وجوه الحب الثلاثون..من دون النساء لا أستطيع أن أعمل شيئاً

*علي حسن

في الساعة الحادية عشرة من ليلة الخامس والعشرين من تشرين الأول عام 1881، وفي إحدى قرى الجنوب الإسباني، أبلغ معلم الرسم جوزيه بلاسكو بأن زوجته انجبت له طفلاً ميتاً، تسلم الجسد الطري وهو ينظر بحسرة الى الطفل الذي كان يتمنى أن يعلمه الرسم، في تلك اللحظة تقدم العم سلفادور بلاسكو وحمل الطفل بين يديه، نافخاً في وجهه دخان سيجارته ، وفجأة تحرك الجسد الصغير وصرخ الطفل، وقع الأب مغشياً عليه ، وهو يصرخ “ابني حي”.

 وقد اخبرته عمته فيما بعد وهو في العاشرة من عمره ، أنه يشبه اشبال الأسود التي تولد ميتة الى أن ينفث الأسد فيها فتدب الحياة في أوصالها، كانت هذه الحكاية جزءاً من المعتقدات التي يؤمن بها القرويون في إسبانيا ، وأضافت العمة، أن حياة ابن أخيها ستكون أشبه بحياة الأسد، متقلب المزاج، يهوى مطاردة فريسته الى أن ينقض عليها، وسيكون دائم الحركة، حتى وهو نائم لايعرف الراحة.. أطلق على هذا الطفل اسم بابلو جوزيه بلاسكو، لكنه اختار فيما بعد، أن  يضع اسم أمّه الى جانب اسمه  وهو يوقع أولى لوحاته “بابلو بيكاسو” ، فقد كانت ماريا لوبيز بيكاسو أول حب في حياته ، ويكتب في احدى رسائله: “كل النساء اللواتي عشقت تمنيت لو أن اسمهن ماريا لوبيز، فعندما كنت صغيراً كانت امي  تقول لي: عندما تكبر ستلاحقك النساء، فأحذر أن تقع في شباكهن، وكنت اتمنى أن اقع في شباكها هي” . حين دخل مدرسة الفنون الجميلة في برشلونة، كان أول رسم حققهُ بالألوان “بورتريه لأمّه” التي : “فهمتني أكثر من أي إنسان في العالم”  وأصرّت على أن ابنها سيصبح في يوم من الأيام عبقرياً : “اعتقد أن كل شيء ممكن بالنسبة لك، ولو قيل لي يوم أنك غنيت لصدقت ذلك أيضاً”  .
ويبدو أن نبوءة عمّته قد تحققت، فما أن بلغ العشرين من عمره حتى ظهرت النساء في حياته، فرناند، ايفا، اولغا، ماري تيريز، دورا مارا، فرانسواز، جنفياف، جاكلين.  سُئل يوماً ما الذي يستهويه في المرأة ؟ فأجاب عنادها قبل جمالها؟ وقال يوماً لجنفياف: أنا في الحب مثل الرجل الأعمى، أحب الأشياء التي لا أراها ، وإنما احس بها “.
ويقول للناقد الفني الشهير هربرت ريد: “منذ الوهلة الأولى نبتت في داخلي الرغبة في المغامرة، وحب عذريات الوجود. فالمرأة تشدني دائماً، إنها في هذا العالم مثل الأسماك الحمراء “.
************

فرناند اول القائمة
في ليلة من ليالي نيسان عام 1904 ، شاهدها وهي تركض باتجاه البناية التي يقع فيها مرسمه، كان المطر غزيراً، أصطدمت به دون أن تراه
– آه عفواً يبدو أن هناك أحداً
كان الرجل القصير يحمل بين ذراعيه قطّة صغيرة أراد أن ينقذها من الوحل : التقطتها من الشارع، كانت تائهة وتُقاسي البرد .
ومن دون أن تشعر تناولت القطّة من يده، كانت هذه الفتاة اسمها “فرناند اوليفيه” وستصبح أولى النساء في مجموعته التي ضمّت سبع نساء، وقد قالت عنه فيما بعد: “عندما رأيته للمرة الأولى ظننته يعمل بهلواناً في السيرك، كان يرتدي قميصاً وردياً وربطة خضراء ومعطفاً أسود يصل الى قدميه”.
كانت تصغره بثلاثة أعوام، من عائلة بسيطة، تعمل موديلاً بعد أن فشلت في تجربة زواج قاسية، وعندما دعاها الى مرسمهِ وجدت نفسها وسط كومة من اللوحات والإطارات التي تملأ المكان، مرسمهُ يدّل على أنه فقير أيضاً، سرير عتيق وكرسي مربوط به كلب صغير، ومنضدة تتجول في أدراجها الفئران، وقالت لنفسها وهي تتفحص المكان: ” ما هذه الحياة البائسة ” .
لكنها منذ اللحظة الأولى تركت في نفسه أثراً كبيراً، حتى أنه وصف حبّه لها بـ “الحب الجنوني”، فقرر أن يستحوذ عليها وبدأ يرسمها: امرأة نائمة أمام رجل يجلس قرب السرير، سانداً ذقنه بقبضة يديه، يتأمل مشدوهاً بالمرأة الغارقة في نوم عميق وقد طوت ذراعها على رأسها . لم تمانع فرناند، أن يرسمها بيكاسو من كل الجهات، ومن دون أن يهمل أدقّ التفاصيل، حتى ثيابها التي أصر على أن يرسمها باللون الوردي .
وكان يقول لأصدقائه: “أنا بحاجة الى الحب لأتمكن من العمل، فالحب هو الجدار الواقي الذي يرد الصدمات والخيبات”.
لم تكن لوحات بيكاسو آنذاك تحظى باعجاب هواة الفنون، وكان بيكاسو يعيش في فقر دائم: “كنا مفلسين ولم نحظَ يوماً بوجبة طعام فاخرة” هكذا تصف فرنارد حياتها مع بيكاسو، لكنَّها تخبرنا أن الحظ حالفهما ذات يوم: “وصل تاجر اللوحات الشهير فولار الى مرسمنا من غير موعد، وفجأة اشترى 25 لوحة من لوحات بيكاسو ودفع نقداً 2000 فرنك فرنسي ليحولنا من شحاذين الى برجوازيين”.
بدأت فرناند تحلم بأن تصبح سيدة وتملك بيتاً وأثاثاً، ورضخ لها بيكاسو الذي وجد لها شقة في حيٍ راق من احياء باريس، هناك عاشت احلامها، فهاهي تملك غرفة نوم حديثة الطراز، وصالة بها بيانو، وضيوف من طبقة اجتماعية راقية، لكنَّ بيكاسو العنيد لم يكن فرحاً بهذه الانتقالة، فهو يحنّ الى مرسمهِ القديم، وأخذ يشعر أن توهجه في طريقه الى الانطفاء، وأخيراً قرر أن يعود الى المرسم ويترك فرنارد لعالمها الجديد، وحين علمت بالأمر، أرادت أن تثير غيرته فارتبطت برسام ايطالي شاب وسافرت معه، لتسدل الستار على أوّل قصة حب، وليبدأ بيكاسو حكاية جديدة مع امرأة اسمها مارسيل ولقّبها هو بـ “إيفا الغامضة”.
************

المرأة الغامضة 
ظلّت حياتها على شيء من الغموض، وزادها أنها اتخذت لنفسها ثلاثة اسماء ، بيبي ومارسيل وإيفا، عاش معها بيكاسو مرحلة الحب العظيم  كما اسماها، وبرغم ذلك لم يرسمها إثباتاً لحبّهِ لها وتأكيداً على أنها ملكٌ له لوحده، ولهذا أصر في تلك المرحلة من حياته أن يوقّع على لوحاته باسم إيفا اضافة الى اسمه، وقد عاملها معاملةً خاصةً، فهي لاتتدخل في أموره الشخصية، وتكتفي بدورها كامرأة الى جانب رجل متميز، ولم تكن تعلق على قوله: “إن الرجل المتميز يحب عمله أكثر من أي شيء في العالم، حتى اكثر من المرأة التي يحب”.
رافقته في رحلة صعوده الى الشهرة والنجاح، وكانت بصحبتهِ في تنقلاته، وشهدت معه ولادة مرحلة التكعيبية، ونراه يكتب في كرّاس معرض مشترك مع الرسام براك، عرضت فيه أعمالهما التكعيبية: “كنت قبل أن امسك بالفرشاة، أنظر الى واحد من أجمل الأعمال التي يحتويها بيتي، محبوبتي إيفا “.
في سنة 1914 نشبت الحرب العالمية الأولى، ويشعر بيكاسو بأن الكارثة ستحل قريباً، وبالفعل حلّت حين أخبره الطبيب، أن إيفا مصابة بالسل، ولم يمهلها المرض طويلاً لتتوفى في مطلع عام 1916، فدفنها في مقبرة قريبة من مرسمه، وأصيب بحالة من العزلة والاكتئاب، وفي كتابها بيكاسو، تشير جيرترود ستاين الى أن: “بعد موت إيفا. لم نسمع من بيكاسو أية ضحكة” –   جيرترود ستاين بيكاسو، ترجمة ياسين طه حافظ  – وحين شاهده صديقه الشاعر أبولينير وهو يغوص في الحزن قال له: “انت بحاجة يا صديقي لضربة سوط  حب جديد، وعاطفة جديدة” وكان السوط هذه المرّة امرأة روسية اسمها أولغا .
************

مصيدة الزواج 
كانت أولغا كوكلوفا، راقصة استعراضية في فرقة باليه، في العشرين من عمرها، وهو في السادسة والثلاثين، بدأت شهرتها تظهر بوضوح، سحرت بيكاسو ببرائتها التي تشبه براءة الأطفال، فقال له صديقه جان كوكتو: ” احذر يا صديقي، إن الروسيات ينشدن الزواج”.
صحب بيكاسو أولغا الى إسبانيا، فقدمها الى عائلته، وما أن رأتها والدته حتى قالت لها: “يا صغيرتي المسكينة، لو كنت صديقتك لأقنعتك بالابتعاد عنه وتركه، لأنه لا يستطيع أن يحب امرأة واحدة، مهما كانت جميلة وطيبة ومخلصة. لن يكون ملكاً لها، لن يكون ملكاً سوى للرسم فقط”. لكنهما تزوجا في الثاني عشر من تموز عام 1917 ، ليبدأ معها مرحلة جديدة، وتقول له: إذا رسمتني فإنني اريد أن يكون وجهي متميزاً. وقد رسم لها ولابنه باولو، اكثر الصور الشخصية وداعةً ووضوحاً في فنه. كان بيكاسو ينظر الى أولغا بأنها انسانة تعتمد على العقل ولاتعرف أن تسلم أمورها الى الفوضى العارمة، في الرابع من شباط عام 1921 ولد ابنهما البكر بولو، فطلبت أولغا أن ينتقلوا الى سكن جديد،  وأن يشتري لهما سيارة فخمة، وأن يدخل خادمة الى البيت، وفي عز نشاطه الفني، بدأت الغيرة تشتعل في نفس أولغا التي كانت تشكو من الفوضى التي تتسم بها حياة بيكاسو، بينما كان يشكو هو من الهدوء والنظام، وبدأت المشاكل، وحين سُئل لماذا لايستطيع العيش مع امرأة واحدة أجاب : “لقد سعيت جاهداً أن أكون مخلصاً للمرأة التي تكون إلى جانبي. فمن الظلم أن أقول أنّي لم أغرم بالنساء اللاتي رافقنني”. ولم يكن هناك من حل سوى الفراق، فمنح أولغا قصراً في منطقة بواجولو، وانتقل هو للعيش في مرسم جديد في وسط باريس .
حياة بيكاسو مع أولغا كانت متميزة بالنتاجات التي شكلت علامة مهمّة في حياته ومنها لوحته الشهيرة ” الجورنيكا “، وبالرغم من افتراقهما ، إلا أن بيكاسو لم يتخلص من مراقبة أولغا الشديدة، فكانت تطارده في المعارض التي يذهب إليها، ويُقال انها كانت تذهب لتجلس قبالة بيت بيكاسو، لتراقب الزوار الذين يدخلون إليه، وكانت تقول لكل من يراها: “بيكاسو ليس في المنزل، أنا عدت لأعيش معه، لقد تخلّى عن كل النساء من أجلي” وبقيت هكذا حتى وفاتها عام 1955، اثناء فترة الفراق بينه وبين أولغا، عاش بيكاسو متقلباً في علاقته مع النساء، ومرة قال لصديقه الشاعر الفرنسي اراغون: “كيف تستطيع أن تعيش على حب امرأة واحدة، ستصبح في يوم من الأيام عجوزاً”.
************

الفتاة المثالية 
في عام 1931 يضيف بيكاسو الى قائمته امرأة جديدة، ماري تيريز أو الفتاة المثالية ، كما كان يحب أن يصفها، التقى بها مصادفة وهي تنظر الى احدى اللوحات، كانت شقراء ذات مظهر اغريقي، ركض نحوها وأمسك يدها قائلاً: “أنا بيكاسو سننجز أنا وأنت، معاً أشياء عظيمة” ، لم تكن الفتاة قد بلغت الثامنة عشرة، وعندما تحدث معها عن الرسم والشعر سخرت منه، كانت تعشق الرياضة، وحين أخبره أحد الأصدقاء بفرق العمر بينهما، قال بيكاسو: “لا يهمني كلامهم، اريد أن أصغر 20 سنة جديدة مع كل فتاة جديدة”، لقد وجد فيها الحياة الوردية، وخلال الخمس عشرة سنة التي ارتبط معها بيكاسو بعلاقة غرام، رفضت أن تسكن معه في منزل واحد: “أريد المحافظة على حريتي، ولا أقبل أن أسجن، من أجل حب رجل، في بيت ضيق”. وبرغم ذلك اصبحت المرأة المفضلة بين كل نساء بيكاسو، كان يعمل المستحيل لإرضائها، استمر في علاقته  المتميزة معها  ثماني سنوات، كان فيها يشعر بالهدوء والراحة، إلا أن حياته كانت رتيبة، لامجال للتغيير فيها، ونجده يكتب في دفتر يومياته” :الحب كالفطر، على أنواع، ولاندري إذا كان هذا النوع أو ذاك من الأنواع الجيدة أو السامّة إلا بعد فوات الأوان”.
وقد بدأت ماري تشعر بالملل الذي يحيط بحياتها، فحاولت أن تسترجع حياتها السابقة وأن تعود الى ماضيها، وزاد في حيرتها، أن بيكاسو تعرف في ذلك الوقت على الفتاة دورا، التي كان يتعمد رسمها أمام ماري، ففضّلت الابتعاد، كانت قد انجبت له ابنته “مايا”، تركته لمغامرته الجديدة، لكنه ظلّ يزورها كل خميس، مثلما كان يزور زوجته أولغا كل يوم أحد، انه يحتاج الى أن يجمع النساء من حوله، يحتاج الى العواصف والمرح والضحك والغضب، وللنساء خاصة: “بدون النساء لا استطيع أن أعمل شيئاً”.
وتحولت الحياة بين بيكاسو وماريا الى مراسلات وزيارات متباعدة، وقد استمرت الحال بينهما لسنوات طويلة، كان خلالها بيكاسو ارتبط بأكثر من امرأة، مما زاد من آلام ماريا وعذاباتها، ولم تستطع تحمّل الغيرة التي تحاصرها، فقررت أن تضع حداً لشكوكها ومرارتها من الحب، فانتحرت في كاراج منزلها، وعثر عليها رجال الشرطة بعد يومين، كانت ابنتها في المدرسة الداخلية، وعلّق بيكاسو على حادث الانتحار بقوله: أنا رجل مسكين، تعذبت كثيراً مع النساء”. لكن الصحافة أخذت تحاصره وتعلّق على نبأ الانتحار، بأن بيكاسو هو الذي دفع حبيبته السابقة الى التخلص من حياتها.
ظلَّ بيكاسو يقول للمقربين منه، إن سيحب النساء حتى يفقد عقله، وسيلتصق بهن الى آخر يوم في حياته : “اشعر امام النساء بطاقة بالغة لا تمحى، بل وبالهلع أحياناً، فلا استطيع أن أرسم دون أن أرى امرأة جميلة الى جانبي” .. وكانت المرأة هذه المرة ابنة مهندس يوغسلافي وأم فرنسية .
************
المرأة المفكرة
اسمها دورا ماركوفيتش، وجه جميل، عينان خضراوان، في قوامها نوع من الاثارة، لكنها أيضاً المرأة الأكثر ثقافة من بين جميع النساء اللواتي تعرف عليهن.
كانت دورا شغوفة بالحركة السريالية، وتطالب بيكاسو بأن يرفض كل قديم ، وقد بدأت حياتها كرسامة، ثم مصورة فوتغرافية، التقى بها في أحد المقاهي الباريسية، قال لرفيقه اندريه بريتون وهو ينظر اليها: “انها جميلة جداً”.
فرفعت رأسها وابتسمت له فسألها: هل انت أسبانية ؟ أجابت انها عاشت طويلاً في الارجنتين. عرف بيكاسو فيما بعد انها جربت الرسم وفشلت، وإن المشاكل تؤرقها، قالت له: اريد ان أجري حواراً معك، فأجاب بيكاسو: حسناً لنبدأ الآن. وبدأت اللعبة الكبيرة، والحب الكبير، لقد اشتاق بيكاسو للمرأة المفكرة بعد سذاجة ماري تيريز، لقد شعر أن دورا تحمل نفس الهموم والضيق الذي يغمره بين الحين والآخر ويكتب في يومياته: “وجدت فيها لأول مرة الشخص الذي استطيع أن اقول له كل شيء من دون أن انطق”.. ومنذ ذلك اللقاء لم يفارقها، كان في السادسة والخمسين من عمره لكنه يبدو في أوج حيويته ونشاطه، تخلت دورا عن الاستوديو الذي كانت تعيش فيه وذهبت لتعيش معه، لكن قصة حبهما لم تدم طويلاً، اذ كانت مشاجراتهما تتكرر كل يوم، وقد رسم بيكاسو دورا في لوحته الشهيرة “المرأة الباكية” ويقول الشاعر الفرنسي بول ايلور: “إن العلاقة المضطربة التي عاشتها دورا مع بيكاسو خلقت في نفسها نوعاً من الضياع  والإرتباك ” ، لم تعد تعرف كيف تتصرف وذات يوم صرخت في وجهه: “بابلو اترك نصائحك لنفسك” ، ثم بدأت كأنها تعاني مرضاً ما، الأمر الذي دفع بيكاسو الى عرضها على طبيب نفسي ونجده يخبر بول ايلور قائلاً : “كل مرة أتعرف فيها على امرأة جديدة، يجب ان احرق التي مرت قبلها. هكذا أكون حراً  طليقاً من دون قيود. ولن تستطيع واحدة، ايّ واحدة، أن تشغلني طيلة حياتي، أو أن تتملكني. اترك المرأة، وانسى الماضي، كل الماضي، ربما هذا يعيدني الى الشباب الدائم”.
أقامت دورا معرضاً لأعمالها، عرضت فيه لوحات كان فيها الكثير من روح بيكاسو  الذي قال عنها: ” ليس للفنان الحرية التامة كما يعتقد، ودورا بالنسبة إلي المرأة التي تبكي، وقد رسمتها هكذا، ليس لأنني سادي، بل لإظهر الحقيقة  التي عشتها، وأحسست بها.
أنهى بيكاسو فجأة علاقته بدورا، ولاحت الأفق امرأة جديدة اسمها فرانسوز جيلو التي تعد المرأة الاكثر جرأة في حياة بيكاسو .
************

حياتي مع بيكاسو 
في الحادية والعشرين من عمرها  تعرفت عليه  ، كان قد تجاوز الستين بأعوام ، صاحب اسم كبير وصاحب ثروة هائلة. كانت تحلم بأن تلتقيه، ورسمت في مخيلتها صورة له، شاهدته عن قرب للمرة الأولى عام 1943 كان يجلس في أحد المطاعم، تأملته طويلاً، كانت تشاهد صوره في المجلات والصحف، لكنه في الواقع يختلف كثيراً وفي كتابها “حياتي مع بيكاسو” الذي ترجمته الى العربية مي المظفر، تصف لحظة اللقاء الأول: “لاحظت بعد برهة، انه كان يتطلع إلينا باستمرار ثم يبتسم، ويرفع صوته باتجاهنا  وهو يروي بعض نكاته، بعد فترة قصيرة نهض من مكانه وحمل بيده حفنة من الكرز وهو يسأل، ماذا تعملين:
– انا رسامة
• اذا ، لقد خُلقنا لكي نتفاهم، تعالي يوماً لزيارتي في المرسم.
ولم تنتظر طويلاً، ذهبت مع صديقتها جنفياف لزيارته، احتفى بها كثيراً وعرض امامها لوحاته ومنحوتاته وتقول في مذكراتها: ” نسى شهرته وعظمته وتصرف مثل مراهق، وقد دهشت عندما قال لي: آمل أن تزورينني ثانية، وألا تكتفي بالتطلع الى اللوحات فقط”.
كانت فرانسواز جميلة جداً، ويصفها بيكاسو بأنها: “ذات وجه نبيل، وشعر ذهبي هائل، وعينان كبيرتان، وكان يزيد من جمالها شيئاً من الاستغراب”،   ذات يوم قال لها: “أنا عجوز  لم يبق لي من العمر كثيراً، ومن واجبك أن تلازميني ، لكي أسعد في الفترة المتبقية من حياتي” ومرة اخرى قال لها، أخاف أن اموت قبل أن أحب كل النساء.
ثم أشار الى لوحة وهو يقول : ” هذه انت، هل عرفتي كم احبك؟” ، وحين انجبت فرانسوز ابنها كلود،  قال لها بيكاسو: ” الآن اصبحت جزءاً من حياتي، ويجب أن نرتبط برباط لن ينفصل”، لكنه لا يستطيع الابتعاد عن النساء وتكتب فرانسواز في حياتي مع بيكاسو: ” ازداد يقيني بأنه يعاني  نوعاً من العقد النفسية، تجعله يحتفظ بكل نسائه في متحف خاص به”، سنوات عشر قضتها فرانسواز جيلو مع بيكاسو، وانجبت له ولدين، كلود وبالوما، عاشت فيها سنوات مليئة بالأفراح والهموم والغيرة أيضاً، وفي لحظة ما قررت أن ترحل، وكان رحيلها اشبه بمشهد مسرحي، ودعته الوداع الأخير أمام الجماهير في افتتاح عرض لمصارعة الثيران سنة 1953 وهي ترتدي زي فارسة، وذلك بترتيب بينها وبين بيكاسو، ونزع من يده ساعة كانت قد أهدته إياها فرانسواز وأعادها إليها قائلاً: وقتك لم يعد ملكاً لي..
لكنه بعد فترة استشاط غضباً. لقد اصبح البيت خاويا الآن. لقد وفت بوعدها ورحلت مع الطفلين بشكل نهائي، طفليه هو! يا لها من فعلة شنيعة.
. لقد أمضيا عشر سنوات معا ، وقد عرفته بشكل أفضل من أي شخص آخر تقريبا وعرفت شخصيته بكلا جانبيها، الرقيق والشرس. ولكنها عرفت أيضا بأنها ستضيع هي وطفلاها إن أمضت إلى جانبه فترة أطول. ونظرت فرانسواز إلى كلود وبالوما اللذين كانا يجلسان إلى جانبها في السيارة. ما تزال تحب بابلو ولكنها تحب أطفالها أكثر.
“لا امرأةً تتخلى عن رجلٍ مثلي”، هذا ما قاله بيكاسو لها قبل أسابيع من الفراق . لكنها استطاعت ان تفارقه .
************

خاتمة المطاف رصاصة
في الرأس 
بعد انفصال فرانسواز عنه شعر بيكاسو بأنه في الجحيم، كل شيء حوله تلفّه الوحدة، مات صديقه الرسام ماتيس، ولاتوجد امرأة قربه تواسيه،  صار كهلاً، وبدأ يشك في أن هناك امرأة يمكن أن تعيد إليه حيويته، الى أن التقى جاكلين روك، امرأة ناعمة الخدين، زرقاء العينين ، تتكلم الاسبانية قالت وهي تنظر إليه: “كيف يمكنني أن اترك هذا الرجل المسكين وهو في مثل هذا العمر”  ، أخذت تتردد كثيراً على مرسمه،  قال لها ذات يوم: ” كل النساء اللواتي تعرفت عليهن كن حبيباتي ، أما أنت فستكونين أرملتي” لقد وجد نفسه امام امرأة تهتم به وتحترم كل طباعه: “انها أوّل امرأة تفهمني، وترجع لي حب الخلق الفني ” ، بدأ يعمل بنشاط  ، عمره الآن اربعة وسبعون عاماً، وقرر الزواج منها، واحتفل بالأمر بكل سرية، وأخذ وجه جاكلين يتكرر في أعماله، وجه المرأة الموحية، المرأة التي تحيي، المرأة التي يخاف منها.
قال لها بيكاسو بعد أن بلغ الخامسة والثمانين من عمره
– يا للعجب لقد استغرقت خمسة وثمانين عاماً، لكي أصبح شاباً
• وستبقى شاباً الى الأبد.. قالت له
وذات صباح من عام 1973 ، اتصلت بالطبيب وقالت له، بأن صحة بابلو ليست على مايرام، وعندما وصل الطبيب كان كل شيء قد انتهى، مات الرسام العظيم الذي قال عنه الرئيس الفرنسي بومبيدو: ” انه الخلود الدائم للأمة الفرنسية”، شعرت جاكلين بأن الأشياء لم تعد لها معنى بعد غياب بابلو، عاشت وحيدة في القصر الكبير الذي تركه لها مع لوحاته وذكرياته، وقالت لاندريه مالرو في الحوار الذي نشره في كتابه “الحبل والفئران” عندما سألها عن أحوالها : “انها تفضل الموت على الحياة من دونه”، وهكذا قررت ذات يوم من تشرين الثاني عام 1986 أن تضع حداً لوحدتها وعذاباتها، فوضعت فوهة المسدس على صدغها وأطلقت النار .
يكتب بول ايلور: “بيكاسو أحبّ بشدة، لكنه دمر الشيء الذي أحبّه “.

_________
*المدى

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *