الأصالة والتراث والقاموس الشعري للشاعر حسين محمد عجيل في ” متعثرا في الإناء النذري”

خاص- ثقافات

*داود سلمان الشويلي

((هذا الجديدُ اليومَ:
تسوّدُ الجِباهُ
وتُبَيّض اللحى )) . ص21
هكذا ينعى الشاعر الحياة ، فهي كلما تقدم الزمن تسود الجباه ، وتسد ابوابها ، فيما اللحى تبيض من شدة سواد هذه الجباه ، وقد اشتعلت “اللحى” شيباً كما يقول القرآن .
نتساءل : ما هي طرائق النظر لاسوداد الجباه ، وابيضاض اللحى عند المتلقي ؟
الجواب سنراه بعد قراءة هذه السطور .
***
لا يمكن ان ننفي ما للتراث من دور كبير في صناعة الشعر ( الشعر صناعة كما يقول الجاحظ)، وفي الوقت نفسه لا يمكن ان ننفي عنه المعاصرة .
ففي معاصرته يمكن القول ان الشعر غير بعيد عما نعيشة في الواقع في كل شيء (السياسة ، الاجتماع ، الثقافة ، الاقتصاد … الخ)، وقد جدد العلاقات الرابطة بينها.
في قصيدة ” تُسَوّدُ الجباهُ .. تُبَيّضُ اللحى” يقول :
* ((بأرض”خضراء”
من فوقِ منابرَ تعلو بجماجمَ و أقفاص  طيورٍ تخفقُ
الحناجرُ تصرخُ إذ وُعدتْ بشحنةِ زيتٍ فاسد
تناسلتِ القصورُ والإذاعاتُ
ملايينُ الأرجلِ تزورُ متاحفَ مهجورةً)). ص22
كيف تبدو منابر ” الخضراء ” وقد كانت الصورة غير انسانية مليئة بالجماجم واقفاص طيور تخنق بعد ان تناسلت القصور والاذاعات ؟
وعن التراث يمكن القول ان الشعر يغوص عميقا فيما رشح من هذا التراث على الصعيد السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي خاصة ، ان كان في الاستفادة من الاسطورة، او التراث الشعبي، او المأثور القرآني والديني ، اوالقول الشعري والنثري (كتب الديانات ، والكتب التي ورثناهاعبر تاريخنا المكتوب) .
يقول في قصيدة “تحت القبة ” :
* ((تحتَ القبّة.. تبوّلوا قسمهم
سكروا بنفطِ البصرةِ
تقاسموا أطنانَ الدارهمِ
اقترعوا على “بقراتٍ سمانٍ”
طاردوا عِجافا دَهَسْتها الهمراتُ بـ ” أرض “خضراء” )) . ص13
او في قصيدة ” شموعُ النسوةِ الوحيدات ” :
* ((……. بحزامِه النا سفِ..
كلَّ مساءٍ
عندَ الهزيعِ الأولِ
يباغتُ “ابنُ ذي الجْوشن”
حفلَ زفافِ “القاسمِ”
بـ”بابِ الدِروَازَة”)). ص26
هكذا ينقل لنا الشاعر ما حدث في الماضي على انه صورة واقعية حدثت في الحاضر ، يتلبس الحاضر لبوس الماضي ، وكلها مأساة تحدث في الحاضر كما حدثت في الماضي .
***
عندما نقرأ مجموعة من القصائد لشاعر ما تضمها دفتي غلاف مستقل تعلق في اذهاننا بعض المفردات التي استخدمها في بناء لغة تلك القصائد،تلك اللغة التي تدل على وجود الشعر وتماسكه،فتأخذ منا وقتا نحاول فيه فحص تلك المفردات وروابطها وفك رموزها،وارجاعها الى اصولها القاموسية والثقافية،كي نصل الى المعاني والدلالات التي اراد الشاعر ان نصل اليها.
ان فك ترابطات المفردات والرموز هو لرؤية مدى قدرة التجربة الشعرية المقدمة في القصيدة على الثبات ، وفحص تماسكها ،وهذا ما يمكن فحصه ودراسته هنا .
ان النسق الذي حكم هذه المفردات هو النسق اللغوي / الشعري المتعارف عليه شعرياً عند الدارسين وفاحصي النصوص ،ومن هذا المنطلق ستحيل ذائقة الدارس وفاحص النص هذه المفردات الى ذلك النسق اللغوي/ الشعري لفحص اساسيات التناول والاستخدام و الترابط فيما بينها .
ان الشاعرالذي يستخدم قاموسا لغويا معينا فانه يكتب قصائد بترابط لغوي ابداعي يعطي المعاني والدلالات الثقافية التي يفرزها هذا القاموس مكانة ما،وهذا ليس معناه مطالبة الشاعر ان يختار لغته من قاموس واحد ، وانما له حرية الاختيار في ان يستخدم مفردات الحب ، والعشق ، والسياسة ، وما الى ذلك من موضوعات ، او الدمج فيما بينها.
ان ما نطالب به الشاعر هو ان يحسن الاختيار في بناء قصيدة تمتثل لقوانين وقواعد العملية الشعرية الابداعية .
***
امامنا الان مجموعة شعرية بعنوان ” متعثرا في الاناء النذري ” للشاعر حسين محمد عجيل، صدرت عام 2016 عن دار الروسم  ، وتضم 36 قصيدة قصيرة و شبة قصيرة ، سنفحص قاموسها الشعري كي نصل الى المعاني والدلالات التي تقدمها قصائدها .
يتوزع القاموس اللغوي لقصائد المجموعة الى عدة ابواب، وكل باب يختص بمفردات موضوع ما ، فهناك باب الاسماء ، وباب المناطق ، وباب المدن ، وباب الثقافة ، وباب الجسور ، وباب الرموز الدينية والاحزاب ، وباب الرموز السياسية ، وباب الاحتلال ، وباب الاعراق، وكلها تصب في خانة الاحتلال ورموزه الباقية بعد مغادرة عسكره المحتل .
من خلال معرفة تلك الابواب يمكن القول ان قصائد المجموعة هذه تحمل افكارا ورؤى عن الاحتلال وما خلفه من دمار في البنى الفوقية والتحتية للشعب العراقي ، وما تركه من خلفه من اذناب له كذلك، وعلى العراقيين ان يجمعوا قواهم في الخلاص من هذا الاحتلال واذنابه الذين بقوا من خلفهم ليديروا دفة حكم العراق نيابة عنه والوصول بشعب العراق الى حالة التفتت والتفكك لكي يتم القضاء عليه نهائيا ، انه هجاء للاحتلال واذنابه ، بل هو طريق لمقاومته.
***

القاموس الشعري :
باب الاسماء :
سالومي ، يوحنا ، ذي الجوشن ، القاسم، سيدة النجاة ، يهوه، الكيلاني ، بوذا ، عزرائيل ، ابن ملجم ، ابو لؤلؤه ، رضوان ، يأجوج ، الاخطل ، الفرزدق ، جرير ، ابن ابي سلمى ، هرم بن سنان ، الليدي ماكبث ، ديوجين ، زوربا ، مواكب فهد ، عبس وذبيان ، خمبابا ، كلكامش ، الدكتور جيكل (شخصية روائية شريرة) ، غودو ، الموناليزا ، علي بابا ،.نابليون ، رومل ، لذريق ، شرشل .
في هذا الباب من القاموس اسماء خاصة بالدين ، واخرى خاصة بالشعراء ، وثالثة خاصة بشخصيات روائية ومسرحية واسطورية وفنية ، ورابعة خاصة بالقواد العسكريين .
باب الثقافة :
دار المخطوطات ، متحف الفنانين الرواد ، متحف كولبنكيان ، دواوين ابي العلاء ، تمثال السعدون ، قبة سامراء، نصب جواد.
باب الرموز الدينية والاحزاب :
عمائم ، دعويون ، بدريون ، صدريون ، رايات سود ، اربعانية ، المطرانية ، ايا صوفيا ، كلاب الحوأب ،رفع المصاحف .
باب الرموز السياسية:
القبة (يقصد قبة البرلمان) ، تورا بورا ، النصرة .
باب المدن :
النخيب، الربذة ، القوش ، طوب زاوه ، سنجار ، بحزاني ، جبل عامل ، الرطبة ، تكريت ، مدينة اكد .
باب المناطق :
منطقة (الـ ) خضراء ، الباب الشرقي ، باب الشيخ ، نفق التحرير ، خلف السدة ، مثلث الموت ، باب الدروازة،السفينة ، خضر الياس.
باب الجسور :
المعلق ، جسر الائمة .
باب الاحتلال :
المارنيز ، سبايكر.
باب الاعراق :
تتر ،صفويون ، سلاجقة ،الاعراب ، قرامطة ، الخوارج ، المعدان .
ماذا يعني استخدام هذا القاموس وبهذه الابواب التي تنم عن اختيار واع لما فيه؟
لناخذ قصيدة ” متعثرا في الاناء النذري ” ص9 ،ونضعها تحت مبضع الفحص والدراسة لنرى ما فيها من افكار ورؤى اعتمادا على هذا القاموس الذي استخدمه الشاعر في قصائد مجموعته التي تحمل الاسم نفسه .
لا اريد ان افسر القصيدة ، لان التفسير يذهب بالشعر ويفسده ، بل قل اني في هذه السطور سأأول القصيدة حسب ما فيها من مفردات ترابطت فيما بينها وقدمت لنا رؤاها ودلالاتها، ولا اجبر المتلقين على تبني تأويلي ،الا اذا كان متوافقا مع تأويلاتهم هم .
تحمل القصيدة (والمجموعة كذلك) عنوانا له علاقة بالتراث العراقي السومري ، وهو “الاناء النذري ” الذي هو: ((تـحفة فنية أثـرية يبـلغ عـمرها أكثـر من 5000 عام وهي عبارة عن زهرية محـفورة من حجر المرمرعـثر عليـها في مجـمع للمعـابد تعود إلى الآلهة السـومرية إنّيانا في أثار مـدينة أور الأثـرية.)).– ويكيبيديا-
ولما كان العنوان يحمل لفظة ” متعثرا” ، فيكون العنوان عند ذلك هو اصطدام هذا الاثر/ التحفة بالاقدام ، أي “دفره” وازاحته ، وهذا المعنى وما يعطيه من دلالات هو ” دفر”التاريخ الحضاري للعراق منذ 5000 سنة، أي ضرب حضارة العراق عرض الحائط من قبل قوات غازية لا تمتلك تاريخاً مثل تاريخه ، وهذه مأساتنا إذ نملك الماضي ولا نملك الحاضر ، فيما الغازي يملك الحاضر ولا يملك الماضي .
في القصيدة يرد اسم ” متحف كولبنكيان ” و”المارنيز ” في ترابط ابداعي وثابت لا يمكن الفكاك منه :
* ((بصوتِ ابنِ آوى
اندلقَ من بينِ الظلماتِ
تحتَ مطرٍ أسودَ
تسلّلَ من جُرْحٍ بجداريةِ “متحفِ كولبنكيان”
متتبِّعاً حوافرَ “المارينز”)) .ص9
وكذلك نجد ترابط الاثاري” ليونارد وولي “مع ما قبله :
* ((و إذ تنفّس بشغفٍ..
دخانَ قيثارةٍ بكْتها أصابعُ “ليونارد وولي”
استحالتْ أذرعُه مسوخاً )). ص9
وايضا ترابط” انوبيس” وهو إله الموت المصري،الذي يجمع بين “ابن اوى” و”المارنيز” و “متحفِ الفنانينَ الروّاد”مع ما ورد قبل قليل :
* ((تسجدُ لـ “أنوبيس” على أنقاض “متحفِ الفنانينَ الروّاد” )) . ص10
و تمثالَ “السعدونِ” و ” دارَ المخطوطاتِ” ايضا:
* ((تصهرُ تمثالَ “السعدونِ”في فجرٍ انتحرَ ضوؤه
تسحلُ “دارَ المخطوطاتِ” لدجلةَ
وتسحلُ دجلةَ للنار)).ص 10
كل هذا تدمره طائرة ” b2 ” القاصفة العملاقة، فتحيل تمثال “السعدون” رمز الوطنية العراقية والذي كتب بوصيته قبل الانتحار (( الانكليز يريدون شيئاً والشعب يريد )) كما تذكر المصادر،و”دارالمخطوطات ” التي تضم ذخيرة الكتب المخطوطة لحضارة العراق منذ السومرين الى الان ، ونهر دجلة الخالد، الى رماد .
الرابط الذي يجمع هذه الصروح الثقافية مع “المارنيز ” – القوات الامريكية الغازية – هو صوت “ابن اوى”الذي خرج من جرح اصاب احدى اللوحات الفنية في متحف كولبنكيان،فهطل المطر الاسود ، وتحركت سرفات الموت ، فدمرت كل شيء امامها ،الحضارة الماضية المتمثلة برموزها المعروفة في الاناء النذري،وفي دار المخطوطات ،والاثاري “ليونارد وولي” ،وما اكتشفه عند السومريين،ودمرالتقدم العلمي والثقافي والفني والسياسي للعراق في التاريخ المعاصر ،والرابط الذي يربط الاثنين هو تمثال السعدون .
ويقول كذلك في هذه القصيدة :
* ((جاءَ بلا عينينِ
اخطبوطاً يركض  حاملاَ سكاكينَ التاريخ
سقطتْ عمامتُه..
حينَ تعثر بالإناءِ النَذْريّ
و إذ تنفّس بشغفٍ..
دخانَ قيثارةٍ بكْتها أصابعُ “ليونارد وولي”
استحالتْ أذرعُه مسوخاً)) . ص9
هنا تأتي مفردة “العمامة” لتقول اشياء واشياء ، انها ترمز للمد الديني الواسع الذي اصطبغ به قسم من ابناء الشعب،وانما الخشية من القتل، فسقطت العمامة وتراءت للاخرين تلك السكاكين التي تحملها بأسم التاريخ،وهو صراع طائفي انكشف للجميع.
ان قراءة متأنية للروابط التي تربط المفردات والرموز التي تحملها قصيدة “متعثرا في الاناء النذري” قد اوصلتنا الى الدلالات والمعاني التي يريد ان يوصلها لنا الشاعر، وهي دلالات ومعاني تمثلت في اغلب قصائد المجموعة .
ان الحرب و الاحتلال واذنابه ، هو موضوع قصائد هذه المجموعة ،الا انه لم يكن موضوعا مكشوفاً نصل اليه بلا تعب لذائقتنا المستقبلة للشعر ، وانما سار الشاعر بنا في مجاهل الاسماء الادبية والسياسية والعرقية، واسماء المدن والمناطق وغيرها ليعطي قصيدته بعدا ابداعيا.

شاهد أيضاً

العتبات والفكر الهندسي في رواية “المهندس” للأردني سامر المجالي

(ثقافات) العتبات والفكر الهندسي في رواية «المهندس» للأردني سامر المجالي موسى أبو رياش   المتعة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *