افونسو كروش .. عالم تحكمه الأرقام

خاص- ثقافات

*عبد اللطيف حسن

قل أن تجد عملا محكماً وموجزاً ورائعا وساخراً ، مثل رواية هيا نشتر شاعراً لافونسو كروش بداعة هذه الرواية ليس فقط في الموقف النقدي والتنديدي الذي تتبناه من الحياة المفترسة والضارية التي نعيشها وسخريتها المرة من رسملة كل شي في عصر تسيطر عليه الأرقام وتحكمه الميديا والجشع والتهتك في كل شيء .. او عصر السقوط
تدخل المنفعة والترقيم ، في نسيج العلاقات ،في التعامل والرغبات .كل شيء مرقم ومعدود بدقة ،كل شيء يدار كأن الحياة بناية مليئة بالشركات التي تستثمر في العواطف والرغبات والميول.. كل شيء يمكن شراؤه وبيعه كل شيء يخضع لمنطق الربح والخسارة التكميم وحسابات السوق إذ تبدو الحياة بكل مكوناتها بورصة كبيرة يتم فيها تبادل وبيع كل شيء وعرضه
..(يقولون من المفيد التعامل بمودة مع الآخرين, وربط صلة بين الأشخاص لتحقيق نوع من الربح)
( ابي ليس طويلا وانا لست احسن منه حالا ولهذا كانوا يسمونني في المدرسة الأجر الأدنى)(قطعنا ثلاثمائة واثنتين واربعين خطوة من المحل حتى البيت انا وابي والشاعر )(نزل اخي الدرجات وهي برعاية إحدى شركات الاتصالات ) وضعت امي الشراشف وهي برعاية شركة لتصدير الخضار والفواكه دارت حولي أربعين درجة أو خمسين أنحنت قليلا ضربت السرير ثلاث مرات بيدها اليمنى)
كمانجد الترقيم في كل أجزاء الرواية دلالة قوية على سيطرة الرقم وهيمنته المطلقة على الحياة نجد الأرقام حاضرة بكثافة حتى الأسماء تأخذ الأرقام والحروف ،الاعداد ،والمقادير في الطعام والزي وكل مفردات الحياة وفي الزمن ايضاً والمكان لاتخلو فقرة من الأرقام التي تعمد الكاتب استخدامها وتكرراها بقصدية لتأكيد هذه الهيمنة
هذه الرواية رغم إيجازها الكبير 82 صفحة.. الا انها مست بعمق وسخرت واستدعت كل شيء .. وضع الآداب والفنون ، والقيم الأخلاقية ،والعادات المستحدثة في عالم يطأ كل شيء بحوفره الثقيلة  … وموقف المجتمع من هذا الأستغلال والسعار.. ووضع الفرد الفاقد للبوصلة في تيه لاتحده حدود .. وفرة هذه المواضيع في هذه الرواية الصغيرة وخفتها الساخرة أكسبتها أهمية قصوى في موقع الآدب الساخر والمهموم بوضع العالم المبتلع الأدب الناقد والشكاك  .. ما مايلفت الانتباه في هذه الرواية الأستفاضة في مناقشة وضعية الادآب والفنون  تحديداً كيف يكون الفن والأدب في عالم يعبد المادة ويؤله الأرقام ؟ماجدوى قراءة الادب في مناخ منفر وطارد وماهي جدوى الفنون والآداب وقيمتها ؟ في عالم غير مبال وغير مكترث أحاسيسه ممغنطة ومغلفة بغلاف سميك .. تنعدم فيه  الحساسية تجاه الحياة التي تباع في ارفف المتاجر .. الحساسية التي يفقدها الإنسان ثم لا يعود قادرا على فعل شيء ويفقد معها قدرته على التفاعل .. هي رواية الفضح بامتياز فضح القيم الرأسمالية وعالمها المزيف والخاوي الذي أنشأته  هي مرثية مطولة لفقدان طعم الإنسان وتحوله إلى ماكينة تنتج وتتكاثر وتثرثر منزوع  الكيان ومحروما من كل ما من شأنه أن يجعله إنسانا .. ثم هي رواية الرثاء والإستهجان والأدانة للعصر المزري والمفكك الأوصال والسخرية من البلادة والصمم التي يتمتع بها هذا العالم الان وفقدان الحساسية بكافة اشكالها .
في أحد الحوارات يسأل أحد الضيوف صاحب الرقم 1,صاحب البيت يقول لديك شاعر ؟ يجيب صاحب البيت بنعم ثم
يقول صاحب الرقم ٦ ( اوه رائع اليس صاخباً ؟ )
هذا الوعي المعلب والمصنوع بمواصفات محددة هو الكارثة التي تنذر بالأفول بالعمى وإنعدام التمييز بالتقبل لكل شيء دون تفكير في فحواه دون مسائلته ..نفسية الإذعان والطاعة التي تخلقها عمليات غسل الأدمغة المتواصلة..
ماتحيل إليه الرواية الحياة الخطرة  في هذا العالم الهش المصنوع ، الذي تنحسر فيه مساحة الدفء الإنساني والطمأنينة ليحل محلها طغيان الآلة وبرودتها ..ربما ابرزت الرواية بشكل كبير المعاناة من عادة الاستهلاك السائدة في عالم العولمة والانفجار التقني والمعلوماتي وقدرتها على إفراغ الانسان وجعله مجوفاً حتى يمكن تعبئته بكل شيء يقرره السوق مسبقاً من الأفكار ، أنماط السلوك ، والإتجاهات ، والمنتجات الروحية والمادية دون وجود ذائقة ناقدة و شكاكة ومتسائلة ، جنون الإستهلاك هذا الذي تحدث عنه الفيلسوف الفرنسي  ميشيل اونفري في احد مقولاته التي تصلح كخاتمة بقوله (لقـد عـوض جنـون الاسـتهلاك أيـة مشـاعر روحانية، كأنه تسونامي ابتلع المكتبات. ) هذه بعض المقتطفات من الرواية .

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *