محسن الخفاجي ومصادر قصصه… مجموعة ” حمامة القنصل ” أنموذجا

خاص- ثقافات

*داود سلمان الشويلي

هل للاديب مصادر ينهل منها ما يكتب من نصوص ادبية ، شعر او قصة ، او رواية … الخ ؟ وهل يمكن الوصول لها ومعرفتها ؟
تساؤل اراه قد جاء في وقته ونحن ندرس تجربة القاص والروائي المرحوم محسن الخفاجي القصصية.
ان كاتب القصة ، كأي كاتب فن كتابي اخر ، يعتمد مصادر مختلفة كي يكتب ما يريد ، وهذه المصادر تتنوع وتتعدد ، الا ان المصدر الرئيس فيها هو الواقع الذي مهما نضب فانه يبقى يزود اي كاتب بما يريد .
ويبقى الواقع هو المانح الرئيس لكل المصادر الاخرى ، اذ تبقى تلك المصادر ثانوية نسبة له ، ومنها الماضي ( السحيق والقريب ) كزمن ، والماضي كمخزون في الذاكرة ، في طليعة المصادر الثانوية .
اما المستقبل فهو ايصا يعد مصدرا ثانويا ، الا انه يعتمد الحاضر والماضي في تكوين صورته ، اي انه يبنى ما يريد ان يبنيه بادخال الحاضر والماضي في معمل المخيال ليخرج ما يمكن ان نسميه حوادث مستقبلية ، كأن تكون قصة او رواية من الخيال العلمي مثلا .
ومن الماضي يمكن استلهام ما فيه من اشخاص وحوادث وامور اخرى ، اي جعل الماضي في  استلهامه مصدرا للرواية او القصة.
والمصدر الرئيس الثاني هو النتاج الذي سبق هذه القصة او الرواية ، او رافقها ، و  بكل تجلياته الادبية وغير الادبية ، وهو واقع ايضا ، الا انه واقع لبس ثوبا اخر ، فكان المدون في الكتب من خلال التناص معه.
اذن امامنا مصدرين رئيسيين احدهما الواقع بكل تجلياته ، ويتفرع منه المستقبل، والحاضر ، والماضي ،  والاخر وهو المدون في الكتب وهو ايضا واقع دخل في مخيال اخر وخرج بصورته التي تناص معها نص الكاتب.
محسن الخفاجي قاص و روائي ستيني كبير ، وقد نشر له : سماء مفتوحة الى الابد ( مجموعة قصصية مشتركة – 1974 ) ، ثياب حداد بلون الورد ( قصص – 1979 ) ، طائر في دخان ( قصص – 1996 ) ،ايماءات ضائعة ( قصص – 2001 ) ، وشم الدم على حجارة الجبل ( رواية – 1983 ) ، العودة الى شجرة الحناء ( رواية –  1987) ، يوم حرق العنقاء ( رواية – 2001 )، وكان في كل ما كتب ونشر من قصص وروايات ينهل مواضيعها ، او افكار تلك المواضيع ، من المصدر الرئيس الاول وهو الواقع ، والمصدر الثاني وهو المدون الذي يتناص معه في الكتب بكل تجلياتها الادبية وغير الادبية .
تأتي قصة ( شارع الزواج في لكش ) مثالا لاستلهام القاص للتراث ، اي من الواقع الماضي السحيق ، إذ انه قدم في هذا النص قصة عن الحاضر بثياب الماضي ، انه تناص تخيلي مع الاثار.
اما نص قصة ” قناع بورشيا ” فانها جاءت ممثله لتناص القصة القصيرة مع عمل ادبي من جنس اخر هو مسرحية ” تاجرالبندقية ” ، اذ تناص معها ، وقدم القاص الخفاجي واحدة من القصص الفنية الناضجة . ( راجع دراستنا عنها في مجلة الاقلام “تناص الاجناس الادبية – قراءة تناصية في قصتين قصيرتين” ، في العدد المزدوج /5-6 – عام 1993 .) .
اما التي استلهمت من الواقع الحاضر فكانت نصوص مجموعته القصصية ( حمامة القنصل ) ، وهو عنوان احدى قصص المجموعة ، والتي استلهمت من الماضي القريب للشخصية ، اي ان القاص قد استمد موضوعاته من حقائق حياته الشخصية، من تجاربه و تجارب الاخرين ، وكذلك حصل هذا في الكثير من النصوص السابقة لها التي ضمتها المجاميع القصصية  الاخرى.
” حمامة القنصل ” الصادرة عن ” دارمقهى للنشر والتوزيع – 2015 ” ، تضم نصوصا قصصية تعالج فترة زمنية محددة هي فترة سجن القاص في معتقل ” بوكا ” الامريكي في العراق ، لاسباب عير معنيين بذكرها في هذه السطور .
ان النصوص التي ضمتها هذه المجموعة هي شهادة مغموسة بالالم والحزن الذي خلفه الاحتلال الامريكي للعراق ، إذ انها تحكي لنا عن عالم اخر لم يألفه الخفاجي في حياته من قبل ، وهو الانسان المسالم ، عالم السجن ، السجن بيد الامريكان بين مجموعة من السجناء الذين لا يعرفهم ولا يعرف اسباب سجنهم ، الا انه وجد نفسه بينهم فخرج من هذه التجربة الاليمة منكسر النفس وهو يردد مع المتنبي قوله :
رماني الدهرُ بالأرزاءِ حتّى… فؤادي في غشاءٍ من نِبالِ
فصرْتُ إذا أصابتني سِهامٌ …تكسّرتِ النِّصالُ على النِّصالِ
البيتان اللذان صدّر بهما مجموعته القصصية هذه ، وكأنه يقدم نصوصه لنا لنعرف مدى الالم الذي ذاقه في ذلك السجن التي تنضح نصوصه منه في تلك الفترة .
في هذه المجموعة نجد القاص قدم نصوصه باسلوب (ضمير المتكلم) ، وهو يقول عن استخدامه لهذا الاسلوب في مقابلة له : (( الكتابة بأسلوب ضمير المتكلم خدعة يعتمدها الكاتب لإيهام القارئ بقربه من لب الموضوع وبوضعه في موضع البطل السارد العليم. كان مورافيا يفضله على أي أسلوب آخر وانه يلائم منجزات العصر وربما يساعد هذا الأسلوب على توظيف التجارب الشخصية للكاتب ولصقها بتجارب بطله. لو أن مورافيا أراد أن يكتب سيرة ذاتية فإنه سيكتب مثلما يكتب قصصه ورواياته ولن تجد خلافا بين هذا وذاك.
الكتاب الماهرون هم الذين يتركون مسافة محددة بين تجاربهم الشخصية وتجارب أبطالهم على الورق. ومهما يكن فإن الحياة ليست هي المنارات الخيالية على الورق. )).( من حوار اجراه عباس منعثر معه وقد نشر على صفحة القاص في حينها ).
يصف  سجن ( بوكا ) والذي يسميه الوادي المقدس ، بمقطع مكثف ، فيقول : ( اذا وصلت الى بوكا ، فتذكر انك في الوادي المقدس . هنا تعذبت ارواح ، وتوقفت اعمار طوقها الغزاة بسيل رصاص متواصل واعد الجنود رؤوسهم بأعواد الكافيين .
هنا امتلات اجواف السجناء بالكولسترول ، وقتل كثيرون برشقات رصاص غادر . عاشوا مع الذباب والفئران والعقارب والافاعي من كل صنف … الخ ) ( ص 15 ).
والوادي المقدس هو الوادي الذي تقف فيه حافي القدمين ، لا تتكلم فيه ببنت شفة ، تسمع فقط وتنفذ ما تؤمر به .
هكذا قضى القاص فترة سجنه ، في هذه الاجواء المملة و القاتلة ، مع الذباب والفئران والعقارب والافاعي .
تنبأ القاص بموته في نص ( عمي فرناندو ) ، إذ جاء على لسان الطبيب الفاحص للسجناء في السجن الى البطل ، وهو القاص نفسه ، قوله: (( اسمع سأحدثك بصراحة متناهية ، انت غير مصاب بالسكري ، ولكن ضغطك مرتفع ، عليك ان تراجع طبيبا حين تغادر المكان ، والا فستموت بالجلطة … )).
كانت هذه الاشارة هي واحدة من تنبؤات القاص بما ستؤول اليه حياته ، فقد اصابته الجلطة التي ادت بعد سنوات قليلة الى موته .
كان الشيء الوحيد في ممارسة حريته في السجن هو عند النوم ، اي ان يحلم ، الا انها حرية مقيدة ، لان الحلم الذي يترآى له هو الحلم الذي يرى فيه نفسه وهو في اجواء استثنائية و غير صحية ، يقول في نصه القصصي ” قطرات من ماء السراب ” : ( حلمت انني اركض في صحراء كلها رمال تطير كدوامات في الهواء الخانق ، وتحرق العيون ، ولا اصل الى مكان . الذئاب تلاحقني حتى في النوم . تنطفئ الاحلام وتموت ، م ن دون امل بالعثور على حل ، لا خلاص . الحلم يتحول الى كابوس ). ( ص18 ) .
وكانت الحرب بالنسبة الى القاص محسن الخفاجي هي الحرب كما قال احد شخوص قصته ” الخائن والجنرال وحبات السكر ” من المجموعة ذاتها ، كانت هاجسه الاساس في كل ما كتب ، خاصة روايته ” يوم حرق العنقاء” التي كانت من خسارات بطلها انه قد خسر حبيبته  ، فضلا عن الخسائر الاخرى .
ان موضوعة الحرب التي اخذت بلب القاص منذ نصوص المجموعة القصصية المشتركة حتى اخر ما كتب من نصوص قصصية او روائية ، كانت الهاجس الاول له .
ففي مجموعة ( حمامة القنصل ) ، نجد ذلك ، لان النصوص التي ضمتها المجموعة تنضح بما الت اليه الحرب ، لنستمع الى قول احد شخوص نصه القصصي ” الخائن والجنرال وحبات السكر ” : ( – الحرب هي الحرب ، سرقات في العلن ، اكاذيب وتضليل وخسائر فادحة ) ( ص12 ) .
ومن تلك الاكاذيب ما رواه القاص في قصة ” المحكمة المفترضة للمتهم البريء” اذ يكيلوا التهم لبطل القصة كذبا ، وهو السارد – القاص نفسه.
يقول فيها : (المحققون رموا عليّ تهما عديدة بلا أدلة ولا شهود ولا يمكن الفكاك منها) . ( ص49 )
في هذه المجموعة ينقل لنا القاص بعض من هموم السجناء ، وايضا السجانين ، يقول عن احد السجناء:
( لم ار سجينا مثل احمد.
إدعى الجنون ، ليهرب من التحقيقات ) ( ص20 ).
وقال عن الضابطة الامريكية الشقراء السجانة : ( – سأسافر الى ولاية الينوي ، لاحضر زواج امي من عشيقها .
– وابوك ؟ ما موقفه ؟
– انفصلا منذ عامين . لم يعد اي منهما يهتم لمصير الاخر .
– اذا كان عمرك الان 38 عاما فكم يكون عمر امك ؟ هل هي ملائمة لكي تكون عروسا في سنها ؟
قالت بهدوء :
– الحب لا يعرف القوانين . ) . ( ص21 ).
وفي نص ” حمامة القنصل ” الذي يحمل مفارقة كبيرة ، فبعد ان امسك احد السجناء بحمامة ونتف ريشها علم من ورقة مربوطة بالحمامة انها حمامة القنصل الانكليزي في جدة ، فينتظر السجناء نمو ريشها الذي نتفوه ليطلقونها ، الا ان الامريكان يخشون ان يرسل هؤلاء السجناء رسالة الى ذلك القنصل يشرحوا فيه معاناتهم في السجن ، الا ان الاوامر تأتي بنقل هؤلاء السجناء الى سجن اخر ، وهنا المفارقة ، إذ عندما يمرون وهم راكبون بالشاحنة يرون مجموعة من الجنود الامريكان وهم يطلقون النار على الحمامة ،يقول النص : (في طريقنا مررنا بحلقة من الجنود الأميركيين يطوقون الحمامة ، ويطلقون النار عليها ، من كل صوب ، وهم يتسلون ضاحكين).( ص30 )
انه فعل انساني يقابله فعل غير انساني .
وهكذا كانت نصوص الخفاجي القصصية شهادة مكتوبة على جرائم الاحتلال الامريكي بما نضحت به من الواقع المعاش لسجناء ابرياء لا ذنب لهم سوى انهم عراقيون يحبون بلدهم العراق .

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *