عندما يتلصص الروائي على أبطاله

*محمد وردي

في تجربته الروائية الجديدة، «غرفة واحدة لا تكفي»، يعيد سلطان العميمي تشكيل أسئلة الواقع، أو بمعنى أدق، يعيد صياغة الأسئلة الأولى حول ماهية الإنسان، وحدود قدراته، وطبيعة دوره، ومدى حضوره أو فاعليته في هذا الوجود؟. وهل حقاً هو يستطيع أن يفعل ما يريد، أو يقرر مصيره كما يشاء، أم أن الإنسان مهما تمرد وثار، أو مهما جَدَّ واجتهد، هو في الواقع رهين محابس عدة.
النص يحكي قصة قرواش، رجل في أواخر الثلاثينات من عمره، وهي مرحلة يُفترض أن الإنسان بلغ فيها مرتبة متقدمة من النضج، بحيث يستطيع أن يختار لنفسه ما يرفض أو ما يريد، أو على الأقل أن يقرر أفعاله بمحض إرادته، إلا أنه يجد نفسه فجأة حبيس أربعة جدران، لا يعرف كيف وصل إليها، أو كيف زُج به في غياهبها؟. كل ما يعرفه أنه وجد نفسه داخل غرفة عادية، بابها موصد، ولكن «للقفل ثقب مفتاح يسمح برؤية ما خلفه». ويعفينا من التساؤل عن طبيعة المفتاح، الذي يستوجب مثل ذلك الثقب، حينما يقول: «منذ سنين لم أر مثله، ولم أستخدم تلك المفاتيح الطويلة، ذات الأسنان البارزة في مقدمتها، ربما منذ انتقالنا من بيتنا القديم». ما يحيلنا إلى زمن آخر، للدلالة على الإطار الاجتماعي. وعندما يتأمل الغرفة لا يجد فيها أكثر من ثلاجة صغيرة، مزودة من الغذاء ما يكفي للبقاء. وهناك حمام وسرير، إلى جانبه منضدة، وعليها كتاب، معه قلم أحمر. وهذا يعني أن الغرفة تنتمي إلى الماضي، ولكن أثاثها ينتمي إلى الحاضر، لأنها مجهزة بوسائل وأدوات حديثة، حمام، سرير، ثلاجة، كتاب، قلم.. فأي غرفة هذه؟. هل هي سجن «خمس نجوم»، أم أنها سجن ذهني، من صناعة الوهم؟.

الراوي لا يستعجل الإجابة عن هذه التساؤلات؛ لأنه بعد أن يستسلم لواقعه الجديد، يحاول أن يفهم حقيقة ما يحصل له؛ بهدف استكمال بناء «الإطار الاجتماعي»، الذي يحتضن واقعة السجن، فيستعين بالكتاب الموجود على المنضدة؛ ليكتشف أنه مؤلف الكتاب، اسمه على الغلاف، ومدون كذلك في الصفحة الأولى، «أسفل العنوان بخط أنيق». وهناك فقرة وحيدة في الصفحة التالية، تقول: «في غرفة صغيرة في مكان مجهول، ثمة شخص يتلصص من ثقب الباب على شخص كان يتلصص على شخص آخر في الغرفة المجاورة له. كانوا يتلصصون جميعاً على أشخاص آخرين من دون توقف، ولا يفعلون شيئاً سوى ذلك».

يستغرب قرواش الأمر، ويزداد الأمر غرابة، عندما يكتشف أن جميع الصفحات التالية في الكتاب هي بيضاء تماماً. حينها لم يبق له من منافذ للنور أو الفهم؛ سوى ثقب الباب. ولكنه ما إن يلجأ إليه؛ حتى تصل الغرابة إلى ذروتها الفنية، الملعوبة بحرفية روائية شيقة، تقوم فيها الحكاية على توليفة متناغمة، في إطار ما يمكن أن أسميه «رقابة متبادلة»، يقوم بها شبيهان؛ كأنهما توأم،، فيقول الراوي: «أكتشف أنه يلبس ملابسي الداخلية نفسها، ويخلعها بالطريقة نفسها التي أخلعها. لقد تعرى تماماً. هذا الجسد لي!. أقصد أنه جسدي، وهذه أعضائي، كيف يملك غيري نسخة منها؟، ثم هل أبدو هكذا حين أغير ملابسي أو أخلعها؛ بذلك الكتف العريض، وتلك المناطق الداكنة من جسدي، التي تبدو قبيحة؟. لقد بدوت شخصاً غريباً عني حين فعل ذلك أمام ناظري». ويضيف متسائلاً: «كيف ينام شخص واحد في غرفتين منفصلتين في الوقت نفسه؟!». ومع ذلك، يمنحه شرعية الحضور، فيقول: «بالمناسبة، سميتك قرواش الرابع؛ لأنك نسخة مطابقة لي». وبطبيعة الحال، تبقى شرعية الحضور هي بداية الاعتراف بارتباط أو نَسَبِ الشبيه في نسيج الحكاية، القائمة على التماهي، الذي يتوضح تماماً، حيث يقول: «أنا محبوس في مكان لا أعرفه، يلاصق غرفة شخص يشبهني تماماً، واسمي قرواش بن قرواش بن قرواش». ما يعني أن قرواش الرابع بات حلقة أخرى، مضافة إلى سلسلة «قرواش بن قرواش بن قرواش». وهذا يحيلنا إلى تعاقب الأجيال، ضمن دورة وجودية، يتكرر ضعفها، أمام سطوة الواقع المفروض عليها؛ بسلطة التلقي جيلاً بعد جيل. وتتوضح مرامي النص، حينما يكشف السرد عن احتمال أن يكون الشبيه مجرد قناع لقراوشة آخرين، وربما كُثُر من حوله، فيقول: «نمت وحلمت بشبيهي يدخل الغرفة، ينزع عن وجهه قناعاً جلدياً، فيظهر وجهه الحقيقي، الشبيه بوجه صديقي صالح». ما يعني أن استدعاء صديقه صالح، هو للدلالة على تعدد الشبيه، وهي حلقة جديدة في بناء «الإطار الاجتماعي»، الحاضن للأحداث.
كذلك تتكشف حقيقة الغرفة، ليس باعتبارها سجناً مادياً، وإنما كونها غرفة واقعية جداً، ولكن التغييب أو الاختطاف، ليس فعلاً واقعياً تماماً؛ لأنه في الحقيقة هو سجن اجتماعي، من دون جدران أو قضبان، فيقول الراوي: «أستنتج من خروجه بملابسه الداخلية أنه يعيش في بيته أو بيت أهله». وبما أن غرفة قرواش ملاصقة لغرفته، فهذا يعني أنه بدوره يعيش في بيته أو وسط أهله. هنا ينفتح النص على تساؤلات أقل تعقيداً وأكثر بساطة، ولكنها متعددة الدلالات. يقول الراوي: «بتّ أفكر في أشياء كثيرة، في حياتي الماضية والقادمة، في مصيري، في نهايتي أو نهاية هذا الوضع الغريب الذي أعيشه. استعدت بتفكيري عدداً من تأملاتي السابقة في علاقة البشر بملابسهم، وعلاقتهم بشخصياتهم».
وهذا ما يبرر استعادة الوعي بحقيقة الأشياء؛ بمواجهة تشييء الإنسان، أو مسخه، أو تطابقه مع الآخر بالصورة والمصير، والاختلاف عنه بالنزعات والسلوك، فيستعرض مجموعة من الروايات العالمية، مثل، «الآخر مثلي»، لساراماغو، و«المسخ» لكافكا…إلخ
تقوم التوليفة الفنية في النص على توليد الحكاية من أختها، بمعنى أن حكاية تغييب أو اختطاف قرواش، تكون سبباً في سرد حكاية اختفاء جده، النوخذة، أو قرواش الأول، الذي تضاربت الأقاويل حول سر اختفائه «في ظروف غامضة، ثم ظهر بعد إحدى عشرة سنة، لكنه لم يعد قرواش السابق، بل شخصاً آخر». وعندما يتقصى البطل سر اختفاء الجد، يكتشف ثلاث حكايات. في الأولى يجن فيها الجد، ويرمي نفسه في البحر، فيتبين لاحقاً أن القصة أخرجها يعسوب، الطامع بزوجة قرواش. وفي الثانية، يُمسخ الجد إلى ثور، عقاباً له؛ لأنه كما يقول: «أخطأت في حق ثلاثة فتيان عملوا معي في رحلة الغوص». تبين لاحقاً أنهم مردة من الجن، كانوا قد لاذوا بسفينته، فانتقموا منه بمسخه إلى ثور، استخدموه في أعمال شاقة طوال فترة غيابه. وفي الثالثة يقول الراوي: إن «جدك لم يكن مسحوراً، ولكن فضوله كاد يقضي عليه. كيف؟. هام على وجهه بحثاً عن امرأة». أي أنه ضحية الحب، الذي خطف أنفاسه، منذ أن استحال هلال، الشاب الذي كان يعمل معه بالغوص، وفق نبوءة، دعته للتفتيش عن قرواش والالتحاق به. ولكنه انقلب إلى فتاة، «ذات بشرة بيضاء، وشعر طويل، وصدر ناهد»، في ليلة ليلاء، حيث عادت النبوءة، مطالبة إياه بالالتحاق بسفينة في عرض البحر؛ لأنه أصبح فتاة مكتملة الأنوثة، فأيقظ قرواش، وأطلعه على حقيقة النبوءة، وعلى حاله الجديدة، وعزمه على الرحيل بوحي النبوءة. «وأمام ناظريه، نزلت الفتاة بحبل إلى البحر، وسبحت باتجاه الشمال، في حين كان قرواش يتأملها ذاهلاً إلى أن اختفت عن ناظريه. (…) قلبت حادثة هلال كيان قرواش رأساً على عقب». فأوقف أعماله، وخلَّصَ معاملاته، وراح يبحث عنها، فلَفَّ الجزر والبلاد بطولها وعرضها؛ دون العثور على أثر لها. وعندما نفذت أمواله، بات مشرداً في زنجبار، يعيش على إحسان الناس؛ باعتباره مجنوناً، حتى أعاده إلى أهله، أحد تجار أبوظبي، بعد أحد عشر عاماً من التشرد».
رموز وإحالات
الحكايات تبدو متناقضة، ولكنها في الواقع متقاربة الدلالات، إذ في الأولى يكون الجنون، ومن ثم الانتحار هو سبب الغياب؛ لتبرير وصول يعسوب إلى زوجة قرواش. وفي الثانية يكون السحر هو السبب، وفي الثالثة يفرض الحب سلطانه على المشهد. ما يعني أن المرأة والسحر حاضران في الحكايات الثلاثة بقوة. ومعروف أن المرأة والسحر هما ضفيرتان رئيسيتان في نسيج الأسطورة؛ بكل الثقافات الإنسانية قاطبة. ولكن على الرغم من أن الأسطورة كانت في بداياتها الأولى تمثل عصب المعرفة الإنسانية، إلا أنها باتت في الأزمنة المَدَنية الحديثة، تحيلنا إلى واقع نمطي، أسير الجهل والخرافة، فتأتي الرواية لتفكيك هذا الواقع، وإعادة موضعته في سياقاته الإنسانية الجميلة ومراميه النبيلة.
وتصل اللعبة الروائية إلى ذروتها الفنية في النص، مع انزياح السرد عن المدى الأسطوري، وانزلاقه بسلاسة إلى فضاء التخييل الرشيق، حيث تكشف الحكاية أن حضور»القراوشة»مجتمعين في النص، هو مجرد وهم، أو هو صناعة روائية؛ حتى يقول الإبداع حكايته، أو يعبر عن وسيلته في كسر الأنساق الثقافية، أو حفر سواقي التغيير في البنيات الاجتماعية المتكلسة؛ بثبات ويقين المعرفة في حتمية التحول. فتنتهي الحكاية بحوار كان مفقوداً على مدى نحو مئتي صفحة من النص، بين قرواش وشبيهه. يستهله الأول بالانهيار والتوسل للإفراج عنه، إلا أن الشبيه يستفسر عن اسم قرواش، ورغبته في تغييره. وعندما يسأله قرواش عن السبب؟. يرد عليه بأن ذلك لصالحه، كما يقول:»أنا لا أحبسك، بل أعمل لصالحك». وحالما طالبه بالتوضيح، جاءه الرد الحاسم:
أنت مجرد وهم وخيال.
لم أفهم.
أنت كائن غير حقيقي، وأنا من صنعك». ما يعني أنه مجرد شخصية في رواية، ويوضح ذلك الشبيه بقوله: «لطالما سألت نفسي: أين يذهب أبطال الروايات والقصص التي نكتبها بعد أن ننتهي من كتابة أعمالنا؟.
وما دخلي بهذا الموضوع؟.
أنت جزء من محاولتي في البحث عن إجابات لأسئلتي».
_________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *