المفارقة السردية وتعدد المسالك التأويلية في القصة القصيرة جداً

خاص- ثقافات

*شيماء أبجاو

مجموعة “ندوب” لميمون حرش نموذجاً

تصدير:

تعد القصة القصيرة جدا من الأجناس الأدبية السردية الجديدة التي مثلت بوضوح معالم الثقافة الأدبية الجديدة التي تميل إلى الاختصار والتكثيف والاقتصاد. وإذا كانت هذه الكتابة القصصية قد وضعت لنفسها قواعد كتابية خاصة، فإنها بالضرورة تفرض علينا البحث عن سبل جديدة لقراءتها وفق خصائصها الفريدة التي تشكل نظامها السردي والدلالي أيضا. ربما حينها سنجتهد أكثر في تأويل القصة ومساءلتها عن المضمرات، وربما تحرك فضولنا التأويلي من أجل ترميم ما حجبه النص وما حذفه من خلال قرائن دلالية يبثها القاص بتقنيات خاصة يدل فيها الحاضر على الغائب!

إن السؤال المركزي هنا هو: كيف يمكننا أن نقرأ القصة القصيرة جدا من داخل نظامها الخاص؟

لا شك أن هذا النوع من القصص هو الأصعب على الإطلاق، لأنه يعتمد على خلق زحام دلالي شديد بين عدد قليل من الكلمات، حيث تكتنز كل مفردة حمولات رمزية تحيل على دلالات مضمرة يقوم النص بتوجيه التأويل إليها وفق خطط بلاغية معينة يختارها القاص حتى تؤدي القصة غاياته المرجوة، فالقصة القصيرة تتضمن حدثا سرديا مكثفا، ولا تخلو من عقدة ومن صدمة مخيبة لأفق الانتظار في النهاية، لكنها في العموم تتضمن مستويين من القراءة، المستوى الأول المباشر، حيث تتضمن القصة خبرا سرديا يتضمن فكرة معينة. والمستوى الثاني يتمثل في مقاصد القصة وهي التي نستلهمها من التماثل الذي  نحدثه بين القصة بما هي تمثيل رمزي للواقع بشكل من الأشكال، وبين النظام الاجتماعي العام الذي ينتج فيه النص، يمكننا أن نزعم بعد ذلك أن كل قصة تتضمن رؤية خاصة للعالم، حينها تبدو القصة مجرد ذريعة سردية لبث وجهة نظر أو عرض قضية ما. لذلك نعتقد أن قوة كل نص قصصي تكمن في قدرته على خلق هذا التمثيل المخفي الذي يمنح القارئ معان مباشرة ويجره بذكاء نحو رصد دلالات خفية تشكل المقصد المراد من النص. وتكون مهمة القارئ هي فتج المجال أمام القصة لتفصح عن مكنوناتها الداخلية وتعبر عن وجهة نظرها تجاه الواقع الذي أنتجت داخله. بمعنى أن القصة القصيرة جدا بما أنها تتأسس على مبدأ الحذف والتكثيف والإضمار، يجب أن تخضع لقراءة مختلفة تنتقل من تحليل ما يقوله النص إلى تحليل ما لا يقوله النص وفق تعبير علي حرب،(1) أي ينبغي أن نبحث عن تلك الدلالة التي تقصدها القصة دون أن تقولها، وهذا مدخل فسيح اخترنا أن ندلف عبره إلى أعماق مجموعة “ندوب”(2) للقاص ميمون حرش، وهي مجموعة تجنح –كما يدل عنوانها- إلى تعرية جروح مؤلمة تمس عالمنا في مستوياته المتعددة، أخلاقيا واجتماعيا وسياسيا، فجميع القصص في هذه المجموعة تتضمن أحداثا مركزة تفصح عن مشهد دقيق يفضي بالضرورة إلى بناء صورة للواقع في جانب من جوانبه، لكنها لا تتوقف عند عرض الأحداث بحيادية، بل تخفي خلف القصة نقدا قويا. وهو ما يجعل مجموعة ندوب تروم مقابلة القارئ مع ما يختزنه واقعه من أعطاب قيمية وأخلاقية تطال حياته بالسوء، وقبل الخوض في تحليل بعض نصوص مجموعة ندوب، لابد أولا أن نحدد الموضوعات الكبرى فيها، والتي لا تخرج عن موضوعين كبيرين يتضمنان نقدا خفيا للواقع:

ـ النقد الاجتماعي: وينقسم بدوره إلى قصص تصور بعض فئات المجتمع، إما انتصارا  أو انتقادا أو تعريفا، وقد شمل هذا الجزء صورا للشيخ والمومس والعميان، والمطلقة، والمطربة الفاشلة والإنسان الفقير والعانس والجائع، والمتشائم والذكر/ غير رجل وغيرها.. ثم في جزء آخر، يصور ميمون حرش بعض الأخلاق المشينة التي غزت مجتمعنا، فيكون عرضها بمثابة نقد لها من داخل موقف تواصلي معبر، ومن ذلك مثلا: الحسد والكراهية والنفاق والخيانة..

ـ النقد السياسي: وفيه أظهر القاص مواقف تجاه القضايا السياسية العربية، مثل قضية مصر وقضية سوريا وفلسطين، وكانت القصص تضمر تحليلا للواقع السياسي، وموقف المتابع المغربي منه. من ذلك قصة “مبارك” التي تخلق تناصا بين تجربة فرعون وتجربة مبارك، وقصة “ثلاثة فصول” التي شخصت بومضة بليغة تجربة ما يسمى بالربيع العربي، الذي أساء إلى الفصول واستحق أن يخرج من دائرتها، إن هذه المفارقات الساخرة التي استحضر بها القاص الواقع السياسي، تنبني على نقد مضمر لما يمكن وصفه بالوهن العربي، الذي يجعل الهذيان هو سقف الفعل في واقع مزحوم بالآراء الجافة والمواقف الباردة.

وقد اعتمد القاص ميمون حرش على تقنية المفارقة بما هي حيلة بنائية تقوم على تنظيم الحدث وفق نسق تصاعدي ينتهي إلى صدمة في التلقي حين تخلص النهاية إلى مفاجأة مكسرة لما يتهيّأُ له  المتلقي بتوجيه ذكي من السارد. لذلك اخترنا دراسة هذه التقنية لما ظهر لنا فيها من قيمة مركزية تجلت في تزكية القصة القصيرة جدا في مجموعة “ندوب” في مستواها الأدبي الجمالي وفي مستواها البلاغي التواصلي. وسنحاول أن نحلل نماذج من القصص التي تمثل الجانب الاجتماعي والجانب السياسي في هذه المجموعة.

المفارقة بين الوظيفة الأدبية والوظيفة التواصلية (النقدية):

                                                                                     
المفارقة (وفق ما اتفقت عليه أغلب التحديدات) تقنية سردية ذكية تنظم بناء الحدث بحيث يتطور في  مسار يكون مخالفا للنهاية المقصودة والتي نكتشفها في الختام، إنها تقنية تحاول تنظيم هذا التناقض الذي يهيمن على حياتنا، فتغدو الحقيقة دائما مخالفة لما نتوقعه أو لما ينبغي أن يكون، وكأنها لعبة محبطة تبني لدينا فهما معينا ثم تخيبه في النهاية بعكس المتوقع. وهذه التقنية تجمع بين وظيفتين، وظيفة أدبية بارزة، تبث في النص الكثيرة من الإثارة والتشويق، عن طريق بناء مستويين من الحقائق السردية، حقيقة ظاهرة وحقيقة مخفية تبرز في النهاية وتحطم التوقع، وهو بناء يتأسس على ضحية تكون غالبا صورة اجتماعية نتخذ عبرها موقفا من الواقع. سنحاول أن نمثل بعض المفارقات الدالة في قصص ميمون حرش، محاولين الكشف عن الأبعاد النقدية المضمرة التي تخص الجانب الاجتماعي والسياسي:

  1. المفارقة الاجتماعية:

تتجلى المفارقة الاجتماعية أساسا في خلق مقابلة قيمية بين نماذج إنسانية أو أخلاقية تعكس بوضوح الواقع الاجتماعي الذي تعبر عنه، وهي في النهاية صور تمثل المجتمع من داخل علاقات إنسانية معطوبة داخله، وإن كانت القصص في بعدها الأول تقصد عرض هذه المشاهد على المتلقي من أجل إخباره بأمراض الواقع، فإن تقنية المفارقة تشحن عاطفته عبر تمازج الأثر الجمالي/الأدبي بالأثر البلاغي، والذي يتجلى في حمل المتلقي على بناء موقف شخصي من مثل هذه السلوكات المشينة، أو بتغيير نظرتنا المغلوطة عن بعض الفئات الاجتماعية. فالقصة عموما لا تخلو من توجيه عاطفي يترتب عليه بناء أثر بلاغي يوجه رؤيتنا للمجتمع. فلنلاحظ مثلا قصة “تصحيح”:

يعلق الحبيب صورتها في الهواء،
وعلى الحائط ينقش اسمها
زارته ليلاه يوما على حين غرة،
قصدت ألا يحس بها..
كانت قدماها تمشيان على روحه..
طيفا هامت في غرفته..
وهناك ذرفت عينها دمعا مدرارا..
وحين كفت صححت الاسم على الحائط..
أنزلت صورتها من أثيره..
ثم غادرت إلى الأبد..“(3)

يبني هذا النص قصصيته على حدث واحد، يتطور بسذاجة متينة تبني فهما ظاهرا ومباشرا، لكنه فهم يتحطم في النهاية حين ينكشف مصير آخر لنهاية الحدث، حينها فقط يمكننا أن نعيد قراءة النص حتى نعيد تفكيك الرموز التي نمر عليها سريعا في القراءة ونحن منساقون وراء زحام المعاني الظاهرة، إن البناء الأول يرسم بناءً إيجابيا لهذا الحدث:

حبيب متيم + يرسم صورة حبيبته في الهواء+ يكتب اسمها على الحائط + هي تحبه، تزوره ليلا لتفاجئه + على حين غرة + لكنها تفاجأ هي بالخيانة + ليست هي الحبيبة المكتوبة على الحائط + تصحح الاسم + وتنسحب.

يسير الحدث الأول في وصف قصة حب، لكن المفارقة تأتي بضد قيمة الحب وهي الخيانة، فتحطم أفق الانتظار وتبرز هذا التضاد والارتباك والتخبط القيمي الأخلاقي الذي يعيشه المجتمع، إن صدمة القراءة هي نفسها صدمة التجربة، وهنا تكون المفارقة شاملة لمعنى الوصف وتمثيل الواقع، بل ووضعه موضع الإدانة والاتهام والنقد.

إن المفارقة إذن هي تقنية سردية غايتها خلق موازنة بين متناقضات الحياة، وهي في مجموعة “ندوب” تخلق التماثل بين أعطاب اجتماعية متنافرة يمنحها القاص فرصة التنافس والمواجهة، منها الوفاء والخيانة، والفقر والغنى، الشباب والشيخوخة الاستقامة والفاسد وغيرها من المتقابلات الدالة على تباين صور الإنسان داخل المجتمع.. وهنا يورط القاص المتلقي في بناء موقف نصي (بتعبير إدوارد سعيد) يكون فيه حكما ضد الواقع الذي تغدو القصة بشخصياتها حجة عليه.

في قصة “إبليس”، يقول ميمون:

“يرسم خيطاً مستقيما..

ثم يقول لأتباعه:

“نحن لا نفهم هذه اللغة”..(4)

هذا الحذف الكثيف الذي اجتاح النص، يمنح القارئ امكانات أكبر في إعادة المحذوفات وإكمال المفارقة المدهشة بين متناقضات النص، من هو إبليس؟ إنه معلم، يعلم أتباعه، بل يُعرفهم بما لا ينبغي أن يعرفوه وهو الاستقامة، إن الخط المستقيم هو رمز يحيل مباشرة على الصلاح، بينما إبليس، يحيل مباشرة على الفساد، وهذه القراءة المتنازلة تتلاعب بفهم القارئ، حين يبدأ بقراءة العنوان، ثم ينزل فيقرأ بأن إبليس هذا المعلم يرسم لأتباعه الصراط المستقيم، لكنه سرعان ما يعيد الفهم إلى مجراه الطبيعي، بالشرح الأخير، فغاية رسم الخط المستقيم، هو التأكيد على مخالفته، وكأن إبليس يعرف كل شيء غير لغة الاستقامة، أو ربما العكس، إبليس لا يعرف غير الاستقامة، لأنها الطريق التي ينبغي تجنبها، بينما ممارسة كل شيء آخر لا تحتاج إلى المعرفة لأنها مشروعة كيفما كانت! في النهاية، لا نملك إلا أن نجتهد في البحث عن دلالات إبليس، مادامت معانيه البارزة لا يمكنها أن تسد فضول القارئ، من يكون إبليس هذا؟ لاشك أنه استعارة لنموذج إنساني ما؟ ربما هو صورة  تبرر عمق الفساد وغربة الاستقامة في مجتمعاتنا وترجع الفضل في ذلك لأهله، وهو هذا المعلم الشيطاني!

أما النص الثالث الذي اخترناه هنا فهو قصة “يموتُ.. تموت”

إنها قصة مكثفة أيضا، تخلق الحدث بعقد تلازم بين موت الرجل وموت الأنثى، إنه عنوان الوفاء، لاشك في ذلك، لابد أن العنوان يهيئنا لاستقبال هذه القيمة الانسانية العظيمة وهي الوفاء، ولاشك أيضا أننا سنتساءل عن شكل هذا الوفاء، الذي سيبدو جليا بعد الفقرة الأولى التي تصف حدث وفاة الزوج:

“ينزف البكاء دموع المقربين

والغرباء أيضا..

الميتُ مسجّى وسط الصالة..”(5)

يخبرنا هذا الشق الأول من القصة عن الشق الأول من العنوان، “يموتُ” هو يموت، الرجل، الزوج، وحينها فقط نبحث عن موت الوفية. القاص يعرض أوصافا لهذا الموت، لكنه يفجره في النهاية بصورة تعظم من هيئة هذا الموت، كيف تموت المرأة؟ يتابع السارد:

“هي وحدها لم تكن تبكي..

يذكر لها المعزون مناقب زوجها، فتزم شفتيها ساخرة منهم..

يحضر النعش، ويتقدم الحاملون..

تسبقهم وتعاتبهم على الإبكار..

في هذه اللحظة يزداد الصراخ، ويرتفع النحيب..

سارت مع الركب، وهي ممسكة بيد أحد الحاملين..

تضغط ولا يحس بها.. لكنه يروزها بعين ملاحظ دقيق..

ويكتشف أن المرأة التي معهم ما هي إلا انعكاس..

وأنها هي من يحملون في النعش لا زوجها..”(6)

إن هذه القصة تكتنز في الحقيقة مستويات عدة تتقلد تقنية المفارقة التنسيق بينها، يبدأ المستوى الأول بموت الرجل، وهو موت يدفعنا انطلاقا من إيحاءات العنوان إلى البحث عن موت الأنثى، وهو ما سننصرف إليه في المستوى الثاني من القصة، والذي يصف مشهدين، مشهد الجنازة المهيب، والذي يفترض الحزن والنحيب والبكاء والخوف والاشفاق، وهي مشاعر طبيعية زاد السارد تأكيدها حين أسندها إلى المقربين والغرباء على السواء! لكنها غيرهم، حين تسمع مناقبه من الناس، تزم شفتيها، حزنا؟ لا بل سخرية، كيف يمكنها ذلك؟ تبدأ مراسيم إخراج الميت، لكنها تستبطئهم، ربما حرصا على الميت وشوقا إلى توديعه؟ لدينا هنا فراغ، لكن التأويل ينصرف إلى عكس ذلك، ربما لأنها منتشية بالحضور خصوصا من الرجال، مع مرور السرد، يبث السارد قرائن ترسم صورة مفارقة للمنتظر، تمسك الزوجة بيد أحد الحاملين، تضغط عليه دون أن يشعر بها، لكنه سيدرك في النهاية أنها هي الميتة حقا لا زوجها.

وهنا تنفجر الدلالة، وتخيب ظننا، أو ربما رغبتنا، بل تبني عندنا عواطف مقيتة تجاه هذه الزوجة الخائنة، خصوصا حين أوهمنا العنوان أن وفاتها المقرون بوفاته هو رمز لوفائها، لكن موتها موت معنوي وليس مادي، موت لصفات الزوجة الصالحة، موت لقيمة إنسانية لاشك أنها تماثل الواقع في كثير من تجلياته السوداء.

إن المفارقة في النصوص السابقة، وبما تحمله من آثار أدبية واضحة، أهمها بث عنصر التشويق والإثارة، والذي يتولد عن انطلاقة القراءة من فرضية غالبا نضعها انطلاقا من العنوان، لكننا نبدأ بتصاعد نسقي نفقد الثقة في هذه الفرضية حتى نخلص إلى عكسها، أو إلى صدمة تدق قلوبنا بعبرة أو موعظة، وفيها يتحقق المستوى الثاني، وهو الأثر البلاغي، الذي ينطلق من خطاب عاطفي كما لاحظنا في صورة الزوجة، والتي رسمت صورتها في قلوبنا عواطف قاسية، خصوصا وأن تجليات خيانتها خالفت حتى الطبيعة الإنسانية التي تفرض الوقار في مشهد الموت. إن الأثر البلاغي، يحول قراءتنا للنص من مستواه الأدبي إلى مستواه التواصلي، عبر البحث عن المغزى، وهو حمل المتلقي على اتخاذ موقف من واقعه، وهو موقف محاصر بإرادة السارد، الذي يشحن عواطفنا ومن ثم قناعاتنا حتى تلائم مقاصده، من تعاطف مع شخصية ما أو كراهية سلوك مشين يصلنا قبحه من خلال الموقف السردي الذي يعرضه فيه.

2.المفارقة السياسية.

إذا كنا في الشق الأول من هذه المداخلة قد حاولنا الكشف عن بعض الصور الاجتماعية التي رسمها ميمون حرش عن الواقع، والتي قلنا أنها صور غير حيادية بل تبني مواقف نقدية مضمرة تجاه المشاكل الأخلاقية التي يعاني منها مجتمعناـ، فإننا في هذا الجزء سنحاول بإيجاز أن نكشف جانب آخر يؤكد على حضور بارز  للمفارقة  التي تحيل على موقف القاص، في مجموعة “ندوب” لميمون حرش، ذلك أنه لم يملك إلا أن ينخرط في الواقع العربي العام الذي طبعته مآسي سياسية كبيرة خلفت مواقف ووجهات نظر عند المتابع العربي عامة والمغربي خاصة، ويمكننا أن نزعم بأن المواقف النصية التي تبثها القصص القصيرة هنا، تخص موقف الإنسان المثقف المنخرط بوعيه الكامل في قضايا عصره، لكنه كما سبق، اختار أن يوزع وجهات نظره داخل مواقف سردية تكشف المفارقات السياسية بسخرية نقدية بليغة، وهنا تحضر القضايا السياسية الأهم في العالم العربي، بداية من قضية مصر، وقضية سوريا وفلسطين، ثم قضية الربيع العربي الفاشل.

نبدأ معه بقصته القصيرة جدا “مبارك” هو عنوان يحيل مباشرة على القضية المصرية، ويمنحنا صورة عن موقف المثقف من هذه الشخصية، إنه يعقد مقارنة بين مبارك وفرعون، ويخلق التناص الذي يصور المفارقة بين الطاغيتين: الأول ينصح الثاني ويذكره بتجربته:

“لا تركب رأسك، خذ الحكمة عني.. كنت مثلك، عاندت، فسقطت على رأسي..”(7)

… مبارك متحسسا الرأس والكرسي:

وهل هناك في مصر الآن أحسن مني في الجن والإنس”(8)

إن التناص بين تجربة فرعون ومبارك لا تحضر وفق التداخل العادي بين نصيين متباعدين زمنيا، بل تحضر وفق حوار افتراضي متخيل بين الشخصيتين، حوار وعظي يضع فيه فرعون تجربته عبرة أمام مبارك، لأن الأخير يأبى إلا أن يعيد نفس التجربة ويخلص لنفس النتيجة:

الظلم + العناد + المحاربة من أجل السلطة + الانهزام المذل

ولعل هذه التطابق بين الماضي والحاضر هو الذي برر النتيجة التي لن تكون سوى تعليق فرعون على حال مبارك،

“فرعون، يدير الظهر راجعا وهو يهمس:

تعسا.. هذه حال الفراعنة منذ الأمس..”(9)

إن المفارقة التاريخية تتضمن في هذا السياق تقديم نقد ساخر من تجربة مبارك، الذي يمثل امتدادا لصورة فرعون الطاغية، وهذا الوصف يتضمن وجهة نظر بارزة تجاه القضية المصرية. وما ترتب عنها من تكرار ساذج لأحادث التاريخ.

وهو في قصة أخرى يسخر أيضا من هذه التجارب العربية، مبينا المفارقة الساذجة الذي انطوى عليها اسم “الربيع العربي” يقول في قصة “ثلاثة فقط..”

بمناسبة انتهاء مسلسل “الفصول”

انتصبتْ كشمعة فارعة في صحن،

اقتضبت كلمة عن الفصول الأربعة،

وحين عددت مزايا الربيع،

لمحتِ الرئيس المخلوع بين الحضور..

استدركت بسرعة:

“واهمون.. الفصول ثلاثة فقط..” (10)

تبدأ المفارقة في هذه القصة من دلالة الربيع، الذي أخرجناه من تدافع الفصول الأربعة، واستعرناه لوصف حالة عربية لم يكن لها إلا أن تسيء لهذا الفصل، فانتهاء مسلسل الفصول، استدعى عدّ مزايا فصل الربيع، أي ربيع؟ نعم هو هذا الربيع، الربيع الذي يفترض فيه الجمال، والحياة، فصل الخصوبة والولادة، لكن هذا المديح لا يمكنه أن يستمر، بل لابد أن ينقلب إلى الضد، فإذا كان الربيع شهد إطاحة رؤساء الفساد، فإن عودتهم إلى الصورة كانت انتكاسة ساخرة فجرت المفارقة في هذه الاستعارة الخاطئة، الربيع العربي، وهنا، تأكد أن الربيع العربي أفرغ دلالات هذا الفصل، بل حذف من قائمة الفصول، فأصبحت ثلاثة فقط.

 خاتمة:

أشياء كثيرة يمكن أن نخلص لها في هذه الخاتمة، لكن الواضح منها أن ميمون حرش هو قاص مثقف، مهموم بواقعه، وحامل لرسالة قيمية أخلاقية، ولطموح منكسر لم يشأ إلا أن يسخر منه عبر توظيف المفارقة بين الكائن والممكن، الحلم والواقع. لكن القوي في هذه التجربة هو قدرة القاص على تطويع هذا الجنس الأدبي الجديد وتمكينه من تحمل وجهات نظر عديدة ودقيقة، إن القصة القصيرة جدا هي الأصعب على الاطلاق، عكس ما قد يدعي من يستسهل هذا الجنس من خلال صغر حجمه. إنك تكون في ورطة حقيقية عندما ترغب بقول شيء ما وتكون المساحات اللغوية محدودة جدا. لا تحتاج إلى اللغة فقط بل تحتاج إلى بلاغة الحذف والحجب، تحتاج إلى بلاغة الانتقاء تحتاج إلى بلاغة التنسيق السردي. لأن المبدع في هذا النوع ليس مسؤولا عن بناء قصة مكتنزة ومختزلة، بل مسؤول أكثر بتوجيه قراءة المتلقي وتنظيم آفاقه التأويلية. وفي نظرنا ان ميمون حرش تجاوز إشكالات القصة القصيرة جدا في بعدها الأدبي، وتعمق بها في الأبعاد البلاغية، خصوصا حين انفتح بهذا الجنس على الواقع، ليؤكد فكرة نظرية شاملة تقضي بأنه من المستحيل البحث عن أدب خالص، لأن قيمة كل نص أدبي تظهر في درجة تفاعله من الواقع، فالقارئ لا يشعر بعد القراءة إلا وهو يبحث في الواقع عما يقرأ، وحينها فقط يختبر مفارقة النصوص ويكتشف أن القصة هي تلخيص لمفارقة الواقع.

*باحثة من طنجة

_____________

هوامش:

(1) علي حرب، نقد النص، المركز الثقافي العربي، ط.4، 2005، ص:….

(2) ندوب، ميمون حرش،…. ط1، 2015.

(3) ندوب، ص: 114.

(4) نفسه، ص: قصة ابليس

(5) نفسه، ص: يموت

(6) نفسه، ص: 98.

(7) نفسه، ص:… مبارك

(8) نفسه، ص: مبارك

(9) نفسه، ص: مبارك

(10) نفسه، ص: 61.

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *