تعبير الشرائع عن مجتمعاتها عند ولي الله الدهلوي

خاص- ثقافات

*عبد الجبار الرفاعي

ما زالت الدراسات الاسلامية في المحيط العربي لا تعرف إلّا القليل عن مفكري الاسلام في شبه القارة الهندية، على الرغم من أن شيئاً من المقولات الاعتقادية والمفاهيم الكلية الهامة قد استعارها بعضُ المفكرين والكتّاب العرب والايرانيين منهم، على اختلاف في طبيعة ما هو مستعارٌ ايرانياً وعربياً، كلٌّ حسب أفق انتظاره وأحكامه المسبقة وسياقات اجتماعه الديني. وأضحت تلك المقولات والمفاهيم فيما بعد منهلاً لإلهام بعض الأدبيات الدينية المختلفة، تبعاً للاختلاف والتنوع في التفكير الديني لعالم الاسلام في شبه القارة الهندية. الاحيائيون من السلفيين والأصوليين استعاروا ما يسوغ ويكرّس أفكارهم في الدعوة لإقامة الدولة الدينية، في حين استعار الاصلاحيون والمجددون ما يفتقدونه في محيطهم، ما شكّل أفقاً لبناء رؤيتهم في التوحيد والوحي والنبوة.
كان ولي الله الدهلوي “1703 – 1762″، الذي يسميه بعض الباحثين مجدّد القرن الثامن عشر، يمتلك رؤية تتسع لعبور أسوار التراث، وتحاول أن تعيد قراءة القرآن والحديث في ضوء الأفق التاريخي لعصر البعثة، إذ ازاح شيئاً من ركام التفاسير المكررة والشروح التي دفنت القرآن وغيبت المقاصد الكلية للرسالة الاسلامية، وحاول أن يرى النص القرآني بلا وسائط تحجبه.
بالرغم من أن برامج التعليم الديني لولي الله تركز على الحديث والمعارف الدينية التقليدية، لكنه شدّد على ضرورة التعامل مع القرآن مباشرة خارج التفاسير، ولم يقبل من التفسير إلا بحدود ما يشرح معاني الألفاظ وإعرابها نحوياً. كما أدرج التصوف في نهاية برنامجه التعليمي، وهو ما لم تألفه برامج التعليم الديني من قبل في شبه القارة الهندية. وكان لولي الله أثر ملموس في انتشار دراسة الحديث، وهيمنة المدرسة الحديثية، لكن انتهت هذه المدرسة إلى مواقف متشدّدة في شبة القارة الهندية لاحقاً.
نعثر على شذرات في آثار الدهلوي، تلمح إلى آراء اجتهادية، لا تكرر المكرر في التراث. وقد أضاءت هذه الآراء لبعض مفكري الاسلام الهندي في القرنين التاسع عشر والعشرين شيئاً من عتمة حاضرهم، وأسهمت في توجيه بوصلة تفكيرهم الديني.
اهتم ولي الله الدهلوي بالتنقيب عن الأهداف والقيم الكامنة خلف الشرائع، فأشار إلى أنها وإن كانت حاكية عن طبيعة البيئة المحلية لمجتمعاتها، لكنها تنشد أهدافاً اعتقادية وغايات أخلاقية جوهرية وراء أحكامها ووصاياها.
اصطلح ولي الله على تعبير الشرائع عن مجتمعاتها بـ “الارتفاقات” ، وهي تعني ان شرائع النبوات تتناسب وايقاع حياة  ونمط عيش المجتمعات التي ظهرت فيها، ولا تخرج إلا بشكل محدود عن طبيعة حياتهم وظروفهم وعاداتهم وتقاليدهم. بمعنى ان هناك “ارتفاقا” أي تناغماً بين الشريعة وحاجات المجتمع، إذ تنسجم الشرائع مع الأحوال الاجتماعية وطبائع الأقوام، لذلك تختلف وتتفاوت تبعا لاختلاف المجتمعات، وعلى حسب تعبير الدهلوي: “مظان المصالح تختلف باختلاف الأعصار والعادات، ولذلك صح وقوع النسخ. وانما مثله كمثل الطبيب يعمد الى حفظ المزاج المعتدل في جميع الأحوال، فتختلف أحكامه باختلاف الأشخاص والزمان، فمن عرف أصل الدين وأسباب اختلاف المناهج، لم يكن عنده تغيير ولا تبديل. ولذلك نسب الشرائع الى أقوامها” .
وفي التفاتة دالّة يؤشر ولي الله إلى أن الشرائع مثلما تعكس طبائع المجتمعات وأحوالها ومتطلباتها، كذلك تعبر عن شخصية النبي وحياته وبيئته. فمثلاً يكتب في جواب سؤال عن تفسير الآية: “كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَىٰ نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ” ، قائلاً: “تفسيرها ان يعقوب مرض مرضاً شديداً، فنذر لأن عافاه الله ليحرّمن على نفسه أحب الطعام والشراب إليه، فلما عوفي حرّم على نفسه لحوم الأبل وألبانها، واقتدى به بنوه في تحريمها، ومضى على ذلك القرون، حتى أضمروا في نفوسهم التفريط في حق الأنبياء ان خالفوهم بأكلها، فنزل التوراة بالتحريم. ولما بين النبي أنه على ملة ابراهيم، قالت اليهود: كيف يكون على ملته، وهو يأكل لحوم الابل وألبانها، فرد عليهم: ان كل الطعام كان حلا في الاصل، وانما حرمت الابل لعارض لحق باليهود… واعلم انما اختلفت شرائع الانبياء لأسباب ومصالح، وذلك ان شعائر الله انما كانت شعائر لمعدات. وان المقادير يلاحظ في شرعها حال المكلفين وعاداتهم” .
لا يرى ولي الله الدهلوي أن دور النبي في تلقيه الوحي كان سلبياً، فليس هو مجرد صدى تمر من خلاله كلمات الله، وانما “عندما يريد الله إيصال هدى معيّن، يقدّر له أن يدوم إلى نهاية العالم، يخضع نفس الرسول ليرسل الكتاب الالهي في قلبه الطاهر، بطريقة خفية وشاملة… فتنطبع الرسالة في قلب الرسول كما وجدت في العالم السماوي. وهكذا يعرف الرسول ويقتنع أن ذاك هو كلام الله… بعد ذلك، وتبعاً للحاجات ينطق الرسول بخطاب بديع الصنعة، هو ثمرة لقدراته العقلانية، ولعون الملاك” . ويعتقد الدهلوي ان وحي القرآن انما يحدث في “قالب كلمات واصطلاحات وصياغات سبق أن وجدت في ثقافة النبي” . ونقرأ ما يشي بشيء من ايماءات هذا الفهم أخيراً لدى محمد مجتهد شبستري، في سلسلة محاضراته الموسومة: “القراءة النبوية للعالم”.
مصائر الأفكار لا تنتمي لبداياتها دائماً، فقد تنتهي آراء عقلية حرة إلى مصير مريع، بعد أن تمسي مغلقة مفرغة من أية بصمة للعقل. هذا هو المآل الذي انتهى اليه ميراث الدهلوي في شبه القارة الهندية، فقد استحوذ عليه تيار أهل الحديث السلفي المناهض لكل أشكال التفكير العقلي، والذي لم يوفر حتى علم الكلام.
الفضاء الروحي في شبه القارة الهندية يستوعب الكثير من الديانات والمذاهب الحية، وتتلوّن دياناته بإثنيات ولغات وثقافات متنوعة، لا نعثر على ما يماثلها في بلاد أخرى. ومع كل هذا التنوع والاختلاف مازالت تتعايش كل الديانات في فسيفساء تلك الديموغرافيا الواسعة.
لم يكن الاسلام في الهند ديانة المسلمين فقط، بل هو هويتهم القومية أيضاً. الاسلام هويتهم المركزية التي تتفرع عنها كل الهويات الإثنية وغيرها. وذلك هو الذي دعا المسلمين لتأسيس دولتهم الخاصة بباكستان، خارج الفضاء الروحي والثقافي للهند.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *