جيكور.. قرية نبتت من جراح السّياب


* محمدو لحبيب

لم تكن جيكور في شعر بدر شاكر السياب (1926-1964) مجرد تسجيل ذهني لجغرافيا محددة، ولم تكن جيكور مجرد ذكر في شعر السياب لبلدته وقريته الأم التي استهل صارخاً في حضنها يوم ولادته، كانت جيكور حريقاً اندلع في أعماقه يوم أن غادرها لتتلقفه دروب الغربة الوحشية، ثم لم يهدأ أو ينطفئ الحريق، ليتولد عنه بالتتابع ذلك الإبداع الشعري الذي جسد على شكل علامات واضحة علاقة الشاعر بمكانه الخاص.

ولد السياب في جيكور، لا بل ولدت هي فيه قرية جنوبية في العراق، واحتفظ برغم غربته الطويلة عنها بصورتها التي يصفها قائلا:
(أشجارها دائمةُ الخضرة

كأنها أعمدة من رخام
لا عُري يعروها ولا صفره
وليلها لا ينام
يطلع من أقداحه فجره
لكنّ في جيكور
للصيف ألواناً كما للشتاء
وتغرب الشمس كأن السماء
حقلٌ يمصُّ الماء
أزهاره السكرى غناء الطيور)
تلك الولادة لقريته الحبيبة داخله، كانت هي الأخرى متفردة فهي ولادة متجددة دوما ما تجددت نار حزنه لفراقها، وغصة عبوره نحو آفاق ومدن أخرى مختلفة عنها، هي ولادة بمعنى الحياة، مدهشة تفيض بالخصب والنماء، تتماوج أنغاماً حلوة، حتى ولو كانت من غصة موته ومن قلب نار تشظيات حنينه إليها، وهو يختصر ذلك قائلاً في قصيدته تموز جيكور:
(جيكور ستولد من جرحي
من غصة موتي من ناري
سيفيض البيدر بالقمح
و الجرن سيضحك للصبح
و القرية داراً عن دار

تتماوج أنغاماً حلوة).
هذا الحضور الطاغي بحجم حياة السياب نفسه والمتماهي معها لجيكور يجد نفسه في مواضع عديدة من شعره، حتى يكاد يكون شعره كله «جيكوريا» إن صحت التسمية، وحتى ولو لم يرد لها ذكر لفظي، فهي تحضر عنده بسماتها التي تمثل في ذهنه الطيبة والبراءة والنقاء، وتشكل عنده نقداً موازياً لسيرورة حياته في المدينة وعوالمها التي يراها قاسية، متجهمة، ولعل اختياره لعنوان قصيدته «جيكور والمدينة» يفسر تلك المقابلة النقدية الآنف ذكرها.
ففي تلك القصيدة من ديوانه الشهير «أنشودة المطر» يصور السياب دروب المدينة التي تلتف حوله كحبال غليظة تعتصر داخله جيكور ووجودها، وتحاول أن تخنقه، وتطفئ نار شوقه المستمرة لقريته التي تختلف عن المدينة بسماحتها وأناقتها الريفية، وهو إذ يتمنى حدوث شيئ ما يعيد للمدينة طهرها و براءتها كأنه يقارنها بشكل نقدي بجيكور و أخواتها من الموجودات على ضفاف حلم الخصب والخير والحب والماء الذي هو أساس الحياة:
(وتلتف حولي دروبُ المدينة
حبالاً من الطين يمضُغْن قلبي، ويُعْطِين عن جَمْرةٍ فيه طينة
حبالاً من النار يَجْلِدْن عري الحقولِ الحزينة
ويَحْرِقْنَ جَيْكُورَ في قاع روحي، ويزرعْنَ فيها رماد الضَّغينة
دروبٌ تقول الأساطيرُ عَنْها
على موقدٍ نام: ما عاد منها
ولا عاد من ضفَّة الموتِ سارِ
كأن الصَّدى والسَّكينة
جناحا أبي الهولِ فيها، جناحان من صخرة في ثراها دفينة
فمن يَفجُرُ الماء منها عيوناً لتُبْنى قُرانا عليها ؟)
ولا يبدو كره السياب للمدينة عشوائياً، فهو الذي يعتبرها في نفس قصيدته تلك، بمثابة الراصد الذي يحاول أن يغلق أبواب جيكور دونه، و يحيطها بأسوار ومتاريس تغتال بساطة الحياة فيها، وتغتال فيه هو نفسه تلك الرابطة الروحية بجيكور:
(وجيكور … مَنْ غَلَّق الدُّور فيها _ وجاء ابنُها يطرقُ الباب _ دونه ؟
و مَنْ حوَّلَ الدَّربَ عنها … فَمِنْ حيثُ دار اشْرأبَّته إليه دروبُ المدينة
وجيكور خضراءُ مسَّ الأصيلُ ذرى النَّخَلِ فيها بشمسٍ حزِينة)
لكن السياب يعود ليؤكد أن كل محاولات المدينة الغريبة عنه والتي تلفه باغترابه، ستبوء بالفشل دوماً، فجيكور ستبقى مستيقظة فيه، حتى ولو كان النوم هو السبيل الوحيد لاستدعاء يقظتها، ويقول:
(يمدُّ الكرى لي طريقاً إليها
من القلب يمتدّ، عَبْرَ الدَّهاليزِ، عَبْرَ الدجى، والقلاعِ الحصينة
وقد نام في بابل الرَّاقصون، ونام الحديدُ الذي يَشْحذُونه
وغَشّى على أعينِ الخازِنين لُهاثُ النُّضارِ الذي يَحْرُسونه
حصادُ المجاعات في جنَّتَيْهَا
رحى من لظى، مرَّ دَرْبِي عليها
وكَرْمٌ عساليجه العاقراتُ شرايينُ تَمَّوزَ عَبْرَ المدينة).
ويرى النقاد أن علاقة السياب بجيكور هي تعبير رمزي عن رؤيته للعلاقة بين الريف والمدينة، ويقرر بعضهم أن شعره جسد في ديوان العرب المعاصر موقف الشاعر الريفي من المدينة وإحساسه بالغربة والضياع، واعتبروا أن تجربة السياب في ذلك المجال فريدة متميزة من بين كل التجارب المماثلة لها، ذلك أنه نجح في أن يجعل من جيكور تلك القرية الصغيرة معلماً بارزاً من معالم شعرنا المعاصر و رمزاً أساسياً من رموزه الفنية.
وربما تبدو المفارقة هنا بين الأسلوب الشعري الحداثي للسياب، والذي جسد ثورة على الشعر التقليدي القديم، ليكون رائد الشعر الحر، وبين محموله الشعري المنتصر لقريته المعبرة عن الأصل القديم والتقليدي في مقابل المدينة المعبرة عن الحداثة.
هذه المفارقة لا تجد لها تفسيراً فيما كتبه النقاد عن السياب بشكل عام، ومع ذلك انسجمت تلك المفارقة طويلاً مع السياب و صنعت فرادة شعره، وتميز علاقته بمكانه الأول، وحنينه الدائم للعودة إليه، ذلك الحلم الذي لم يتحقق إلا بعد موته، حين نقل من الكويت إلى البصرة ليوسد الثرى هناك في أرض الجنوب العراقي غير بعيد من موطأ قدمه وبداية حياته في قريته جيكور.
__________
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *