيّة النقديّة، والتلخيص المسفّ لما يقوله الآخرون في الغرب، حتى لو كان كلام هؤلاء بلا معنى أو قيمة. ثمّة جهلّ وعدم معرفة بقواعد القراءة السليمة للنصوص، ومن ضمنها اللغة وخصائصها (نحويًّا وصرفيًّا وبلاغيًّا.. إلخ). وهو ما ينعكس على ما نقرؤه في الصحف وفي المجلات الأكاديمية وغير الأكاديمية من كتابات يسميها أصحابها “نقدًا”.

أما بخصوص صحة تطابق استنتاجات ماكدونالد على واقع النقد العربي، فكما قلت لكِ سابقًا، فإنّنا نعيش عصرا معرفيًا تكنولوجيًا واحدًا تقريبًا، مع الاختلاف في المستوى، فهم ينتجون المعرفة ونحن نستهلكها، لكن على نحوٍ رديء في معظم الأحيان.

ألا ترى، أنّ النقد في العالم العربي, يعاني أيضا من أزمة منهج ونظريات ومصطلحات؟

فخري صالح: أوافقكِ تمامًا على هذا التصوّر. نحن نستورد النظريات والمناهج. وللأسف نطبّقها بصورة رديئة، ولا أقول صحيحة، لأن النظرية عندما ترتحل تتغيّر وتتحوّل وتتخذ شخصيةً مختلفة عنها في ثقافتها الأصلية، فالمستورد يطوّعها لحاجاته واستعمالاته. أما في النقد العربي، فما نراه هو فوضى في المصطلحات والمناهج، وترجمات رديئة لكتب أساسية في النقد الذي ينتجه نقادٌ كبارٌ في العالم. لكن حتى لا أبدو متشائمًا، فإن هناك نقادًا عربًا في مغرب العالم العربي ومشرقه، ينتجون أعمالاً نقدية ذات قيمة حقيقية، وهم يعرفون النظريات الغربية ويدركون مشكلاتها والجوانب المثرية المنتجة فيها في الوقت نفسه.

أيضا، ألا ترى أنّ الاتجاهات النقدية الحديثة، أدخلته في متاهات كثيرة وأربكته من ناحية مستوى الأداء؟

فخري صالح: هذا ما حاولت أن أقوله في الأجوبة السابقة. نحن نعيش بابل النظريات والمناهج في العالم العربي. إنّ الوضع في النقد شبيه بالوضع في عالم السياسة والمجتمع. هناك فوضى وتخبّط وسيرٌ على غير هدى. يحتاج العرب مشروعًا وأفقًا حضاريًّا حتى يبدعوا في النقد وغيره.

من جهة أخرى، هل “النقد التنويري” مازال بشكل ما يحافظ على وهجه وسلطته، أم فقد مقوماته ومكانته؟

فخري صالح: لا أعرف تمامًا ما هو المقصود بالنقد التنويريّ. هناك فكرٌ وأفق معرفيّ ينتمي إلى فكر التنوير الأوروبي. أمّا لحظة التنوير الحضاريّة في العالم العربي فمازالت غائبة، أو أنّها على الأقل مرتقبة ومأمولة. هل يمكنكِ أن تتحدثي الآن عن التنوير، والنقد التنويري، في زمن تقطع فيه داعش الرؤوس وتهدم المعابد وتدمّر الآثار وتحرق البشر؟ نحن نعيش ظلامًا عميمًا، أسأل الله أن ينجيّنا منه.

برأيك، ما هي الأسباب التي جعلت الناقد الأكاديمي ينسحب في صمت، تاركا الساحة الأدبية لتيارات نقدية أخرى، سطحية وانطباعية وذائقية وغيرها؟

فخري صالح: النقد الأكاديمي لم ينسحب من المشهد. إنّه جزءٌ من مشهد العطالة الثقافية والفكرية. إنّ أمراض ما يُسمى “النقد الأكاديمي” أكثر استفحالاً وصعوبة علاج من غيره من التيارات النقدية التي توجد في فضاءات أخرى غير فضاء الجامعة. ولا يمكن لهذا النقد أن يثري الواقع الثقافي دون عودة الجامعة إلى دورها الاجتماعي والثقافي القويّ في الفضاء المجتمعيّ.

ما هي مهمة الناقد العربي الآن؟

فخري صالح: مهمّة الناقد العربي هي أن يتعلّم درسه بصورة جيدة. أن يعدّ نفسه ثقافيًّا ومعرفيّا قبل أن يبدأ الكتابة والنشر. مهمّته أيضًا تتمثّل في أن ينتزع نفسه من سحر الآخر، ويتعامل مع النظريات والمناهج التي ينتجها الغرب بوصفها إمكانات وتصوّرات للعالم يمكن قبولها أو رفضها، تطبيقها كما هي أو تعديلها، لا بوصفها مقدّسًا لا يجب المساس به، بل التعبّد له كصنم.

__________

*المصدر/ جريدة النصر الجزائرية

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *