على هامش السوابق واللواحق في “أسرار شهريار”

خاص- ثقافات

* الحبيب الدائم ربي

ربط اللاحق بالسابق

      قد تفيدنا نمذجة جيرار جينيت للعبريات النصية  في ترسّم خطى الإنتاجية النصية لرواية “أسرار شهريار”، ما دامت السوابق(الهيبوتيكست) هي حبل السرة التي يمتح منها الأنساغ . وبالتالي فهي تضم حيثيات كثيرة. منها ما هو تراثي(ألف ليلة وليلة) ، وما هو سياقي(الاشتراك في كتابة نص)، وماهو أجناسي(الاحتكام إلى قانون تسريدي محدد) . بيد أن هذه المسبقات الخام قد تصبح، خلال الكتابة آلية من آليات التلحيق (الهيبرتيكست) الذي يصيّر ” الأصول” موضوعا للمحاكاة والتحويل والخرق. أي أن المهاد النصي يغدو ذريعة لكتابة تبغي إنتاج المختلف من المؤتلف، أو الجديد من القديم، في مجازفة لا يركبها إلا من له دراية بالتراث من جهة، وخبرة بحاضر الكتابة من جهة أخرى. ونتغيّا  في  هذه الورقة الإشارة، برفق شديد، إلى جدلية   الظاهر والباطن، وتفاعل الصورة والمثال(السيملاكر) في  رواية “أسرار شهريار” التي عمدت، كشأن الأعمال السردية التي وظفت النص التراثي، إلى جعل الدوال الجديدة تسحب المعنى من القديمة، بل تصيرها مجرد دوال لمدلولات جديدة مرتجاة.

 جينيالوجيا “الأسرار”

           تخلقت “أسرار شهريار” من تواطؤ إبداعي  بين كاتب من المغرب(حميد ركاطة) وآخر من مصر(شريف عابدبن) على كلمة سواء، وكلاهما، بالأساس، كاتب قصة قصيرة جدا،وإن كانت له سوابقه الروائية.  ولأنه، من الناحية المبدئية، لا اعتراض على خوض الأديب في مختلف الأجناس القولية، مادام الوفاء لجنس أدبي دون آخر، بادعاء التخصص،  محض وهم ٌ أو إلى ذلك أقرب، ومادامت الطبيعة متقلبة، من حال إلى حال، وما الأشكال التعبيرية سوى تجليات لهذا التقلب المستمر، فإن ما يحرك الأسئلة هو مدى إمكانية  تحويل الهمّ الفردي إلى “كتابة مشتركة”، سيما  في المجال الأدبي، حيث مايزال  يسود الاعتقاد بأن الممارسة الأدبية، كشأن الأسلوب، هي فعل فردي يضاهي البصمة الشخصية، ولا تكتسي طابعا  جماعيا إلا في ملامحها العامة التي تضعها الترسيمات النظرية والنمذجات، أي أن الفرق بين ما هو فردي وماهو مشترك كالفرق بين اللغة والكلام وفق تمييز ناعوم تشومسكي.من ثمة  ماتزال هذه الكتابة(بصيغة التثنية أو الجمع) مثار ارتياب وتشكيك رغم كثرة النماذج الداحضة لهذا المزاعم .

       لا مراء في كون الاشتغال الثنائي  والمتعدد(في منتج مشترك)  يبدو مقبولا في المجالات العلمية والاجتماعية ، بل وفي التوليفات الشعرية والأضمومات القصصية، ناهيك عن الممارسات الفنية الأخرى ماعدا أن يشترك أكثر من كاتب في كتابة نص أدبي من حجم الرواية وخصائصها. وحين يتم ذلك فلا يعدو أن يكون نزوة وتجربة قد لا تتكرر، هذا على الأقل ما ألفه التلقي وما كرسه الفعل الإنتاجي . نحن نعلم أن المدونة الروائية قد عرفت، عالميا وعربيا، نماذج ناجحة لهذا “الإجراء المشترك”، لولا أن منظومة التلقي، لدينا، ظلت مصرة على التفتيت الاعتسافي، للوحدة العضوية لنصوص من هذا القبيل، في كدّ يائس للبحث عن مساهمة كل كاتب في هذه الشراكة المثيرة للاستغراب، لفظا وبناء وتخييلا . حدث هذا في الأدب العربي، مثلا، حين “استهم” طه حسين وتوفيق الحكيم في رواية” القصر المسحور”،  وعندما أصدر عبد الرحمن منيف وجبرا إبراهيم جبرا رواية”عالم بلا خرائط” . من السهل الدفع بكون الهمّ الأدبي، في جوهره، هو تموقف وجودي وبالتالي فهو مشترك، وتشييده سرديا، وبشكل جماعي، قابل للإنجاز، خاصة وقد دعمت التكنولوجيات الرقمية ووسائط التواصل إمكانات بلورته نصيا، ضمن ما أصبح يطلق عليه اليوم “كتابة رواية في ليلة واحدة”. ونحيل هنا على رواية ” العيش بجوار التيلول” Vivre Près des tilleuls (2012) التي شارك في كتابتها ثمانية عشر(18) كاتبا  سويسريا، وهذا أمر غدا في حكم المألوف في ورشات الكتابة الروائية اليوم، وفي الويكي والسرود التفاعلية .ونحسب أن ما قام به الأستاذان حميد ركاطة وشريف عابدين(ولامشاحة في الترتيب) يندرج في هذا السياق، لا كحيثيات وحسب وإنما كذلك كأحد دعائم المتن الإنتاجية .نلمس هذا  الاستثمار  تحديدا في الفصلين الثالث والرابع، إن على مستوى التوظيف المعجمي للمصطلحات الحاسوبية و الرقمية أو على مستوى تحريك شخصيات الرواية وفق  آليات التواصل عبر الوسائط الاجتماعية.

شهريار الجلاد شهريار الضحية

     غالبا ما تم النظر إلى “ألف ليلة وليلة” من زاوية ما روته  شهرزاد وهي ترجئ موتها المعلق على حد  الحكاية، بالنظر إلى ما يكتسيه ذلك من أهمية سوسيوثقافية وتخييلية،  ولا اعتراض على ذلك سوى أن في هذا المنظور شبه  تغييب لفاعل مركزي هو شهريار، الذي صيّره التلقي مجرد محرّك أول فاضت عنه الوقائع والتداعيات فانتهى دوره هنا . ليتم التعامل معه كشخص سادي بلا قلب وبلا أسرار تقريبا، عدا  حسه النزوي  وهواه الشاذ. والحال أن “الليالي” لياليه هو، ولولاه ما كانت أصلا . حتى أن شهرزاد نفسها تظل، قياسا إليه، مجرد “أرجوز”  تحركها، من خلف الستار، خيوط شهريار،  المطوي على أسراره وألغازه،  التي لو رواها ما كفته “الف ليلة وليلة” . علما بأنه كان الجلاد والضحية في آن، والصفة الثانية لا تجبّ الأولى، هذا على الأقل ما تحاول سبره “المغامرة الروائية” التي خاضها الكاتبان شريف عابدين وحميد ركاطة في كتابهما المشترك”أسرار شهريار” (252صفحة)،الصادر عن دار النابغة(مصر، 2017) حيث  يتم إنطاق شهريار بما كان وما لم يكن في محاكمة لا تقبل طعون التقادم. والمتن  يبغي إعادة رسم الجانب المعتم من سيرة شهرزاد وشهريار، باعتبارهما مرصودين لأشراط غير متحكّم فيها، ومسؤولين عما اقترفاه من تجاوزات إزاء بعضهما، حتى لكأنهما القدر الذي شدهما إلى بعض زجا كي تزهر  الحكاية وتتوالد .وضمن هذا التصادي الذي   يتوالج  ضمنه التاريخي بالعجائبي  والواقعي والمرجعي بالوهمي   يغدو الزمكان مفارقا،  أو معدوما، من الناحية الواقعية رغم وفرة المشيرات الواهمة بالممكن والاحتمال. إذ لا فواصل بين الماضي والحاضر، ولا الهنا والهناك،  إلى درجة أن الشرق والغرب يتوحدان في مكيدة، وكلاهما للآخر عدو مبين.

حكاية الأسرار

       تنطلق الحكاية من هدية مسمومة مغلفة بعسل الخديعة، اسمها لوار سكافيجر، يبعثها حاكم الغرب، هي ووصيفتها (براينديل) في موكب محمّل بالهدايا، لحاكم الشرق تابش أفتاب، بغية درء مخاطره و اختراق مملكته لغايات لا يتم الإفصاح عنها مسبقا. ولم يكن سهلا  على  ملك الغرب أن يمنح الشرق جزءا من “كبد الغرب” لكن المصلحة العليا للوطن قضت بأن يضحي بأجمل الجميلات وأحبهن إلى قلبه بعد الملكة، هي ووصيفتها ، عسى  أن تشهد الحدود الفاصلة بين الغرب والشرق حدثا تاريخيا(ص5) . وفي رحلة ملحمية طويلة ستنيخُ لوار بقصر الشرق بعد أن تحظى باستقبال يليق بالملكات. وشيئا فشيئا ستصيّر الملكَ المتيم بجمالها طوع بنانها، بل ستجرده تدريجيا من هيبته ومسؤولياته لتزرع رجالها في السلطة، وتحوّله، في الأخير، إلى أضحوكة أمام قومه، سيما وأنها باتت تخونه، ووصيفتها، علنا، مع أحد خدم القصر (كوشي) . وإمعانا في المهانة ستناولُ الملكَ العاجز عقارا مزعوما لاستعادة الباه، وما هو إلا سمّ سيؤذي به، ليخلفه ابنه شهرور (بالتصغير) المخنث العاجز أمام أمه ورجالها، المتحكين في البلاد والعباد، وازداد وهنه(وهوانه) وهو يتزوج “بهرمه” التي ستكرر سلوك الملكة الأم (لوار)، حتى أنه حين طلب نقاهة في بيت أخيه شاه زمان رأي كيف أن زوجة هذا الأخير”مع بعض الجواري والعبيد يمارسون الفحش، في مجون فاضح”(ص. . ص 111 .112) . هكذا ستظلم الدنيا في عينيه إزاء كل النساء، إذ أمر بإحراق باه راما (بهرمة)، وإحراق كل فتاة يتزوجها انتقاما للخيانة الأولى، وبحثا عن أنثى عفيفة، حيث انتهى أمره بالزواج من شهرزاد ابنة  وزيره دندان، التي “على مدى ألف ليلة وليلة، حكت للملك ما يقرب من مائتي حكاية كانت آخرها قصة معروف الإسكافي”(ص149) ولأنها، في المقابل، أنجبت منه ثلاثة أبناء فقد عفا عنها، لكن ما بعد ألف ليلة وليلة هو سر الأسرار الذي سوف يتم انتزاعه من شهريار في جلسات طبية ومحاكمات ودوائر مغلقة عبر الوسائط الاجتماعية، قد تمثل فيها شهرزاد إحدى الضحايا و شاهدات الإثبات.

       ولئن كان من الصعب تلخيص حكاية ” أسرار شهرزاد” فإن ما سبق يقربنا من الأجواء الكرنفالية التي تدور فيها أحدات هذه الرواية المثيرة في مقاربتها لـسوابق “الليالي” لتبني على ذلك اللواحق  في مسعى للبحث عن المشترك الإنساني في كل زمان ومكان، وفي الآن ذاته لتشييد سردية تمتح من التراث لاجتراح منتج جديد، ما لم نقل حداثي.

معالم في الطريق

    يكفي تأمل “لعبة الأسماء” في “أسرار شهريار” لإدراك البعد التغريبي الذي ارتآه الكاتبان قصد كسر الإيهام لدى المتلقي في وقائع “لياليهما”. فبغض النظر عن المنظومة المرجعية التي تم اعتمادها في تسمية الأمكنة (الشرق، الغرب) والشخوص(لوار سكافيجر، براينديل، تابش أفتاب، كوشي، بهرمة، دندان، شهرور، كارسناش، ستمكار، إلخ)، فضلا عن تسميات قليلة مألوفة،  فإن ذلك ينقل المتلقي من سابق(الليالي) إلى لاحق(الأسرار) . ونلمس هذا في المراوحة بين إبدال قديم (الرحلة، تقديم النساء بوصفهن هدايا، المواكب البطيئة، إلخ)، وإبدال جديد(المرحلة السيبيرنيطيقية)،  من خصائصه الاتصال الجماهري والإبحار عبر الوسائط في عوالم افتراضية، بما في ذلك التواصل مع كائنات من المريخ. والرواية ضاجة بالمصطلحات الدالة على هذا الإبدال الأخير(أسماء البرمجيات، الذكاء الاصطناعي، غرف الدردشة، إلخ) . لهذا    فإذا كانت “ألف ليلة وليلة” قد تقيّدت بالأفضية العربية(وخاصة العراق والشام)، من حيث أسماء الأمكنة والشخوص وغيرها، فإن “أسرار شهريار” طمست المعالم وكنّتْ عنها بإحداثيات غير مسوّرة بحدود معلومة.

رواية المابعد

       لقد “سبق السيف العذل” وقضي الأمر، ولم يعد من الممكن تفادي ماكان. هذا ما تقرره روايات “ما بعد القيامة” التي بدأت تنشط في تشخيص “الإفلاس العام” الذي حاق بالقيم والنماذج. وصار تركيزها على إحصاء التداعيات وتوصيف العقابيل. فلا مستقبل في الأفق ولا أمل في إصلاح ما تم  تخريبه.

       ولئن كانت الرواية الغربية قد لجأت إلى الاهتمام بهذا البعد القيامي للتحذير من المخاطر التي تتهدد البشرية جراء الحروب والتجارب العلمية غير المقيّدة بالضوابط الأخلاقية، فإن لجوء الروائيين العرب، ومنهم كاتبا “أسرار شهريار”،  لتيمة “المابعد” أملته الاختيارات السياسية التوتاليتارية التي أوقعت الشعوب والأمم العرب في المحظور. بحيث صار المستقبل ماضيا، أو على الأصح لم يعد هناك أفق ولا أمل في المستقبل. فكل تطلع إلى المستقبل مات و فات، والقيامة قامت وحشِرت الأعمالُ، قصْد الإنصاف والمصالحة، جبرا لخواطر كثيرة مكسورة. لأن المحاكمات، حينها، تظل صورية ولن تعيد الحياة لقتيلات شهريار أو تصلح أمرا أفسده. لكنها مع ذلك قد تستمد دلالتها من رمزيتها في التأكيد على أن الحقوق لا تقبل التفويت ولا التقادم، حتى خارج نطاق الزمن المرجعي . وتصطدم كتابة “المابعد” بجدار الزمن، لأنها وهي خارجه لا مكنة لها أن تلغيه. نلمس هذا في “أسرار شهريار”  حيث تتوحد الأزمنة في الدينوية وتنصهر الأمكنة في “الأثيري”. كما نلحظه في التواصل الخارق لقانون الطبيعة بين كائنات “قديمة” وأخرى”محدثة” ضمن فضاءات أرضية وأخرى من “المريخ” وثالثة افتراضية.

     وما يمكن استنتاجه من هذه الرواية الإشكالية في تخلقها، والإشكالية في بنائها، والإشكالية في دلالتها الجلية أو الخبيئة. هو كونها، وهي تقيم محاكمة لـ”شهريار” لا تبرئ “شهرزاد”، فكلاهما مسؤول وكلاهما لغريمه الأزلي عدو لذيذ وشريك أبدي.

*أسرار شهريار، شريف عابدين وحميد ركاطة، دار النابغة للنشر والتوزيع، سلسلة الإبداع العربي، طنطا(مصر)، 2017.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *