عن البعوض وعيشة الكلاب

*منصف الوهايبي

لا أحد يعلم علمَ اليقين سببَ خراب تلك المدينة، ولكن يُقال إنها ماتت مختنقة تحت أكوام الزبالة، ويُقال إن جيوشا جرارة من البعوض، حجبت الشمس في عز النهار، قد هاجمتها حتى غطت عليها، فما زالت تمص وتشفط دَمَ الخلق، ولم تفك عنهم، إلا وهم مثل أعجاز نخل خاوية.
وتقول بعض الألسن إن سكان القبور أيضا، ضاقت أنفاسهم، فحملوا أكفانهم وغادروا قبورهم. ويُقال إن تلك الجحافل من الناموس جاءت غازيةً من أصقاع بعيدة، فرئيس البلدية وقتها، يُقْسم بأغلظ الأيمان أنه طهر المنطقة من كل رجس، وأن العدو خارجي نازح، لا طاقة له عليه. ويُقال أيضا، إن رئيس البلدية، لما رأى ما آلت إليه مدينته، أفرغ كأسه في جوفه، ولا أحد يدري ما كان في الكأس. والبعوض أو الناموس، ذكرٌ وأنثى، فأما الذكر فيعيش على عصارة النبات ورحيق الأزهار، وهو ألوف، كحال كل ذكر، لا يكاد يغادر المستنقع الذي رأى فيه النور، أما الأنثى فتعيش على الدم، وهو لازم لبيضها، لا غنًى عنه، وهي حشرة رحالة، كحال كل أنثى، لا تستقر في مكان، فقد تطير أو تحملها الرياح مئة كيلومتر عن موطنها الأصلي، فتضرب حيث تحط، ولذلك، قد يكون الناموس الذي هاجم القيروان جاءها غازيا من مدينة أخرى، ولا نستطيع أن نُجزم في الأمر، فلا أحد يدري كيف كانت الريح تنفخ حينها، شرقية أم غربية؟ ويحتاج بيض البعوض إلى الرطوبة حتى يفقس، ولكن، لا تضعُ كل الإناث بيضها في الماء، فبعوض مياه الفيضان يضع بيضه في التربة الرطبة في السهول الفيضية، وفي مواقع الري وفي البِرَك التي جفت، فإذا غمر الماء تلك الأماكن، فقس البيض، ولو بعد عام، كما نرى على أيامنا هذه، في بلادنا هذه، حيث يفقس الجهل والمرض والوسخ، وقد خِلْناها لا تفقس بعد كل تلك السنين.. والحقيقة أن حساب الزمن لا يستوي عند كل الخلق، فهو بُعْدٌ وهمي، غير حقيقي، يختلف باختلاف الكائنات، ذلك أنه يرتبط بالقيمة الحقيقية للشيء الذي نستطيع أن ننجزه خلال فترة معينة. ماذا يستطيع المرء أن ينجز في ثانية واحدة؟ تقريبا، لا شيء، إلا أن يرمش بجفونه أربع مرات في أفضل الحالات. وماذا تستطيع البعوضة أن تفعل في ثانية واحدة؟ تستطيع أن ترف بجناحيها ستمائة مرة، أي مائة وخمسين مرة ضِعف ما يفعله المرء، ولأن الوقت عند البعوضة لا يساوي الوقت نفسه عند الإنسان، خسر رئيس بلدية القيروان معركته مع الناموس، وقد كان غافلا عن تلك الحكمة. والبعوضة التي تعيش شهرين اثنين بحساب البشر، إنما تعيش في الواقع شهرين ضارب 150 مرة أي ثلاثمئة شهر، أي خمسة وعشرين سنة. أما المرء الذي يعيش سبعين سنة بحسابه (840 شهرا)، فإنه يعيش في الواقع، وبحساب الناموس 840 شهرا قاسم 150، أي بالكاد خمسة أشهر ونصف الشهر، وهذا عمر قصير، قصير جدا، لا يستطيع السيد رئيس البلدية أن ينجز فيه شيئا كثيرا، أو حتى قليلا.
٭ ٭ ٭

في «ذراع التمار» كان يستقبلنا أول ما يستقبلنا نباح الكلاب. والنباح في الريف أصناف وفنون، فهناك الكلب الذي ينبح بدون سبب أو هو يمرن حباله الصوتية حتى لا تخذله ساعة الجد. وهناك الكلب الذي يسمع كلاب الجيران تنبح أو تستنبح فينبح. وهناك الكلب الذي ينبح كلما مرت غيمة فيظل يطاردها حتى تختفي متوهما أو موهما نفسه أنها لاذت بالفرار. وهناك الكلب الذي ينبح وينبح عله يوهم صاحبه بأنه حارس أمين مهيب الجانب، فإذا داهمه الخطب ولى الأدبار لا يلوي على شيء.
وهناك الكلاب التي لا تنبح أبدا، وتلك أخطرها وأشدها فتكا. وهناك من لا تستـنبحه إلا جارة أو امرأة غريبة، وقد لا يُنابح ربة بيته أبدا.
٭ ٭ ٭
القيروانية أمينة «فيمن» تم تكريمها في مهرجان قرطاج السينمائي هذه الأيام، بعد أن شاركت في فيلم عن «المثلية الجنسية»، وقد أثار تكريمها ما أثار في مواقع التواصل الاجتماعي من ردود متباينة. كانت هذه الفتاة قد عرّت صدرها في ثورات «الربيع العربي» مثل أخريات عربيات وأجنبيات. تذكرت كيف كان نفر من شباب أنصار الشريعة، يجرون وراءها مثل كلاب مسعورة، بعد أن كتبت شعار منظمة «فِيمن» على جدار مقبرة أولاد فرحان في القيروان. كان ذلك يوم الأحد 18 مايو/أيار 2013 . تخيلتهم وقد أمسكوا بها. وقلت لا شك في أنهم كانوا سيمزقون ثيابها ويعرونها تماما. هي بنت التاسعة عشرة، بل لأحاطوا بها مثلما تحيط الكلاب بكلبة «سارف». وكنت أستغرب ما يرويه أهل البادية من أن الكلبة عندما»تسرف» أو تهيج، تٌربط في الغابة لكي تلقح منها الذئاب.
٭ ٭ ٭
كانت زوجته تقول له: «لا بد لنا من كلب يحرس البيت»، وكان يكره في الحيوان الكلابَ والقطط والعصافيرَ الحبيسة في الأقفاص، ولكنه نزل عند رغبتها، وأخذ كلبا شاردا، حممه وعطره، وهو يبرر فعلته: «على الأقل، أربح فيه ثوابا وأجرا»، واكتشف بعد فوات الوقت أن الكلب كان في واقع الأمر كلبة، وإذا هي، سريعا، ما تَأْلَف كل من يمسح عليها، وتلك خصلة مذمومة في كلاب الحراسة، وتغاضى، وقد صارت رفيقه في عزلته، لا تنبح أبدا، حتى حسبها خرساء بكماء صماء، وماذا يكون الكلب إذا لم ينبح؟ أو القط إذا لم يَمُوء؟ْ ولكنها كانت آية في الذكاء والفطنة وحسن التربية، فقد أطل عليه شهر رمضان، والطقس حر، فعافت الطعام والماء، وصامت كما صام أهل البيت، ولم يكن يحسب أن للحيوان دينا، حتى فتح صهره، وهو طالب يافع، بصيرته على أمور كان يجهلها: «يا أخي ليس هناك كائن لا دين له! هناك الحيوان المؤمن، والحيوان الكافر، كما هناك النبات المؤمن والنبات الكافر».
٭ ٭ ٭
كان هناك كلب «طيب» من تلك الكلاب، يعيش في قرية صغيرة، ويؤدي واجبه الكلبي المنوط به على أحسن ما يرام: حراسة المنازل من اللصوص، ومراقبة الأطفال عند عودتهم من المدرسة، حتى لا يتحرش بهم كلب شرس أو شخص غريب. كان ينبح صباحَ مَسَاء، ولكن بانتظام. ومات هذا الكلب بعد أعوام طوال من العمل «النباحي» المضني، فأدخل الجنة. لكن ما أن استقر به المقام فيها، حتى ملأها نباحا قض مضاجع سكانها الهانئين، فناداه الملاك المكلف بحفظ النظام وسأله:
ـ لم تنبح أيها الكلب وأنت في الجنة؟
قال الكلب:
ـ أنا لا أحب الجنة! لا عمل لي هنا سوى الأكل والشرب.. أنا أحب الأرض. رجاء أعدني إليها أيها الملاك الطيب.
وأخذ يبصبص بذنبه (أو يتبصبص كما يزعم لسان العرب) ويتمسح بالملاك، فرق له، وأمسك بذيله، وأخذ يديره في يده، ثم رمى به إلى الأرض، فوقع في باريس، فملأها منذ ليلته الأولى نباحا كونيا قض مضجع الفرنسي الشاعر دومينيك دو فيلبان، ولعله استغرب كيف هرب هذا الكلب من كتب الحيوان أو ذهب في ظنه أن صاحبه لم يقيده بحبل لغوي متين. ونادى الملاك على الكلب، من أعلى علييـن:
ـ كيف تنبح أيها الكلب وأنت في باريس عاصمة النور!؟
قال الكلب:
ـ هذه جنة أخرى! وأنا لا أحب الجنة.. أو لأقل إني كلب بن كلب.. لم أتعود على حياة الجنة. فرفعه الملاك إلى السماء، وأمسك به من ذيله وأخذ يديره كالمقلاع، ثم رمى به، فوقع في لندن قريبا من بيت توني بلير. فملأ المدينة نباحا كونيا لم يقض مضجع المستر توني، إذ هو يعاني أرقا فظيعا بسبب ورطته العراقية. ولكنه استغرب أن ينبح كلب هذا النباح المزعج، في ليل لندن الرمادي كجلد الحمار، فيما عرفت الكلاب الإنكليزية بـ»دمها البارد» وهي التي لا تنبح إلا بمقدار أو في الحالات القصوى.
ونادى الملاك على كلبنا من سمائه:
ـ كيف تنبح أيها الكلب وأنت في لندن قبلة العرب ومنفى المعارضين؟
قال الكلب:
ـ لندن هذه جنة أخرى، وهل عليّ أن أذكرك كل مرة بأنني لا أحب الجنة؟
وأخذ الملاك يرمي به في مدن أوروبية وأخرى أمريكية، والكلب ابن الكلب لا يكف عن النباح (مع الإشارة إلى أن هذه العبارة ليست شتيمة، فهي نسبة لا غير، فوالد الكلب كلب). حتى إذا أعياه أمره، رمى به في الشمال الإفريقي، فوقع في القيروان. ومرت أيام وليال، والكلب لا ينبح. واستغرب الملاك الأمر فناداه من أعلى عليين:
ـ قل يا ابن الكلب! هل أعجبتك الحياة في القيروان؟
فقال الكلب، بلسان تونسي فصيح:
ـ مرسي! مرسي بوكو! مون آنج! ثانكيو فري ماتش.. هذي عـيـشة الكلاب ولا بـلاش..
________
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *