سخاء الطبيعة والمهمّة الشاقة/ فرجينيا وولف

خاص- ثقافات

*فرجينيا وولف / ترجمة : خضير اللامي

 

 

تُعد فرجينيا وولف واحدة من أفضل كتَاب المقالة في القرن العشرين ، وأنشأت المقالة  في أدناه بوصفها عرضا لانطولوجيا أدب إيرنست رايسErnest Rhys ،      المؤلف من خمسة أجزاء في المقالات الانجليزية الحديثة : 1870- 1920″ ج.أم , دينت 1922 ” . وظهر العرض بالأصل في الملحق الأدبي لجريدة التايمز في الثلاثين من شهر نوفمبر 1922، وضمت وولف الطبعة المنقحة في مجموعتها مقالات  ” القارئ العادي  1925. ”  

وفي مقدمتها الموجزة للمجموعة ، ميزت وولف في كتابها  “القارئ العادي ” من خلال عبارة استعارتها من صموئيل جونسون لكتاب ، “الناقد والمثقف ” : إنه مثقف سيء ، ولم تمنحه الموهبة سخاءها . إنه يقرأ لإمتاع ذاته أكثر من أن ينقل المعرفة أو يصحح أفكار وآراء الآخرين  . وفوق ذلك ، أنه مقاد بغريزته للإبداع من اجل ذاته ، وخارج كل ما هو عرضي يمر به ، كجزء من الكل … صورة رجل ، عرض لعصر، نظرية فن الكتابة  ” وعرضت وولف قليلا … من الأفكار والآراء ” عن طبيعة المقالات الانجليزية ، وقارنت أفكارها في كتابة المقالة مع أولئك الذين عبر عنهم موريس هيوليت في ، السارية والعمود ” ، والذين عبر عنهم أيضا جارلس بروك في “كتابة المقالات . “

ريتشارد  نوردكويست ..

 

 

كما يقول السيد ريس حقا، ليس من الضروري، أن نغوص بعمق في تأريخ وأصل المقالة … سواء كانت تشتق من سقراط أو من سيرافي الفارسي … ذلك لأنها ، مثل كل الأشياء الحية ، حاضرها أكثر أهمية من ماضيها . فضلا عن ذلك ، أن المجتمع يتوسع باضطراد ؛ وبينما تبرز نخبه في العالم يرتدون أفضل الأكاليل، في وقت يلتقط الآخرون فتات عيشهم قرب مزاريب فليت ستريت  “Fleet Street  ” شارع الصحافة في لندن . المترجم ” . من جانبه يسمح لنا النموذج الأدبي ، للمقالة بالتنوع ، أيضا. إذ بالإمكان أن تكون هذه المقالة قصيرة أو طويلة ، جدية أو تافهة ، عن الإله أوعن سبينوزا ، أوعن السلاحف وشيبسايد cheap side” احد الأسواق التجارية في لندن ، المترجم”. ولكن حين نتصفح هذه المجلدات الصغيرة الخمس التي تحتوي على المقالات التي كتبت بين 1870و1920، فإنَ مبادئ أساسية تظهر لنا سيطرتها على حالة الفوضى ، وسنكتشف من خلالها في غضون فترة قصيرة أن ثمة شيئا ما يجري يشبه جريان حركة التاريخ .

وعلى كل حال ، فإنَ جميع أجناس الأدب ، وأحدها المقالة تتطلب على الأقل  استخدام عبارات طويلة. إما المبادئ التي تسيطر عليها فهي ببساطة ينبغي أن تمنحنا المتعة ؛ والرغبة التي تملي علينا حين نتناول كتابا من أعلى الرف ببساطة هي استقبال لتلك المتعة . وكل شيء في المقالة يجب أن يخضع إلى  النهاية ، و ينبغي على المقالة أن تضعنا تحت مفعول سحر أول كلمة فيها ، وينبغي أيضا أن نستيقظ ، وننتعش ، مع آخر كلمة فيها . وفي الفترة الفاصلة التي عانينا فيها مختلف أنواع تجارب التسلية ، والإدهاش ، والإثارة ، والسخط ؛ ربما نحلّق في أوج الفنطازيا مع لامب Lamb ،أو نغطس في أعماق الحكمة مع بيكون Bacon، ولكن يجب أن لا نكون مستوفزين . لأنَ المقالة ستصقلنا وستسحب ستارتها لنتطلع عبرها إلى الجانب الآخر من العالم .

وهكذا ، نادرا ما تُنجز مثل هذه المأثرة الفذة ، وعلى الرغم من أنَ هناك أخطاء قد تعد إيجابية تنعكس على القارئ والكاتب على حد سواء . فالعادة والسبات مثلا يبلدان ذائقتيهما . فالرواية تتضمن قصة ، إيقاع قصيدة ؛ ولكن أيَ فن يستطيع كاتب المقالة استخدامه لهذا النوع من النثر طويلا كان أو قصيرا ليلدغنا كي يوقظنا من سباتنا الطويل ويمنحنا نشوتنا تلك التي  لم تكن نوعا مثل ذلك النوم بل هي إلى حد ما تكثيفا لإكسير الحياة … استرخاء تحت أشعة الشمس ، و سرعة تأهب ، ونحن تحت شمس المتعة ؟ وهنا ، على كاتب المقالة أن يعرف … هذا هو الجوهر الأساس لكتابة المقالة … كيف يكتب. ربما تكون معرفته عميقة عمق معرفة مارك باتيسون Mark Pattison ، وأن يعرف أنَ المقالة يجب أن تنصهر تماما في فعل سحر الكتابة وليس ثمة حقيقة خارجها تماما ، وليس هي عقيدة تمزق غلاف نسيج النص. كما فعل ماكولي،Macaulay  بطريقة ما ، أو فرودي  بطريقة أخرى، اللذان قدما مثل هذا العمل الفذ مرة بعد أخرى ، أنهما يعصفان بالمعرفة داخل عقولنا من خلال إسلوب مقالة واحدة حسب ، بدلا من فصول ونصوص كتب لا تُحصى ولا تُعد . ولكن حين يجب على مارك باتيسون أن يخبرنا على امتداد فضاء خمس وثلاثين صفحة من القطع الصغير عن مونتيني Montaigne، فإنَ شعورا ينتابنا أنه لم يستوعب سابقا أم .غرونGrun  . M إذ أنَ الأخير كان رجلا مهذبا كتب ذات مرة كتابا سيئا . إنه وكتابه يعطران متعتنا الأبدية في مادة كهرمانية. بيد أنَ هذه عملية مجهدة ؛ تحتاج إلى وقت طويل وربما إلى ممارسة جادة أكثر من قرار باتيسون هذا . وقد قدم لنا أم .غرون على أنه رجلا غرَا ، لكنه بقي ثمرة علٌيق عصية على النضج بين لحوم مطبوخة أبقت أسناننا تصر للأبد . وشيء من هذا ينطبق على ماثيو آرنولد ومترجم موثوق لسبينوزا . وثمة حقيقة حرفية تمنحنا ضوء لنكتشف زلل المتهم في مقالته الجيدة في مكان ما ، وحيث أن كل شيء جيدا يجب أن يميل لصالحنا وإلى حد ما ، ليس من اجل تكريس مفاهيم الخلود المكرسة في عدد مجلة مارس  Fortnightly Review ، ولكن إذا لم يجد صوت التوبيخ له آذانا صاغية في هذه الحبكة الضيقة ، فثمة صوت آخر هو شبيه بصوت جراد الطاعون … إنه صوت رجل ناعس مترنح بين هذه الكلمات غير المحبوكة ، ممسكة دون هدف أفكارا غامضة ، وجاءنا هذا الصوت ،صوت  السيد هوتون في النص التالي :

أضف إلى ذلك أن حياته الزوجية كانت قصيرة ، سبع سنوات ونصف السنة حسب، ولأن ذلك غير متوقع ، فإنّ احترام عاطفته لذكرى زوجه وروحها المقدسة … تحمل عباراته  ” دين  ” … وكانت واحدة من الكلمات التي ، يجب أن يحس بها تماما ، أنه لن يستطيع الظهور بطريقة ما على أنه يتصرف بطريقة متهورة ، ولا يتفوه بكلمات مهلوسة ، في عيون البشر الآخرين ، انه مُستلب من عاطفة مشبوبة لا تقاوم يجسدها في كل أنواع عبارات الرقة والحماسة والغلو المفعمة بالحزن العميق، من المستحيل أن نشعر بأحداث إنسانية نجدها في سيرة رجل مثله حاصل على شهرته في درجة الماجستير وبتقدير مقبول .

واستطاع ذلك الكتاب أن يهزم تلك العصفة ، لكنه يغرق في مقالة . والكتاب يشكل سيرة حياة بمجلدين وهو في الحقيقة يُعد وديعة خاصة، هناك ، حيث يجيز الانحراف عن الشكل الفني بشكل واسع ، وان الإشارات والتلميحات خارج الأشياء تقوم بدور في الوليمة ( هنا نشير إلى النموذج القديم للمجلد الفيكتوري ) ، أن هذا التثاؤب والاسترخاء من الصعوبة بمكان أن يقدما لنا شيئا هاما ، ولكنهما في الحقيقة يحملان قيمة ايجابيتهما  . بيد أن تلك القيمة التي يسهم بها القارئ ، ربما هي غير مشروعة ، لرغبته في الحصول على الكثير من تلك الفوائد في الكتاب من جميع المصادر المتاحة قدر الإمكان التي يحصل عليها ، والتي يجب أن تكون خارج القاعدة هنا .

ليس ثمة مجال لتهجين الأدب في المقالة . بطريقة أو بأخرى ، عن طريق جهد العمل ، أوسخاء الموهبة ، أو من خلال اندماجهما ، ذلك أنَ المقالة ينبغي أن تكون قبل كل شيء أصيلة … وصافية كالماء ونقية كالنبيذ ، وبعيدة عن التبلد ، والجمود ، أو ترسبات المواد الشائبة . وإنَ جميع كتَّاب الجزء الأول ، مثل وولتر باترWalter Pater ، الذي يُعد أفضل مُنجز لهذه المهمة الشاقة ، لأنَه قبل أن يشرع في كتابة مقالته ( ملاحظات عن ليوناردو دافينشي ) كان إلى حد ما يبحث عن وسيلة ليجعل مادته متفجرة . صحيح ، أنه رجل مثقف، بيد أنَه لا يرقى إلى ثقافة دافينشي التي ما زالت تلازمنا ، لكنه ، يمنحنا رؤيا ، كتلك التي نحصل عليها من الرواية الإبداعية حيث أن كل شيء فيها يسهم ليضع ثمرة أفكار الكاتب كلها أمامنا . وهنا، في المقالة حسب، حيث تكون الحدود صارمة جدا ، فضلا عن استخدام الحقائق المجردة . لكاتب حقيقي مثل وولتر باتر ، يجعل من هذه الحدود تهِب نوعيتها . والحقيقة تمنحها سلطة ؛ ومن خلال حدودها الضيقة هذه سيحصل على شكل فضلا عن كثافة في الأسلوب ؛ ومن ثم ليس ثمة متسع مناسب لبعض الزخرفات التي كان الكتّاب القدماء مولعين بها كما نحن الآن ، ولأنها زخرفة،  كما نسميها فمن المفترض أن نستخف بها . وفي عصرنا هذا ليس ثمة من يجرؤ على توظيف إحدى المواصفات الشهيرة لسيدة ليوناردو دافينشي ؛ ذلك الدافينشي الذي تعلم أسرار تنظيف قاع السفن ؛ وثابر على الإبحار في أعماق البحار ليبقيها بعيدة من الاقتراب منها ذات يوم ؛ وكان قد تاجر مع شبكة غريبة من تجار الشرق ؛ وكما الحال ، مع ليدا أم هيلين بطلة طروادة ، والقديسة آن أم مريم العذراء …

إنَ مرور إبهامنا على صفحات القطعة النثرية يؤشر بوضوح وانسيابية عفوية في سياق النص. بيد أننا حينما نصل بشكل غير متوقع لعبارات ” ابتسامة النساء وحركة المياه العظيمة ” أو ” صفاء تام يرتسم على وجه جثة ، أو ” اكتساء الأرض بألوان أحجارها الباهتة ” فإننا نتذكر فجأة أننا نملك عيونا وآذانا ، و أنَ اللغة الإنجليزية تمتلئ بنسق طويل في كتابة مجلدات ضخمة تحتوي على عبارات لا عدَ لها وكثير منها ذات مقاطع متعددة . والرجل الانجليزي المفعم بالحياة هو وحده الذي يُنعم النظر في هذا المجلدات ، وبالطبع ، أنه رجل مهذب ، ذو نسب أصيل . ولكن دون شك ، أن إحجامنا عنها يجنبنا التدفق ، والإفراط في البلاغة ، والخطوات السريعة نحو الغيوم المتعالية ، ولكي نتخلى عن سيادة الاعتدال والتصلب معا ينبغي علينا أن نكون ميالين إلى مقايضة عظمة السير توماس براون  Thomas وحماسة سويفت Swift.

رغم ذلك ، إذا كانت المقالة تتسع إلى حد بعيد للجرأة والإستعارة أبعد من السيرة الذاتية أوالرواية ذات الضربة المفاجئة أوالتي تتضمن إستعارات ، فبإمكاننا نحت جزيء كل ذرة في إشراقات سطحها ، وفي هذا ثمة مخاطر أيضا . إذ أننا نرى أنفسنا فجأة في مشهد الزخرفة . وسرعان ما يجري دم إكسير الحياة في الأدب بطيئا ؛ وبدلا من ومضة وتوهج وحركة بنبض أهدأ تكمن في داخلها إثارة عميقة جدا ، وتتخثر الكلمات معا في رذاذ متجمد ، يشبه عناقيد شجرة عيد الميلاد ، تتألق في ليلة وحيدة ، ولكن بعد طلوع النهار يحل الغبار ، وتسود البهرجة الصارخة . وسيكون الإغراء عظيما لخلق زخرفة ، تكون فيها الثيمة ضعيفة . ولكن ، ما الذي يمتع الآخر هناك ، في الحقيقة إن كان هذا الآخر في الوقت عينه كان يستمتع بنزهة ، أو كان يمتع ذاته ويهيم على وجهه باتجاه شيبسايد للتمتع بالنظر إلى السلاحف من خلال نافذة محل السيد سويتنك ؟ واختار ستيفنسون Stevenson ” والد فرجينيا وولف ، ناقد أدبي كبير .. المترجم ”  وصموئيل بتلر Samuel Butler  مناهج جد مختلفة لإثارة متعتنا في مواضيع محلية . وبالطبع ، فقد حدد وصقل ستيفنسون كي ينطلق موضوعه بثيمة القرن الثامن عشر التقليدية . وقد أثار الإعجاب ، لم نستطع فيه كبت لهفة مشاعرنا ، بخاصة ، حين تتقدم المقالة بالشروع ، ربما مخافة أن تخرج من بين أصابع الفنان الحرفي . كان القالب صغيرا جدا إلى حد تكون فيه المعالجة متواصلة . وربما لهذا السبب كانت الخطابة منمَقة   peroration  ..

اجلس وتأمل … وتذكر وجوه النساء دون إثارة ، وتمتع بأعمال الرجال العظام بلا حسد ، وكن مفعما بالعاطفة في كل شيء وفي كل مكان و كن قانعا بما لديك  في أي مكان وبما أنت عليه –

إنَه ، اي ستيفنسون يملك صنفا من الخيال يوحي إلينا في ذلك الوقت ، أنه لم يحصل في نهاية الأمر على شيء ملموس في عمله . وتبنى بتلر منهجا معاكسا . يبدو أنَه يقول ، فكر في إعادة تسلسل أفكارك ، وتحدث بها بكل ما تستطيع من وضوح . ويبدو أنً تروس تلك السلاحف المعروضة في نافذة المحل التجاري التي ترشح من تروسها عرقا يتصبب من خلال رؤوس وأقدام تلك السلاحف توحي لنا بهذا إيمانا قدريا يتجسد في فكرة ثابتة . وبهكذا خطوات مطمئنة من فكرة إلى أخرى ، نجتاز فضاء واسعا يمتد على مسافة  جسد الأرض ؛ يمكننا من مراقبة أن ثمة جرحا بليغا في جسد المحامي ؛ وإنَ ماري ملكة سكوتلندة ترتدي حذاء واقيا للجروح صمم ليكون شبيها بحدوة حصان في شارع توتنهام كورت رود ؛ ونسلم جدلا أن ليس ثمة أحد من يهتم  حقا بأسخيلوس ، وكما ، مع كثير  في سرد الحكايات المسلية ، وبعض التأملات العميقة ، نقترب من إسلوب الخطابة ، وهكذا ، وكما سبق له وأن أخبرنا انه لم ير في شيبسايد أكثر مما تورط في تدوين إثنتي عشرة صفحة في مجلة Universal Review  وكان من الأفضل له أن يتوقف . كان بتلر على الأقل واضحا في متعتنا كما ستيفنسون ، وان تكتب كما يكتب المرء لذاته ولا يسميها كتابة بقدر ما هي ممارسة إسلوب صعب في الكتابة أكثر مما يكتب اديسن  ويسميها كتابة جيدة .

 ولكن ، على حال كل حال ، إنَ بتلر وستيفنسون يختلفان كثيرا على المستوى الفردي ، رغم أنَ كتَاب المقالة في العهد الفيكتوري يجمعهم قاسم مشترك . فقد كانوا يكتبون المقالات العظيمة الطويلة ، أكثر مما نفعل نحن الآن ، كما كانوا لا يكتبون للجمهور الذي ليس لديه الوقت الكافي لقراءة مجلاته بجدية حسب ، ولكن يكتبون للنخبة الفيكتورية التي تعد معيارا للثقافة التي نحكم من خلاله على نوع تلك الثقافة . إنها أي الثقافة تستحق وقفة تأمل لنتحدث عن المسائل المهمة في مقالة ما.  وليس ثمة عبثية في الكتابة كما يمكن للبعض أن يقول عن ذلك ، كما من الممكن في غضون شهر أو شهرين ، أن نلاحظ أن ذلك الجمهور ذاته الذي رحب بالمقالة التي نشرت في مجلة سيقرأ المادة باعتناء وبجدية ملموسة في كتاب . بيد أن التغيير جاء هذه المرة من طليعة صغيرة مثقفة الى جمهور واسع من القراء تعوزهم الثقافة .  ولم يكن التغيير بالطبع نحو الأسوأ .

   في الجزء الثالث . نصل إلى السيد فيريل والسيد بيربوم Beerbohm. و يمكننا القول إنَ ثمة ارتدادا إلى النموذج الكلاسيكي ، إذ راحت المقالة تفقد حجمها الطبيعي وشيئا من صوتها الجهوري والاقتراب كثيرا من مقالة أديسون ولامب . وعلى كل حال ، هناك فجوة كبيرة بين السيد بير في كتابته عن كارليل والمقالة التي يمكن أن نفترض فيها أن كارليل قد كتب على السيد بير بوم . ونجد ثمة مقاربة بين مقالة غيمة بينافوريز Pinafores Cloud ، التي كتبها بيربوم ومقالة ” Cynics Apology مصطلح غربي يعني السخرية الحادة او الكلبية، المترجم ”  التي كتبها ليسلي ستيفن Leslie Stephen . بيد أنَ المقالة تبقى حية ؛ وليس ثمة بيئة تدعوها للاختفاء . وحينما تتغير الظروف ، فإنَ كاتب المقالة ، لإحساسه الحاد بالرأي العام ، فإنَه يكيف نفسه ايضا، فإذا كان عمله جيدا فإنَه بالتأكيد يخلق ظروفا أفضل ، وإن كان عمله رديئا فإنه بالطبع يخلق ظروفا أسوأ . وهكذا نجد بير ، انه بالتأكيد خلق ظروفا أفضل، ورغم أنه ترشَق كثيرا ، فإنَ هجمته أكثر مباشرة ، وحركته أكثر مرونة . ولكن ماذا قدم السيد بير بوم للمقالة ، وماذا أخذ منها ؟ هذا سؤال معقد جدا ، لأننا هنا لدينا كاتب مقالة يركز على عمله ودون شك أنه أمير حرفته .

ماذا قدم لنا السيد بيربوم ، بالطبع ، قدم نفسه ، وحضوره هذا ، الذي سكن المقالة بشكل متقطع منذ عهد موتيني ، وبقي في المنفى حتى وفاة جارلس لامب Charles Lamb. لم يكن ماثيو آرنولدMtthew Arnold  بالنسبة لقرائه مثل مات Mat، ولا والتر بيتر مختزلا عاطفيا ، في آلاف البيوت قياسا إلى وات Wat. إنهما أعطيا الكثير لكنهما لم يعطيا كثيرا في الوقت عينه . وهكذا ، يجب على المقالة أن تبهر القراء المعتادين على النصائح ، والمعلومات والاستنكار، في التسعينيات ” الحقبة التي سبقت عهد فرجينيا وولف .. المترجم “، ليجدوا أنفسهم معتادين على صوت يبدو أنه يعود إلى رجل لم يكن اكبر منهم. كانت نبرات صوته تتظاهر بأفراح وأحزان  متميزة ، وليس لديه كلام ليعظ ولا ثقافة يضفيها عليهم .  بقي بيربوم يردد نفسه ببساطة مباشرة ، ومازال هو نفسه . وبين المرة والأخرى ، يظهر علينا كاتب مقالة قادرا على الاستفادة من كاتب مقالة بامتياز ، ولكن بأداة خطيرة ورقيقة ، ويجد نفسه منجذبا للأدب ، بطريقة لا شعورية ولا طاهرة ، ولكن في الوقت نفسه ، بطريقة شعورية وبريئة ، نجد أنفسنا فيها إن كان ثمة علاقة بين ماكس كاتب المقالة وبيربوم الإنسان . إننا نعرف حسب، أن روح الشخصية تتخللها كل كلمة كان يكتبها . والانتصار هنا هو انتصار الأسلوب . وعن طريقه تعرف كيف تكتب وكيف تجعل من استخدام الأدب بوصفه موضوعا لذاتك ؛ تلك الذات التي حينما تكون جوهرية في الأدب ، هي الوقت نفسه بطولة خطيرة . لا تكن نفسك دائما وأبدا … هذا هو السؤال . وان بعض كتَاب المقالة في كتاب ريس ، ولنكن صريحين ، لم يكونوا جميعهم ناجحين في حل عقدة هذا الموضوع . إننا نصاب بالغثيان لرؤيتنا مشهد شخصيات مبتذله مفككة طارئة على النشر . ولاشك ،أنها حين تتحدث ، تكون ساحرة ، وان الكاتب بالتأكيد هو رفيق جيد حينما نلتقي به ونرشف معه الجعة . بيد أنَ الأدب هو حالة أخرى ، حالة لا نجامل فيها مطلقا ؛ وأنه ، أي الأدب لا يستخدم كونه عملية سحرية ، أوهو طريقة في استخدام صفقة مغرية ، ما لم يكن عملية ابداعية قبل كل شيء ،  تحقق أنت شرطها الأول ، كي تعرف كيف تكتب .

هذا الفن يستوعبه ليحميه بشكل تام السيد بيربوم . بيد أنه لا يبحث في القاموس عن الكلمات المتعددة المقاطع . إنه لم يكن قالبا لفترات ثابتة ، أو أنه يغري آذاننا  بألحان غريبة .  كان بعض رفقائه … هينلي وستيفنسن على سبيل المثال … يتسمان بمزاج انطباعي مرحلي . لكن غيمة بينا فوريز Cloud of Pinafores   ، تحتوي على تفاوت يفوق الوصف ، ويحرك ، بتعبيرية مطلقة تنتمي للحياة وللحياة وحدها حسب. ولا يمكن الإنتهاء منها وستبقى مستغرقا في قراءتها ، كما لو أنك وإياها صديقان لا تريدان أن تفترقا بيد أن الوقت قد يدرككما للافتراق . هكذا هي الحياة معين لا ينضب تتغير ثم تضيف . حتى الأشياء في الكتاب تتغير كما لو أنها حية ؛ ونجد أنفسنا أننا نريد أن نلتقي مرة أخرى ، وهكذا ، نرانا نعود لقراءة مقالة بعد مقالة ، من التي كتبها السيد بيربوم . عارفين أن شهر أيلول قادم أو شهر مايس ، وسنجلس لنقرأ ونتجاذب أطراف الحديث عنها . نعم ، هذه حقيقة ، لان كاتب المقالة هذا هو الأكثر إحساسا بالرأي العام  من جميع الكتَاب . وبالطيع أن غرفة الاستقبال هي المكان الذي نتعامل معه باهتمام في القراءة في عصرنا هذا ، وغالبا ما توضع مقالات السيد بيرل بوم في مكانات مختارة بعناية على طاولة غرفة الإستقبال . فليس ثمة شراب جن ؛ أو تبغ حاد ؛ أو تلاعب بالألفاظ ، أو مشروبات كحولية حادة . أو حماقات . أو تجاذب أحاديث بين السادة والسيدات ، وبالطبع ، ليس ثمة ما يقال من أشياء أخرى…

وإذا كان ثمة أحمق يحاول أن يقيد السيد بير بوم في غرفة واحدة ، فإن الحماقة تكون أعظم ، لفنان  ، ولإنسان يمثل عصرنا ، منحنا أفضل شيء يملكه. ليس هناك مقالات له ضمتها الأجزاء الأربعة أو الخمسة للمجموعة الحالية . ويبدو أنَ عصره لا يبعد عنا كثيرا . وبينما راحت منضدة غرفة الإستقبال  تتراجع ، بدت  كمذبح كنيسة ، في زمن ما ، كان الناس يقدمون لها القرابين …  من إنتاج بساتينهم ، وهدايا منحوتة بأياديهم . لكن الظروف ، تغيرت كثيرا . وأصبح الناس بحاجة ماسة إلى مقالات ربما أكثر من السابق . ناهيك عن طولها ، حتى وان يبلغ معدل عدد كلمات المقالة الواحدة ألف وخمسمائة كلمة ، وفي حالات خاصة ألف و سبعمائة وخمسين كلمة ، وهو عدد يفوق سد الحاجة . بينما كتب لامب مقالة واحدة وربما كتب ماكس مقالتين ، أما إنتاج السيد بيلوك  Mr.Belocفيخمن بثلاثمائة وخمس وستين مقالة . في الواقع . إن هذا العدد من المقالات يُعد قليلا جدا . لكن ، حتى الآن ، ما هي البراعة التي يستثمرها هذا الكاتب الممارس في فضاءاته هذه. بداية يقترب من أعلى الصفحة قدر الإمكان ، ويقدر بدقة ما هي المساحة ، ومتى يعود إليها ، وكيف ، دون أن يضحي بأية مسافة فيها . ويصف آخر كلمة يسمح بها له محرره ! ومأثرة عمله هذه تستحق الاهتمام حقا . بيد أن السمة التي يتسم بها بيلوك كما بيروم يعتمد على المخاض  في انجاز العملية ، ولم تأتد إلينا من الثراء العفوي لصوت الكلام ، لكنه يأتينا صوت متوتر ورقيق مليء بالتكلف والعاطفة مثل رجل يزأر عبر مكبر صوت أمام حشد ليوم عاصف ، ليقول :

 في يوم ما ، كان ثمة راع قدم من الشرق ، كان يقود أغنامه عن طريق لويس، وفي اليوم التالي حضر إلى مدينةFair    Findon، كان في عينيه استذكار تلك الآفاق التي تجعل عيون الرعاة والرجال الجبليين تختلف عن عيون الآخرين …. ذهبت معه لأسمع ماذا كان يجب عليه أن يقول ، لأن الرعاة يتحدثون بطريقة مختلفة تماما عن الآخرين .

كان سعيدا على قلة ما تحدث به هذا الراعي ، كان مطمئنا تحت تأثير كأس كبير من الجعة التي لابد منها هنا ، تحدث عن مقالة البلد المجهول Unknown Country ، كانت ملاحظته الوحيدة عن بيلوك الذي كتبها أنه لم يكن أكثر من شويعر، وليس قادرا على قيادة شاة واحدة ، أوأنَ السيد بيلوك نفسه كان يرتدي ملابس تنكرية ويضع قلم حبر في الجيب الصغير لجاكيتته ، وهذا هو الجزاء لكاتب المقالة المألوف الذي يجب أن يكون متهيئا للمواجهة . يجب عليه أن يكون متنكرا ، أنه لا يستطيع أن يطيق الوقت ليكون ذاته أو يكون شخصا آخر ، ويجب عليه أن يراجع الأفكار السطحية وأن يرشق من حدَة نقده الشخصي، يجب عليه أن يمنحنا نصف بنس كل اسبوع لنشتري به رداء بدلا من جينيه أصلي في السنة  .

ولكن ، لم يكن السيد بيلوك وحده يعاني من الظروف السائدة . إنً المقالات التي شكلت مجموعة 1920ربما لم تكن أفضل أعمال مؤلفيها ، إذا استثنينا كتَابا أمثال  السيد كونراد والسيد هدسن ، اللذان شوشا كتابة المقالة دون قصد ، وركزا على أولئك الذين يكتبون المقالات اليومية ، فإننا سنجدهما صفقة رابحة لتأثرهما بمعطيات ظروفهما . أن تكتب إسبوعيا ، أن تكتب يوميا ، أن تكتب في فترات قصيرة ، أن تكتب للناس المشغولين الذين يستخدمون القطارات في الصباح ، وتكتب  للناس الذين يعودون إلى منازلهم منهكين في المساء ، إنها لمهمة مفجعة لأولئك الذين يميزون الكتابة الجيدة عن الكتابة السيئة . إنهم سيفعلون ذلك ، لكنهم غريزيا سيستمرون في الطريق المدمرة لكل شيء نفيس ربما يدمره الاتصال مع الجمهور، أوأي شئ حاد ربما يثير حفيظته . وهكذا ، إذا قرآنا أغلبية ما كتبه لوكاش والسيد ليند Lynd، والسيد سكوير Squire، فإننا سنشعر أنَ كل شيء سيتحول إلى لون رمادي . وإنهم بقدر ما يبتعدون عن الجمال المفرط لدى والتر باتر بقدر ما يبتعدون عن الصراحة المتطرفة لدي ليسلي ستيفن . إنَ الجمال والشجاعة روحان خطران إذا حشرتهما في مقالة طولها عمود ونصف عمود ؛ تحول الفكرة إلى لون يشبه لون حزمة ورق رمادي ، تملك طريق إفساد مادة متناسقة . إنه عالم رقيق ، متعب ، فاقد الإحساس ، ذلك الذي تناولوه ، وذلك الإدهاش الذي لم يتوقفوا في محاولاتهم عن الكتابة الإبداعية عنه .

ولكن، لسنا بحاجة إلى شفقة السيد كلوتن بروك Clutton Brock  ، عن هذا التغيير في ظروف كاتب المقالة . فهو صنع بوضوح أفضل ظروفه وليس أسوأها . والمرء قد يتردد حتى في القول إنه يجب أن يخلق أي مسعى واع في الموضوع . ومن الطبيعي أنه آثَر التحول من الكتابة الذاتية إلى الكتابة  للجمهور، والانتقال من غرفة الاستقبال إلى قاعة البيرتAlbert Hall  . إنها مفارقة كبيرة ، أدَت إلى انكماش توسيع الفردية . إننا لم نعد ضمير ” الأنا” ضمير المتكلم لماكس ولامب ، لكننا ضمير الجماعة “نحن  ” جمهور وشخصيات سامية . إننا ” نحن” الذين نذهب كي نسمع الناي السحري ؛ ” نحن ” الذين علينا أن نستمتع به ” نحن ” بطريقة غامضة ما، وبقدرتنا نندمج فيه، نحن في سالف الزمان كتبنا فعلا . فالموسيقى والأدب والفن يجب أن يخضع لنفس الجيل أوفي الأقل لن ينأوا بأنفسهم عن قاعة البيرت . ذلك كان صوت كلوتن بروك المخلص جدا والمتميز جدا ، يحمل مثل تلك المسافة ويصل إلى الكثير دون إستغلال ضعف الجمهور ويجب أن تكون عواطفه موضوعا لإشباع رغباته المشروعة لجميعنا . ولكن بينما ” نحن ” نشبع رغبة ال”أنا ” ذلك الشريك الجامح الذي يلازم الإنسان ، هو لتقليل اليأس وال ” أنا ” يفكر دائما بالأشياء لنفسه ، ويشعر بالأشياء لذاته ، ليشارك الآخر الذي يشكل الأغلبية المثقفة جدا،  و يشارك الرجال والنساء ذو النوايا الحسنة في آلامهم ؛ بينما بقيتنا تصغي لنا بانتباه وتتمتع بعمق وسينزلق ” الأنا ” إلى الغابات والحقول ليبتهج بنصل عشب وحيد أو بحبَة بطاطس.

وفي الجزء الخامس من المقالات الحديثة ، يبدو أننا  قد حصلنا على طريقة  الإمتاع و فن الكتابة . ولكن ، كي نكون عادلين في الإشارة إلى كتَاب مقالات العام 1920يجب أن نكون واثقين أننا لا نمدح المشهورين منهم لأنهم قد نالوا على المدح حاليا والأموات منهم الذين لن نلتقي بهم أبدا حينما كانوا يرتدون طماق الكاحل في بيكاديلي” وقاء للجزء الأعلى من الحذاء محيط بالكاحل .. المورد الحديث ”  . ويجب أن نعرف ماذا نعني حين نقول إنهم يستطيعون الكتابة ويمنحوننا المتعة . ويحب أن نقارن بينهم ؛ ونميز النوع . يجب أن نشير إلى ذلك ونقول إنه جيد لأنه دقيق ، وحقيقي ، ومتخيل :

كلا ، إن الرجال المتعبين لا يمكن أن يقدموا ذلك النوع من الكتابة ،حينما أرادو ، ولا يريدون، حينما يكون ثمة سبب ؛ ولكن نفاد صبر الفردية . فضلا عن العمر والمرض ، اللذان يحتاجان إلى رعاية ، مثل البلدات القديمة : سيبقون جالسين  على شوارعها ، رغم أنهم وصلوا إلى أرذل العمر والاحتقار …

ونقول لهؤلاء ، إنَ كتاباتهم كانت سيئة لأنها منفلتة ، ومقبولة ظاهريا حسب، ومألوفة :

وبمجاملة وبسخرية كلبية على شفتيه ، فكر بهدوء وهو في قاعات الموسقي  ، وخرخرة المياه التي  تغني تحت ضوء القمر ، و الأروقة حيث الموسيقى العذبة تتنهنه في ليلة مفتوحة ، والسيدات الأمهات الطاهرات ذوات الأذرع المصونة ،والعيون الحذرة ، والحقول الغافية تحت أشعة الشمس ، والمسافات المحيطات المتنهدة تحت دفء سماوات هائلة ، و المرافئ الساخنة ، الفاتنة والمعطرة …

 

وتستمر الحكاية ، وثمة صوت يذهلنا الآن بيد أننا لا نشعر به ولا نسمعه . والمقارنة تجعلنا نشك في أنَ ذلك الفن من الكتابة هوالعمود الفقري والمصادر العنيف للفكرة . إنه يكمن خلفها ، يؤمن بتحريمها أو يراها بدقة  وهكذا يرغم الكلمات على اتخاذ شكل لها ، وأن تلك المجموعة المتنوعة التي تضم لامب و بيكون Bacon ، والسيد بيربوم وهدسن ، وفيرنون لي Vernon lee والسيد كونراد Conrad ،ولسلي ستيفن ، وبتلر ، و والتر باتر وصلوا إلى أقصى شاطئ . وثمة مواهب متنوعة جدا ساعدت أو عوقت مرور الفكرة إلى داخل الكلمات , وبعضهم كان يحفر أعماله من خلال آلامه ؛ البعض الآخر كان يحلق مع كل ريح مفضلة . لكن السيد بيلوك والسيد لوكاش والسيد سكوير لم يكونوا ملحقين أبدا بأي شيء قائم بذاته . إنهم يشاركون في المعضلة المعاصرة … التي يعوزها إيمان عنيد لإزالة الأصوات المرحلية من خلا ل الجو الغامض لجسد اللغة إلى بلاد فيها زواج أبدي ، واتحاد أبدي ، وغموض لكل ما هو واضح ، وينبغي على المقالة الجيدة أن تحيط بكل هذه الصفات النوعية الثابتة . ولكن يجب أن تسدل ستارتها من الداخل حولنا وليس من خارجها .

 

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *