الغفلة

خاص- ثقافات

*أحمد الحلواني

الشجاعة شيء نسبي،

ربَّما تجدها في أضعف لحظات حياتك،

وتفتقدها حين تمتلك القوة، أما حين تفقد الأمل تفقد معه تلك الشجاعة التي تتمناها.

        فجوة تشدني، أبحث عن سنواتي الماضية المدججة بالأمل، أجيال كاملة ضاعت دون أمل، ما بين غناء “عدوية” وأفلام “عادل أمام” كانت كل سنواتي الماضية تترنح أمامي

        الصباح ككل يوم… روتين يومي، تسبقني زوجتي في الاستيقاظ، تتسحب في صمت حتى لا توقظني، تتركني ممددًا في السرير حتى يرن المنبه الموضوع بجواري، تعد الفطور في عجالة وهي حريصة أن لا تصدر أي صوت، تدخل الغرفة تخلع ملابسها وتقف عارية تمامًا، تتأمل نفسها في المرآة وكأنها تبحث عن شيء ما، ثم ترتدي ملابسها في صمت تام، متململًا في فراشي ألقي عليها نظرة خاطفة بنصف عين وكأنها تمثال جامد يقف أمامي، أتسائل أين شبقي القديم!؟، كنت في الماضي حين أراها هكذا أجذبها فوق السرير لأمارس معها كل أنواع الجنس، فتصرخ بي سنتأخر عن أعمالنا، فلا أهتم… لا أعرف لما أصبح الشعور بيننا باردًا هكذا.

        تلمحني مستيقظًا بطرف عينها، تنظر لي بدهشة وكأنها تتساءل هل سيثار، لا تُعلَّق، تخرج من الغرفة دون أن تلقي حتى كلمة صباح الخير، اسمع صفعة الباب الخارجي للشقة، وكأنها صفعة على وجهي، انطلقت لعملها حتى لا تتأخر، حياتنا خلت من العواطف من زمن، الحياة هنا دوامة من القلق على المصير الذي قد ينتهي في أي وقت دون سابق إنذار، ففي أي وقت يتم الاستغناء عنك بمبرر أحيانا، وأحيانا أخرى دون مبرر، فتجد نفسك عاطل بلا عمل .

        نهضت قبل رنين المنبه وبداخلي شيء لا أعرف كنهه، جلست على المنضدة الموضوعة بالصالة الصغيرة التي يتقاسمها المطبخ وغرفة المعيشة، البيض والجبن والعصير الإفطار اليومي الممل…

        حدقت في الطعام شربت رشفة من كوب العصير وأشعلت سيجارة أتلذذ في نهم بتدخينها، شيء مبهم غامض ينتابني منذ ليلة أمس لا أعرف له سببًا، كآبة تلاحقني طول يومي… يصك أذني رنين هاتفي الجوال… من سيتصل بي في الصباح الباكر هكذا؟، ربَّما هي زوجتي نسيت أن تطلب مني أن أحضر شيئًا عند عودتي للبيت، نهضت متكاسلًا أبحث عن هاتفي الذي لم ينقطع رنينه، ألقيت نظرة على الرقم الظاهر على الشاشة، الرقم قادم من مصر… ارتجفت يدي وهي تمتد لتتناوله، مترددًا في الرد فمنذ عدة سنوات لم يأتني أي اتصال وكأن صلتي انقطعت ببلدي تمامًا.

         لم يكن أمامي إلَّا أن أهاجر… أن أترك سماء بلادي كنجم ميت… كلذع الملح في شق الجرح… أو كرائحة فضلات الطعام العفنة… أن أترك الحي الذي داعب طفولتي… وسنين مراهقتي الغامضة… صعوبة الحياة ولقمة العيش دفعاني دفعًا لأن أعطي كل ما معي لعم سليمان في هجرة غير شرعية لبلاد الأحلام… ما كنت أحلم بالذهب والغنى، كل أحلامي البسيطة أن أحيا حياة كريمة، فقط حياة كريمة، مارست كل الأعمال الهامشية لفترة طويلة من الزمن، وأخيرا استقر بي الحال.

        أحن لوطني… لفتيات وطني… أن أتشمم رائحة شعرهن المجعد… وأغوص في العيون التي تباهي العنبر جمالًا… أشتاق لرؤية الناس البسطاء على المقاهي وهم يشربون النرجيلة، أو يلعبون الطاولة وإن رأوك يحيوك بمودة حقيقة.

        لم أتخيل أنه مكتوب لي أن أسكن تلك المدينة الغارقة في الضباب… الباردة كالموتى… الثلج لا يفارقها لعدة أشهر… والبرودة تنخر في العظام كالسوس…

        أين تلك الشمس التي تتسلَّلُ من خَلَلِ النافذة، وتلقي تحيتها على مخدعي في الصباح… تلك الشمس قررت أنه لا سبب لزيارتي… بعدما أدركت أني لن أحتاج لها في تلك البلاد.

        هنا الناس لا تنظر إليك… لا تعرفك ولا تود أن تعرفك، حتى لو وقفت في الشارع كتمثال أصم… يعبرونك بلا مبالاة… وربَّما بكثير من الضيق لأنك حيز بلا قيمة في الشارع العريض… أو كأنك شبح غير مرئي… أما النساء الحسناوات ذوات الشعر الذهبي… والعيون التي حملت البحار الزرقاء من مرافئها… فهن منتشرات في كل مكان، كنت أحلم بهم قبل أن آتي لهنا، والآن أشعر أن نساء بلادي لهم مذاق آخر غير كل نساء العالم .

        سأموت حتمًا كتلك الغيمة السوداء… فالتعاسة التي تنمو داخلي تنشب أظافرها في قلبي المثقل بذعر غاضب… فالمهاجر دومًا يشعر كمن نفض عنه تراب الآلهة السحري… وصار شيئًا وهميًّا بلا وطن وأن حصل على مئات الجنسيات.

        جواز سفري القديم كان بخضرة بلادي… كعلم مصر في الأيام الجميلة…        الآن بعد أن حصلت على الجنسية أحمل جواز سفر جديد… أزرق داكن كلون الحزن أو الموت… أحب الألوان المبهجة… أحب ضوء الشمس وشعاعها الذهبي… لذا حلمت دومًا بلوحات ” فان جوخ ” الزيتية التي تنطق بألوان قوية زاهية مثل لوحته الشهيرة “عباد الشمس” التي رسمها عام 1889 ، و”المنزل الأصفر” التي رسمت عام 1888 و”حقل قمح به غربان” التي رسمها عام 1890، لا شك أن تلك اللوحة الأخيرة كانت تشعرني بالحياة المتناقضة التي أعيشها الآن… سعادة في قبر… هل لو هاجرت لبلد آخر كان شعوري سيختلف؟!… لا أظن.

        حصلت على هذا الجواز بعد سنوات طويلة من العناء والشقاء وكأني حصلت على الجائزة الكبرى في الحياة، وطبعًا زواجي من أجنبية كان هو المعبر لحصولي على جنسية أخرى، لا أنكر أني فكرت كثيرًا في اتخاذ تلك الخطوة، ولكنها كانت السبيل الوحيد.

        في بلاد المهجر تطوف بك الموسيقى كحلم قديم، فالموسيقى هبة ربانية تحلق بك في جو من السحر… كنت أحب أن أسمع سيمفونية تشايكوفسكي السادسة والأخيرة، ربَّما لأنها تشعرني بعمق مأساة المهاجر… وغموض مستقبله القادم… كنت أتعجب… كيف يستطيع من كتب تلك السيمفونية الحزينة أن يكتب “بحيرة البجع” التي تطير بك فرحًا ومرحًا… هكذا هم المبدعون… بين الفرحة الغامضة والتعاسة الغامضة يسقطون كالفراشات في وهج السعير.

        رغم ما أحظى به من عظمة وأهمية حين أخرج جواز سفري الجديد في أي بلد زرته إلَّا أني أشعر بالضآلة… كقط يرتدي لباس أسدًا…

        لا أنكر أني أعيش عيشة رغدة، سيارة وشقة رغم صغر مساحتها إلَّا أنها تفي بالمطلوب، وعلاوة على ذلك زوجة شعرها أصفر وعيونها زرقاء، أما جسدها فهو متناسق ممشوق، لم أكن أستطيع الحصول على سيارة أو زوجة أو حتى غرفة صغيرة ولو عملت عشرات السنوات في بلدي.

        “الغفلة مفهوم أثير عند الصوفية، حيث تستسلم الروح وتخضع خضوعًا مطلقًا لهيمنة الجسد، فتنحسر داخل حدوده وقوانينه، قوانين اللذة والألم”.

كلنا يعيش الغفلة في هذا الزمان، نبحث عن لقمة العيش، عن حياة رغدة هانئة ولا نبالي بالتغيرات التي تطرأ على حياتنا.

        جاءني صوتها الباكي عبر الأثير لم أميزه في بادئ الأمر، أنصت أنه صوت أختي يختلط فيه الشجي والشجن وفي صوت متهدج بنهنهة البكاء:

– أبوك مات اليوم، كان يتمنى أن يراك… سأل عنك بلهفة وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة، رغم مرضه وصانا أن لا نتصل بك لنخبرك بأي شيء، كان لا يريدك أن تحمل همه.

        رددت في لا وعي “الغفلة” سم يسري في العروق فيصيبك بالخدر وبلا تردد قلت لها:

– سأحضر في أقرب طائرة.

        استرسلت قائلة، ودموعها لا تتوقف:

– لا داعي، لقد شيعناه لقبره منذ ساعات… وحضورك الآن بلا معنى.

تذكرت أبي حين جهزت نفسي للرحيل والدموع في عينيه:

– أخشى أن لا تحمل نعشي.

– ربنا يعطيك طول العمر يا راجل يا عجوز، سأزورك كل سنة.

سقطت دمعة من عيني وأنا أقول لأختي:

– وجودي هو الذي بلا معنى.

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *