اعتذر عما فعلت..


*يوسف أبولوز

قد يجري تفهم خطأ عابر ارتكبه ناقد أدبي، في حق نص شعري أو روائي في نوع مما يسمى زلات اللسان أو زلات القلم، وقد يعتذر الناقد عما فعل وتطوى الحكاية في حدودها النقدية الخاطئة.. التي إذا كانت خطأ عابراً فهي ليست ضارة.. ولكن هناك أخطاء كبرى يرتكبها نقاد الأدب لا يصلح معها الاعتذار، والغريب أن غالبية النقاد لا يعتذرون عما فعلوا.. فالناقد في داخله عادة طاغية أو عسكري صغير يحذره دائماً من أي خدش لسلطة النقد.
عندما أعلن محمود درويش قبل سنوات من رحيله، أنه كان يرغب في أن يتخلى عن نصف شعره، فهو كان يقصد ذلك الشعر الذي كتبه في الستينات والسبعينات من القرن الفائت.. وآنذاك لم يكن درويش في ذلك الشعر هو درويش الذي في «محاولة رقم ٧».. أو في «الجدارية»، أو «لماذا تركت الحصان وحيداً».. لم يكن درويش المرحلة الستينية هو درويش أواخر الثمانينات والتسعينات وما بعد ذلك الزمن الشعري لصاحب «أوراق الزيتون».. وربما كانت تلك «الأوراق» هي المقصودة بالتخلي الذي أعلن عنه واحد من أكبر شعراء العربية حتى بعد رحيله.
مرّ تصريح درويش مرور الكرام كما يبدو، والنقاد الذين انهمكوا في تطريز مطولات قرائية تحليلية «إحالية» لشعر الرجل لاذوا بالصمت أو كأن على رؤوسهم الطير كما يقولون، أو بكلمة ثانية كأن درويش صفعهم بجماع يديه على وجوههم.

حقاً، إنه لأمر محرج أن يكتب الناقد عن نص شعري لشاعر ما، وإذ به هو أصلاً لا يعترف بينه وبين نفسه بهذا النص، وإنه لأمر محرج أيضاً أن ينهال الكثير من النقاد -على سبيل المثال- كتابة وقراءة على المجموعة الأولى للشاعر إبراهيم نصر الله، ولكنه قد أبعد هذه المجموعة بالذات من ذاكرته، ولا يأتي عليها لا من قريب ولا من بعيد، ذلك أن إبراهيم نصر الله في مطلع الثمانينات ليس إبراهيم نصر الله في الألفية الجديدة على سبيل المثال.
غير أن النقد الأدبي بنى مجده كما بنى مجد الكثير من الشعراء على نماذجهم الخمسينية أو الستينية أو السبعينية وشعراء تلك المراحل مثلهم مثل محمود درويش، تقبع في دواخلهم رغبة قوية نحو التخلي عما كتبوه سابقاً، والتخلي عما كتبه النقاد عنهم استناداً إلى تلك النماذج الشعرية.
لماذا يكابر النقد الأدبي، ويظل يكابر.. ثم لا يعتذر؟ والأسوأ من ذلك أن يتدخل الناقد في عمل المؤسسة الأكاديمية ويعطي درجات جامعية خلافاً للأنظمة والقوانين الجامعية المتعارف عليها.
كان النقد الأدبي في مرحلة المد اليساري بوقاً للأيديولوجيا «الحمراء» وكان «النقاد الحمر» يحفرون في النص الشعري للبحث عن شبيه لماركس أو لينين في القصيدة حتى لو كانت عرجاء.. وبوق نقدي كهذا هو كارثة على الشعر.
على الأطراف كان ينمو عدد من النقاد.. الأقلية منهم مستقلون تماماً بثقافات عالية وأقلام نظيفة، وبعض النقاد كانوا رماديين أو حرباويين.. لا هم حمر ولا هم بيض، ولا هم سود. خليط من النظريات و«كوكتيل» من المفاهيم، وانعدام للرؤية وقراءات انطباعية.
صورة ملتبسة وكئيبة بالتأكيد.. ولكن ليس إلى هذا الحد، هناك أسماء نقدية عربية تحترم نفسها.. وتحترم الحقل النقدي العلمي بشقيه الأدبي والثقافي.. وهؤلاء يعول عليهم.. وكل نقد لا يعتذر عن أخطائه.. لا يعول عليه.
____
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *