عن التدريب مرة أخرى

*أمير تاج السر

عن مقال لي كنت كتبته عن ورش تعليم القراءة، وإن كانت مسألة مجدية فعلا، مثل ورش التدريب على الكتابة، أم مجرد عمل تجاري لا يقدم أو يؤخر، كتب لي أحد القراء بأنه لا يؤمن حتى بورش الكتابة، ولن يصدق أبدا أن هناك قصيدة أو رواية أو قصة، ممتعة وذات مغزى، يمكن أن تكون خرجت من تلك الورش، وأن الأمر هنا أيضا تضييع للوقت، وفتح نافذة للحلم لدى البعض، ينظرون من خلالها، لكن لن تكون الإطلالة كاملة أبدا.
أيضا كتبت إحدى المتابعات أنها التحقت لمجرد التجربة، بورشة لكتابة الرواية، انسياقا وراء ما قرأته من دعاية حول تلك الورشة، واستمعت إلى كلام كثير عن أشكال الرواية ومضامينها، وكيفية تجميع الأفكار وكتابتها، وأيضا رسم الشخصيات، مع خطواتها التي تتحرك بها، وخطواتها التي تخمد بها، وجلست بعد ذلك أياما تريد أن تكتب حرفا، ولم تستطع. وكنت قرأت رأيا لأحد النقاد يقول فيه، إن الشخص الذي يلتحق بمثل هذه الورش، يمكن بمساعدة مشرفيها والموجودين معه فيها أن يكتب نصا أولا قد يكون ناجحا، لكن الأمر لن يتعدى النص الواحد، وسيجلس الشخص بقية عمره يبحث عن طريقة للكتابة مرة أخرى ولن يستطيع.
الحقيقة هذه كلها آراء محبطة في مسألة تعلم الكتابة الإبداعية، إما أنها نتجت عن فشل تجارب محددة للبعض، أو عن تطرف حيال قضية يعتبرها البعض محسومة سلفا، وأعني قضية الموهبة وما قد تجود به من خير على الموهوب، فهناك من يعتقد بالفعل أن الموهبة هي المحرك الأول لكل خطوة في طريق الإبداع، أي إبداع، سواء كان كتابة أو رسما أو لعبا لكرة القدم، أو حتى شقاوة أطفال، وما يأتي بعد ذلك من تدريب هو استزادة لوزن الموهبة وتسمينها، ولكن لن يكون أبدا هيكلا عظميا جديدا. بمعنى أن الملتحق بالورشة هنا، يتعرف إلى تقنيات جديدة، ومفاهيم جديدة، وقد يلتقط أفكارا كانت غائبة عنه، ويضيفها لما هو موجود أصلا في ذهنه ويعمل بإدهاش بعد ذلك، وهنا لن نقول بأن المشرف على الورشة قد علمه شيئا، ولكن لفت نظره إلى تلك الأشياء، ولا شيء آخر.
أعتقد أن المسألة تحتاج لتوضيح أو إبداء وجهة نظر أخرى في الموضوع، خاصة للذين عملوا مشرفين لورش الكتابة لسنوات، ومرت أمامهم التجارب بحلوها ومرها، وشاهدوا نتاجا جيدا وآخر غير جيد، لمن كانوا يداومون بدأب على ورش التدريب تلك، ولأكون دقيقا لا بد من ذكر الموهبة هنا، وأنها بالفعل موجودة عند البعض وغير موجودة عند البعض الآخر، ولكن تأتي مسألة الرغبة لتوازي الموهبة عند من يفتقدونها، وتشكل عمودا فقريا، يمكن كساؤه بالأفكار عند حضور ورشة ما، فالشخص الذي يرغب بشدة في رسم لوحة، ويتعرف إلى الألوان بأنواعها، وطريقة تثبيتها، وخامات القماش أو الخشب التي يمكن النقش عليها، ويغشى المعارض ويجادل الرسامين، يمكن بكل سهولة أن يرسم لوحة، لو عثر على يد حانية تمسك برغبته، وتضعها في طريق الرسم، والذي يقرأ الروايات ويناقشها مع الآخرين، ويحضر ندواتها، ويوجد باستمرار في معارض الكتب، سيكتب روايته الناجحة حين يعثر على من يسانده، فهو محرض أصلا، ولا ينقصه سوى توجيه التحريض.
وحتى بالنسبة لتعلم الحرف أو المهن التي سيزاولها الفرد مستقبلا، يمكن أن تلعب فيه الرغبة الأكيدة دورا كبيرا، على الرغم من أن التعليم بعيد طبعا عن سكة الإبداع، لكن أؤكد أن الإمساك بمهنة ما منذ الصغر، والنظر إليها كحلم من الواجب تحقيقه، ومطاردة كل ما يخصها، سيجعلها مهنة في المستقبل.
كان معنا في المرحلة الابتدائية ولد مهووس بمهنة الطب بدرجة غريبة.. كان يذهب إلى المستشفيات بكثرة، يتسلل إلى مرور الأطباء على المرضى، وقد يشارك في إسعاف البعض، أيضا كان يحفظ تلك اللافتات الممتلئة بالتأهيل للأطباء، المنتشرة في شارع المستشفى، ويعرف أنواع الشهادات، وكيفية الحصول عليها، ويبهرنا كثيرا، وأيضا يبهر بعض الأطباء ممن يتناقشون معه، وأوشك بالفعل على دخول كلية الطب حين حصل على مجموع يؤهله لذلك، لكنه رحل مع الأسف بمرض مفاجئ، وأظنه كان سيصبح طبيبا ناجحا جدا بسببب تلك الحمى التي كانت تمسك به ويمسك بها أكثر.
أعود لمسألة الكتابة الإبداعية، وأؤكد بما اكتسبته من خبرة في الإشراف على الورش، أن المسألة ليست معقدة ولا تحتاج لجدال كبير، ويمكن تبسيطها في أن هناك موهوبين، وأن هناك راغبين يعادلون الموهوبين، سيمسكون بما يأتيهم من أفكار وينجحون في كتابة نصوص داخل الورشة وبعدها أيضا، وهناك منساقون وراء فكرة الحصول على جائزة من تلك الجوائز الأدبية التي انتشرت مؤخرا، وتغازل الجميع بلا استثناء، ويأتون لورش التدريب وراء حلم أنهم سيتعلمون شيئا وسيحصلون على جائزة، تحقق لهم بعض ما يريدونه، خاصة أن فرص تحقيق الأحلام، أصبحت ضيقة جدا في زمن حتى الأحلام الراسخة، يمكن أن تضيع فيه. سنجد كثيرين من هؤلاء المنساقين حول الحلم، يراسلون الكتاب والنقاد، والصحف والمجلات، ويرهقون لجان التحكيم في المسابقات بنصوص لن ترتقي أبدا لتوصف نصوصا، وأقول بكل صراحة إنني أتلقى كثيرا رسائل من أشخاص يقولون بأنهم لم يقرأوا أبدا من قبل ولا يعرفون القراءة ولا الكتابة الإبداعية، لكنهم يريدون المساعدة من أجل كتابة نص سيحصل على جائزة لا بد. وبالطبع لا توجد حلول لمن لا يملك الموهبة، أو الرغبة المهووسة التي تجعله يلم بمعالم الدرب قبل أن يسلكه.
الآن توجد حصص تعليم عادية للإبداع، في كثير من الجامعات، يتعلم فيها الطلاب بتلقائية شديدة، وتوجد ورش كتابة ممتدة ربما لعام أو عامين، يلتحق بها الكتاب، ويحتكون ببعضهم ويتعلمون أكثر، وتوجد كثير من المشاريع الشبابية للارتقاء بالكتابة، وكلها في النهاية تنجح بما يبذل فيها من مجهودات.
لن نقول بأن ورش التعليم غير مجدية لأن هناك من لم يستفد منها، ولن نقول بأنها حل متوهج، لأن هناك من خاضها، ونجح فيها بجدارة.
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *