هنا بغداد….. مَنُ السِما

خاص- ثقافات

*نداء يونس

 

كان الله يطلع صباحا على بغداد، أعرف أنه الله، إذ يأتي الصباح هكذا بلا مقدمات، لا عتمة تنسحب بهدوء ولا صباح يستأذن للدخول، كل الأشياء متطرفة في بغداد حد القسوة والجمال، كل شيء مقلوب ومجنون وخارج النص، يتوازن على الحافة ويقف في مواجهة دائمة، كأنه عالم خلقته أنا.

*****

هنا لم أكن أنام، كنت أراقب الليل ينزاح ستارة ستارة، لأن قمرا مشمشيا كان يخمش عتمة روحي ويملؤها بالفضة السائلة والأغنيات، كنت أدرك عاليا حاجتي للنوم كي أدرك المسافة للصحو، والفرق بينهما. كان كل ما هنا حلم، او تذكرة لحلم.

*****

كنت أغفو

بعد أن يعلمني قمر ناقص

الكلام.

*****

في بغداد كسبت، وفيها خسرت وفيها هُزمت ومنها خرجت عناتا أو أرورو.

*****

هنا الكلام ليِّنٌ مثل القيمر، وهنا نخل وقمر وعيون كالشبابيك مفتوحة على ما في القلب، تطل على الخراب والأمل.

*****

هنا بغداد حيث قبة – تحاكي قبة الصخرة المشرفة- معلقة على نصب تكاد تنطق: سلاما الى الأصل، منك يا قدس المغفرة.

هنا المتنبي والرشيد يطلان على العابرين في ميادين وسيعة، هنا تصنع الأصنام وتسقط، وتصنع مرة أخرى وتهدم. في كل ميدان تعيش اسطورة. في هذا الميدان علي بابا والجرار، وفي آخر بساط الريح لكنه الجني في الميدان الوسيع ترك القنديل ليحرقه.

*****

هنا التاريخ والكتب

وهنا توضأت بالهواء وبالإزار وبالجدران والحضرة.

هنا كفرت

وآمنت

ورأيت انعكاس الروح التي خرجت من جسدي الحي

عن زجاج كثيف مكسر

في سقوف المساجد والأضرحة

هنا القداسة والوناسة والدِنُ الخالي

الـ ينتظر من يملأه.

هنا بغداد التي تحيّي الحزن وتُحَييه بالأغاني والفرح،

هنا أرض حبلى بالغزالات والصيادين والميادين وفلسطين

هنا شارع مثلا يحمل اسم حيفا.

*****

هنا تسمع عن كل فكر وفيها من كل طائفة، وهنا يُقتل المرء صدفة أو لأن ثمة صفقة ما تريد ان يكون العراق جارية تباع وتشترى، او عبدا، والعراق السيدة.

العراق السؤدد، سواد العين، الكحل والمرود، هو البيت والدفء والرضى والمغفرة.

*****

بغداد المرايا أنّى شئتُ تعكسني، فيها الشيماء والزوراء والحوراء آية أخرى، وفيها تحت كل نخلة شاعر، حيث الشعر أصل لا يباع ويشترى.

*****

هنا ينقلب التاريخ على الحضارة، أعادوا تسمية مسجد في العراق “ابن تيمية”، قال المتحدث، هي قصة طويلة وسكتْ، وسكتُ قطعا لأنني أعرف قطعا أن القصة طويلة.

*****

هنا داعش، وضحايا الاختلاف الذين عادوا إلى البلد، وذاكرة عن القمع والقتل طازجة، هنا الشهداء بالآلاف لكل سبب وبلا سبب، وهنا جدران وحواجز وجند بلا عدد، وقتلة من كل بلد.

*****

لا شيء في بغداد لم يذهلني، هنا يرتبون التاريخ والطوائف والذاكرة بنسق بديع وفخامة عالية، “حتى في الاثاث” قالت شيماء الشيخلي، الصحفية الجميلة من جريدة الصباح شبه الرسمية، والتي عوضا عن إجراء مقابلة معي، صارت صديقة وعرفت بغداد من خلال عينيها العراقيتين وشخصيتها القوية وحضورها كامرأة بكامل الرجولة، والرجولة معنى وموقف ومغامرة.

*****

هنا قال لي صديق انه يحب القرنقل، وأهداني واحدة، زهرية، حملتها معي الى فلسطين، وصلت بكامل اللون، طبقاتها تخفي الغموض الذي ينزاح واحدا واحدا واللهفة، أية دهشة تملكتني أمام القرنفل، وأية زهرة حيادية خجولة وباهرة.

*****

في بغداد للقرنفل رائحة، هو ليس بلاستيكيا كما هنا، هو زهر هادئ وراق ومقل بالكلام، لكن النار في عينيه منذ ألف ألف عام تشتعل، والدفء يأتي من العين أولا.

*****

كان السيد صاحب القرنفلة مشغولا دائما بوزن الكلام وكان مطرقا يصحح كلمة، ضلت كما ادعى طريقها، قلت: اترك كل خطأ على حاله، الأخطاء غير المقصودة تعني أشياء كثيره، مثلا، أن أظنك “متلفها” تكتب، وأخطأتُ في كلمة “متلهفا” أيضا، ولم أصححها.

*****

هكذا تسير الأمور في بغداد، اللغة ساحرة والمعنى.

لك أن تتخيل، تنادي أحدهم هنا، فيرد عليك: عيوني، أن تكون عيون أحدهم، أن تنفتح على عالمه، لهذا، لما أكمل “فدوتك،” وقال “دواك الله” دعاءً- كعادة أهل البلد- وغاب، فكتبت هذي القصيدة:

 

لو تمهلتَ

لرأيتَ في عينيه العراق

الطبولَ

الحروبَ

الرمالَ

الماءَ

الحزنَ

التاريخَ

النخيلَ

الأولياءَ، الأنبياءَ، السادةَ الأكرمين

السلالاتِ النقية

البسطاءَ

والسائرينَ إلى عقيدتهم أميالا،

لكنت رأيت الله

والحلاج

وقاضي المدينة.

لو تمهلَتَ

لرأيت الذكريات مصفوفة كالتماثيل المجنحة

وعلى خديّ دجلة والفرات.

لو انتظرتَ

كانت دقيقة تكفي  

لنردد التمائم كلها،

تظنني أحكي

اظنك تحكي

ونحن نرجو الدقيقة أن تصير أبد،

ينمو العشب تحت الشظايا

في ظل الكلام

على نجمة تضيء ليل الجنود الوحيدين

وحد الخيالات.

كل العراقيين يشهقون بالجمال

وبالخيال

وبالغزالات

كل النساء هنا غزالات

واسمهن العراق.

لا شيء نختلف عليه

ننتمي إلى الغريب ولسنا نعرفه

والى ما عرفنا ولسنا نحويه،

الشوارع تشبه شوارعنا

البيوت

الناس

البكاء

وحب شهي للحياة.

لا شيء نختلف عليه،

النخل هنا أكثر

والجند

والعابرون

والشظايا

والشهداء

والآلهة

نختلف ربما

حين يقولون: فلسطين أولا

وحين نقول: العراق كان قبل البدء

وأول الأسماء.

لو تمهلتَ

كنتُ زرعت يدي في كل كف

كنتُ قلت لفلسطين: كفك حاجتي

لكنني صافحت في كل كف عراقية

هذا البلد.

 

*****

مثل الشواكة (الصيادون بلهجة اهل البلاد)، تصبح شبكة البغدادي لغته، بها يصطاد القلب ويأكله، ومثل الشواكة يعرف البغدادي شواطئ الروح، يعرف كيف يلقم صنارة الكلام، وأي ماء يعطي السمك وأي الماء يطرح اللآلىء، ومثل الشواكة كريم وصبور ولحوح ومثلهم بيضاءٌ يداه وقلبه.

*****

هنا تكونت مفردات غريبات وجميلات ربما ولدتْ في عاشوراء أيضا، كما آدم في عاشوراء نزل وكما يونس فيه خرج من بطن الحوت وكما الطوفان في هذا اليوم انتهى، هنا الناس ينظفون الدم بعد كل انفجار، قال صديق بالحرف: يغسلون المكان من الدم، ويكملون الحياة، وهنا من السما (المن والسلوى الـ يصنع من الغسل)، أظنه يمثل قلب بغداد مغلفاً بالود او غارقا بالطحين يقدم لضيوفها، هنا أكلت قلب العنقاء.

*****

هنا أتعلم اللياقة اللغوية من لهجة شفافة، ليست قوية فقط، بل موسيقية، تسمع سؤالا يوميا: إنتْ وين تروح عني؟ هذه موسيقى وأغنية. هناك يكتب كروب المرسم الحر الذين يتخذون أروقة قصر الملك فيصل متنفسا لهم باللهجة العراقية “كلشي أكو/ شتريد أكو/ مد أديك/ كلشي ماكو”، وهي أول جدارية أراها تحمل لهجة عراقية مكتوبة في بغداد، فيما يحتفظ مقهى الزهاوي بعلم العراق القديم، وشعار المملكة (1921-1958) وصورتي الملِكين في تلك الفترة- الشيء بالشيء يذكر هنا- فيما يقدم مسرح العَرَصات عروضا مسرحية، يعلن عنها من خلال يافطة بدائية التصميم مزروعة في ميدان قريب من ميدان التحرير على ما اظن او من تمثال عنترة. وهنا أتعلم لياقة المسؤول الأعلى وحبه، هنا كان د.علي ناصر الخويلدي بيننا ومعنا وحولنا وفينا، يأتي قبل ان يستيقظ الجميع، ويرحل آخرهم، يجلس مع الجميع في بهو القصر ويُشعر كلا منهم انه واحد لا شريك له وفرد لا مثيل له. أن يكون هو الرئيس التنفيذي لهيئة الاعلام والاتصالات، وتحسه -لولا كثير من معرفة سابقة وحوارات أدخلني بها الى عالمه- بهذا القرب، فهذا تواضع الأكبرين والكرماء وفهم متقدم لمسألة الادارة.

*****

من خدك القيمر اتريّق، ونحن تريقنا القيمر والكاهي من خد بغداد وغنينا، كانت الأغنيات بطعم الكاهي عسلا ومربى وقٌبل. قطن روحي يا بغداد خفيف، زاده الحب خفة، قطني ضماد جرحك يا البهية.

*****

حتى لغة الشتائم في البلاد العربية واحدة، في السراي المجاور للمدرسة المستنصرية التي ما زالت قائمة تحت الترميم، يشتبك اثنان ممن يعملان على نقل البضائع بالعربات الخشبية الثقيلة ذات العجلين، وبلغة ثقيلة، تختلف فيها بعض المفردات فقط، هنا يستخدمون النعال للضرب، مثلا، كانت المقارنة ممتعة، كما كانت مراقبتي لأدوات النقل والحركة، فهنا يستخدمون الستوتة، وهي عبارة عن ماتور يجر عربة نقل كبيرة، اقرب الى شكل وحجم باص صغير مما هو عندنا.

يقول رجل لامرأة يحبها: أريد قلبك لا أنت، هنا أيضا يعرفون الحب ويدركون كيف يكون بالفطرة>

*****

هنا القبور والأسلحة والمذاهب والطوائف، هنا الحب وهنا الله خلق جنته.

*****

كل البغداديين شعراء، هؤلاء تحديدا الذين قدر لهم تولي المناصب الإعلامية الرسمية مثلا رئيس شبكة الاعلام العراقية مجاهد ابو الهيل، والرئيس التنفيذي لهيئة الاتصالات والإعلام د. خليل الطيار، الذي يحتفظ بلغة فخمة سواء في أبحاثه أو شعره، ولا يعفي نفسه الفخامة في عمله ومتابعته وصبره وثقته، ومدير الاعلام في مكتب رئاسة الوزراء غصون حسين، رفيق الحرف والتجوال، ورئيس تحرير جريدة الصَّباح، الشاعر أحمد شوقي الذي غير اسمه الى شوقي عبد الأمير لتشابه في الأسماء لا يعكس بالضرورة تشابها في الشعر، فعبد الأمير رائد لقصيدة النثر والذي شاركنا أمسية شعرية مع ابو الهيل، انضم اليها صديقنا الرائع فخري التميمي من الكويت، في ختام الفعاليات وقال لي اكملي باتجاه قصيدة النثر، من لا يلقى نفسه في البحر لا يتعلم السباحة، تستحقين ولديك شيء، قصيدتك “كأن الفراغ أبي” جميلة، و”اسمهن العراق” ايضا، واكمل “نعم” “نعم” وهو يهز رأسه. كان عملاق يجاملني وكنت استأنس بما يقول كما استأنست بإيماءة رأسه الموافقة.

*****

في كل مكان في بغداد مقهى ثقافي مثل الشهبندر في شارع المتنبي، حيث فجر أحدهم نفسه، ليموت خمسه من ابناء صاحب المقهى، وفيها مقهى رضا علوان الثقافي، في الكرادة الذي رافقنا اليه عضو مجلس أمناء هيئة الاتصالات والاعلام سالم مشكور، هذا المقهى يقدم الكتب منذ خمس سنوات الى جانب القهوة، يتحصل عليها الجالسون من مكتبة عظيمة في الجدران، فيما المقهى الذي أنشئ عام 1960 يقدم القهوة بنكهات غريبة: البندق والشكولاتة، وفي الطابق الثاني كتب للبيع بدولار فقط، في معدلها وبعض الريع في زاوية بيع محددة يذهب لأيتام الحرب والإرهاب، تفجيرات داعش وحدها قتلت خمسين ألفا، ونساء الشهداء غالبا معدمات لا يمتلكن حظا من علم او عمل، فيما يتم فيه استضافة الكتاب والشعراء في ملتقى يحمل اسم المقهى وأيتاما يقال لهم هذي كفالتكم، ويطلب علاء، صاحب المقهى والفكرة، من كل طفل ان يقرأ، أي شيء يقرأ، حتى لو آية من المصحف. عندما التقطنا اسم الكرادة سابقا، قلنا مازحين لدكتور علي الخويلدي، ربما يدعي الأكراد أيضا نسبتهم اليها فيطالبون بها، وضحكنا.

*****

في مقهى رضا علوان، الذي يختص بنشر صور الشعراء أمثال بدر شاكر السياب، تنتشر صور على محيط الدرج المعلق الصاعد الى الطابق الثاني في مقهى نازك الملائكة مثل الفنانة أزادوهي صامويل والروائي حسن النجار والرياضي علي الكبار والفنانة زينب والشاعر محمد مهدي البصير وغيرهم. اضافة الى المثقفين والكتب والاسم الجميل، تُقَدم البوظة والقهوة هنا. الكتب بالانجليزية قليلة، وجدت واحدا منها عن رئيسنا الراحل ياسر عرفات.

*****

وهنا القشلة، ساعة وساحة فيها مدافع مثل التي على سور عكا، لكنها أصغر حجما، نقشت عليها سنة 1502 م، وفيها منصة للشعر تدير ظهرها لدجلة الذي يمضي غير عابئ كما كان بمائه المائل إلى خضرة محببة تشمها حين يحملك الطوف إلى طرف تقوم عليه المدرسة المستنصرية وعلى نفس الجهة –الى يمينك او يسارك-لا يهم الإتجاه- الأهم هي الجهة التي تنظر من خلالها الى التاريخ، ما زال قائما قصر لهارون الرشيد وزبيدة تحرسه من اللصوص البندقية.

*****

التطرف حالة ماكرة. هنا، تغلب كويتي على جرحه، أتكلم عن فخري، الذي يحمل رصاصة الاخوة في قدم وذاكرة ١١ عاما من شلل اصيبت به زوجته بسبب رصاصة في ظهرها، دمعة يذرفها وهو يذكر يديه تغسلها وتغسل ذاكرة أبنائه من الحقد، يطبخ ويقوم بأدوار الرجل والمرأة وهو يجر قدمه، وهي ذاتها القدم التي جرها إلى العراق في زيارتنا، وقال: نحن أخوة. هنا وفي هذا الوقت يصل التطرف حد احداث انفجار يأتي على عمارتين سكنيتين ويصل مداه الى اذابة العظام في الكرادة داخل، مثلا، لم نصل الى هناك في جولتنا، لكنني أذكر ان فرق الانقاذ لم تعثر في حينها على عظام بعض القتلى، فيما ألقى البعض نفسه من النوافذ وما نجا.

*****

هنا أيضا، نقيض التطرف، وأقصد الجمال الذي في الأطرقجي، المقهى المتحف الملون الذي تَصنع أيد شغوفة واجهاته الخارجية والداخلية والسقوف، وتحيل القبح والرماد جمالا، واحة وماء، حيث تملأ المكان اللوحات الزيتية والمرايا المطعمة بالصدف والخزف والمحبة، ورسوما يدوية لمبدعي العراق مثل الفنان عامر العبيدي والذي يشبه الى حد ما صديقنا الفنان التشكيلي والإعلامي والشاعر العراقي جاسم اللامي، الذي شاركنا اجتماعاتنا ضمن فعاليات الحلقة النقاشية البحثية الخامسة واجتماع فريق الخبراء العرب المعني بمتابعة دور الإعلام في التصدي لظاهرة الارهاب الذي تنظمه جامعة الدول العربية باستضافة غير اعتيادية الترتيب والكرم من عاصمة الاعلام العربي بغداد، والفنان فائق حسن والفنان جميل حمودي ضمن آخرين. تنتشر مقاعد الارابيسك السورية المألوفة وسقوف من خشب وأخرى من نحاس معتق كأنها الثريا، يرتدي العاملون الزي التقليدي لبغداد، زي رائق وجميل.

*****

للشعراء مفاهيهم وطقوسهم، يعرف الشاعر هنا أين يقوده قلبه، الشعراء يلقون قصائدهم، ويستهلكون الكتب كما الشاي البغدادي الذي سمي لاحقا العراقي وشراب الزبيب، الذي تنفرد به بغداد عن سواها، جربته في مقهى الحاج زبالة (1900) والمجاور لجامع الحيدرخانة (تحت الترميم)، والذي يفتخر كتابةً على يافطته بمرور كل الزعماء والرؤساء عليه ويعلق صورهم في الواجهة. هنا، كل التاريخ مر على مقهى اسمه “الحاج زبالة”، شرب الزبيب الحلو وصنع واقعا كاسم المقهى وبهذه الصفة.

*****

العراقي الذي يميز الفلسطيني من لهجته، من شكله، من اسمه، من دم جاور دمه، ومن جداريات البطولة التي ما زالت في مقبرة شهداء الجيش العراقي في مدخل قباطية، رفض أن يتقاضى ثمن عصير الزبيب، وأخذه كاملا من صديقي العراقي ابن البلد.

*****

هنا من يقول أنا فلسطيني، حملت وثائق سفري من دمشق الى لبنان، انا العراقي الذي لم اندم على جنسية الشرف، وانا الذي خدمت في صبرا وشاتيلا ولي ذاكرة حية عن أم أحمد التي لم تعتد ان تفطر بدوني، وام مروان وام طارق اللواتي كانت واحدتهن تنجب في زقاق المخيم طفلا مثل الورد كي يحيا، وكانت تعلمه أسماء الجيران في فلسطين والشوارع والقرى، وتحلم أن تعود إلى بلادها زحفا، وكن يعشقن الحياة والحياة في المخيم مقبرة، ثم صار المخيم مقبرة. أنا الذي شهدت وشاهدت كيف صار على مكتب المقاتل وردة وكيف تباع أوطان وتشترى، يتحدث ابراهيم من ثقب في ذاكرته، ثم رقع الخرق حتى لا يتسع على راقع، واحتفظ بالجزء الأهم من الكلام ومضى.

*****

ماذا يقال يا بغداد، الدم كثير، ربما لهذا حباك الله بنهرين، كيما ينغسل الدم وخيط الدم طويل طويل، نهرنا وبحرنا مسروقان، ولا ماء غير ما في العين يغسل هالأسى.

*****

رأيت الأطفال في الكاظمية يتدربون على المسيرات الحسينية والصبايا الوردات النافجات في الازارات السوداوات كالأقمار وأجمل. آدم (4 سنوات) ظننته بنتا، خدعتني غرته الكثيفة الدائرة وعرفه الطويل كأعراف الخيول وبشرته الفاتحه، كانت أمه نذرت ان توزع القيمة (طعام مطبوخ من لحم مهروس جيدا وحمص، مرقته كثيفة) في اربعينيات الحداد في شوارع المدينة حتى يزرقها الله بفتاة في حملها الاخير بعد حفلة الذكور الكثيرة، وحين انجبته ذكرا، وليس الذكر كالأنثى، نذرت لتطيلن شعره وليكونن فتاتها المشتهاة.

*****

كم تصنع النساء من الوهم، كم يسكنهن الوهم وكم لهن في الوهم راحة.

*****

في بغداد مقامات وأضرحة ومواكب بأسماء النساء من السلالات النقية، هنا مقام مريم بنت الامام جعفر الصادق في طريق القصر الرئاسي، وهناك في الكاظمية موكب للعقيلة زينب وموكب لخولة بنت الامام الحسين، وهنا أيضا بيئة تلف النساء الوردات بالعباءات والازارات والغيبيات ولا تريد أن ترى ان الورد اذا غطيته يختنق، وهنا أيضا شهرزاد، عندما التقطت صورة لتمثالها المعدني، أخذتها من بين فخد شهريار المتكئ على أريكته وباطن ساقه، هكذا ظننت تتضح المسألة.

*****

في شارع الاميرات سكن جبرا ابراهيم جبرا. موظفو سفارتنا في بغداد وبتوجيه من سفيرنا أحمد عقل، الذي لم يأل جهدا في استقبالنا منذ وطئت أقدامنا مطار بغداد الدولي وشاركنا واشترك معنا بكل الفعاليات ولم يغب لحظة عنا، وكان السفير الوحيد الذي رأيته يستقبل ويرافق مواطنيه بهذا الحضور وهذه الحفاوة والثقافة والاهتمام والمتابعة والكرم، كلفوا بتنظيف ضريحه في ذكرى لوفاته، كان جسده -كما قال المستشار الاعلامي والثقافي فؤاد حجو- سجي الى جانب زوجته لميعة التي تزوجها بعد ان أعلن اسلامه، في مقبرة ضخمة، لم يستطيعوا الاستدلال على قبره الذي أمَّحي وظل منه شاهدة رخامية فقط تحت شجرة اليوكالبتوس تقول بأن كاتبا عملاقا سجي في تراب ما هنا، فأقاموا أمسية أدبية لتظل ذكراه حاضرة.

*****

من ساعة بغداد إلى ساعة القَشَلَة في قصر الملك، ينتصب سيفان تحمل كل واحدة منهما قبضة، يسمى النصب قبضة صدام، لم يتغير الاسم، لكن اضافات طرأت على المكان، جدر اسمنتية على الجهة المقابلة وفي شوارع العاصمة، وحواجز وتفتيش، وثكنة وخيمة للقناصة تلوحان من خلف جدار اسمنتي مصطنع يمتد في منطقة تجاور القنصلية الأمريكية تماما في الطريق الى المطار، تنغرزان على الصحن الدائري المحيط بقبة المسجد، وتخفيان بلونها الزيتي الباهت زرقة قبتها البهية. هناك في بغداد مناطق آمنة، وأخرى متفجرة.

*****

ما بين الكرخ والرصافة تمد جسور بغداد يديها، وكلما سرنا على كف في بغداد ضمنا الشوق، وخانتنا اللحظة.

*****

ترتبط الأسماء هنا بمدلولاتها، وأحيانا بما نسمعه عنها، هنا الكرخ والرصافة، وهنا معروف الرصافي والسيرة المحمدية، كتاب جدلي خانني الوقت في الحصول عليه، فشارع المتنبي يغلق ظهرا وتكون شوارعه بعد الثانية خاوية.

*****

هنا دلالات وأسئلة مربكة! ماذا يفعل لاجئ سياسي سابق وطَنَتْه الغُربة عن البلد في خمس دول لحق شرعي أبداه في المعارضة؟ يظل يحس بالقهر، ام سالم وأخته تسجنان انتقاما، واخ له في السجن تشل يده المشبوحه دائما في معتقل صحراوي لو هرب منه ستأكله الصحراء، ولو اختار البقاء لقضى عليه الوحش في الداخل. سالم يعيل اليتامى ويعمل على تحويل ضحايا الارهاب من النساء الى معيلات. ماذا يفعل مواطن ازاء صورة مزدوجة؟ طاغية يبطش وحاكم يترك لشعبه مهمة شراء الفاكهة والحلوى فقط، ويدعم مجانا كافة الخدمات والتعليم والعلاج والسلع؟

*****

في بغداد تعلمت اللياقة الفكرية واللغوية وتعلمت كيف انظر إلى قضيتي بشكل مختلف، هنا سقط أكثر من 460  صحفيا شهيدا، قال مؤيد اللامي نقيب الصحفيين، الذي أحاطنا باهتمام وكرم، وهنا أيضا “شقاوات بغداد”، وهو أيضا اسم كتاب ألفه سعد محسن خليل، أمين عام النقابة، بحيث يعيد ترتيب شخوص بغداد وأشقيائها الذين تحدوا السلطات الحاكمة نصرة للأضعف والأكثر تهميشا، فكان مصيرهم القتل في ظروف غامضة. النقابة وضمن عملها الممنهج لاعتماد الصحفيين استنادا الى التخصص والخبرة لسنتين قبل اعتمادهم من خلال امتحان مزاولة المهنة، وما تقوم به، كما أكد النقيب، من منح اراضي سكنية مجانية لأعضائها الذين يبلغ عددهم 20 الفا وتوفير العلاج المجاني لهم وراتبا شهريا لشهدائهم وجرحاهم، ما زالت تقوم بإصدار صحيفة الزوراء، التي ما زالت مستمرة منذ 160 عاما تقريبا.

*****

هنا في بغداد ساحة للتحرير، وهنا نصب الحرية. أقتبس ما أجمله مدير ادارة الامانة الفنية لمجلس وزراء الاعلام العرب الصديق المستشار فوزي الغويل، عنه حيث كتب: يمثل هذا النصب سجلا مُصورا صممه ونفذه الفنان العراقي جواد سليم عن طريق الرموز، أراد من خلالها سرد أحداث رافقت تاريخ العراق، مزج خلالها بين القدم والحداثة حيث تخلل النصب الفنون والنقوش البابلية والآشورية والسومرية القديمة إضافة إلى رواية لأحداث ثورة تموز 1958 ودورها وأثرها على الشعب العراقي، ولعل أهم ما يجذب المشاهد عندما يطالع النصب للوهلة الأولى هو الجندي الذي يكسر قضبان السجن الذي يتوسط النصب لما فيه من قوه وإصرار ونقطة تحول تنقل قصة النصب من مرحلة الاضطراب والغضب والمعاناة إلى السلام والازدهار.

*****

تبقى مكتبه الحضرة القادرية بكل ما فيها من الكتب والمعارف والعلوم والنسخ الأصيلة من المصاحف المذهبة المكتوبة بخط اليد والكتب النفيسة التي نجا أحدها من ارهاب المغول حين رموه وآلاف الكتب في نهر دجلة بصفحة واحدة محبرة بالنصوص فقط، فيما محيت البقية بماء النهر، ونجا مرة أخرى من الارهاب الذي دك بغداد في هذا العصر، أملا بأن يتغلب القبح على الجمال، كما يظل مسرح “أحلامي” في المركز الثقافي البغدادي الذي يأتيه عاشقو الحياة ويقومون بإعادة تمثيلها عليه، رغم كل هذا الموت.

*****

النار يذكيها الجمال، أغار منك يا بغداد فاحبك، والبعض يغار منك فيقتلك. هنا أيضا يحمل عراقي سكينا كي يقطع يده، وهنا يغرز مقاتل، صار نسيجا من لحم البلاد، رأس بندقيته في جبالها الزرقاء في الشمال ويضع مسدسا في الخاصرة.

*****

لا يستوي في القلب هذا الحزن، يكفي الحزن أسبابا نعرفها ليكون، يكفيه أسبابا نلقاها ليكون، نحن لا نخترع الحزن، ولا نريد، لكن الخسارة مدعاة لذلك والفراق. تشهق روحي بالحزن، أسأل الله ان ألتقي ببغداد ومن فيها ثانية فإني ما عرفت فيها الا ما أحب وأني أفارقها وقلبي تعب.

*****

اتفقنا في نهاية الاجتماع كأعضاء في الفريق المعني بمكافحة الارهاب التابع لجامعة الدول العربية على ان نكون سفراء لعراق الجمال والحب والكرم والحياة. اعتقد أن ملمحاً بسيطا من من الشكر والعرفان ومن هذا التشريف يتمثل بأن أكتب عما شاهدته وسمعته ورأيته، شيء مني لبغداد السلام هذا النص: هنا بغداد.

___
*كاتبة وشاعرة فلسطينية

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *