واقع الفضاء… وفضاء الواقع

خاص- ثقافات

*محمد مراد أباظة

محسوبكم الداعي لكم بطول العمر وعَرْضِه مُصابٌ بعادة مزمنة كالآفة المستفحلة، لا علاج لها في مستشفيات عصرنا وصيدلياته ولا لدى الأطباء الشعبيين، ولا قدرة لي على التخلص منها، والأصحّ أنني لم أتّخذ قراراً بالتداوي منها، ولو فكَّرتُ، وقرَّرتُ، فحاولتُ، لما كانت لمحاولتي أيّةُ فائدة تُذكَر، لأنني أدمنتُ هذه العادة، وباتت كالنيكوتين الذي يُلحُّ دمُ المدخِّن على طلبه كلما عَنّت له فكرة الإقلاع عن التدخين؛ وأعتقد أنَّ كثيرين من أمثالي مصابون بهذه الآفة.
وعادتي المزمنة هي أنني لا أستطيع الامتناع عن أن أتتبَّع بإمعان وإدمان وحرقة قلب واهتمام ما تبثُّه الفضائياتُ العربيةُ على شاشاتها في هذه الأيام، من نشرات الأخبار المصوَّرَة التي تستعرضُ أحداثَ الدنيا، وخصوصاً تلك التي تحكي مسلسلَ المآسي التي تتوالى على منطقتنا المصابة بما يشبه اللعنة الخفية، أين منها لعنة الفراعنة، فأُتابِع تفاصيلَ ودقائقَ وثواني وثوالث التقارير الملحَقة بها بعيون مبحلقة وآذان مصدِّقة وغير مصدِّقة، ودون أن يُعرقلني مانع، فأُطالِع بقلب موجوعٍ وبحرقةِ مفجوع ما آلَت، وتؤول إليه، الأحوالُ في بلادنا التي تحلم بالأمن والأمان، من سالف العصر والأوان.
وكسائر المهمومين بقضايا الوطن والمتألِّمين لأوجاعه التي هي أوجاعُنا، أتخربط نفسيّاً وعصبيّاً وروحيّاً في أثناء جلساتي تلك أمام جهاز التلفاز، وتدهمني كومةٌ من خيبات الأمل والخجل وعدم التوازن وسلسلةٍ من الإحباطات، تُزلزل كياني وتُسمِّم بدَني، وتحرق دمي، وترفع سكَّري، وتُخلخِل ضغطي، وتُخفِض همَّتي، وتُحطِّم معنوياتي، وتُشتِّت نبضي، وتُمرمر اللقمة في فمي، وتكركب حالتي في يومي، وأنا أرى، وأسمع ما يجري أمامي من مستجدّات لا تخطر على بال، واعتداءات، واحتلالات، واقتتال بين إخوة تمكنت العداوة بينهم، ومؤامرات تُحاك في السرِّ والعلن، ومتغيِّرات من سيّئ إلى أسوأ، وأزمات تلو أزمات، وكَيْل المنظّمات الدوليّة ومسانديها من دول “السَّلْبَطَة” السّافرة و”الوجهنة” والهيمنة والقرصنة بأكثر من عشرين مكيالاً.. وما تشهده منطقتنا من تقلبّات ونوازل وقلاقل ومشاكل ووقائع وفظائع ومصائب ونوائب ومجازر وجرائم تُرتَكَب بحقِّ شعوبها، ومشاهد أبرياء تُسفَكُ دماؤهم، وقرى تُهَدَّم فوق رؤوس أصحابها، وعائلاتٍ تُشرَّد في حرِّ الصيف وقرِّ الشتاء، ومناظر تُنسي المرءَ حروفَ اسمّه، وتُشعل نيرانَ هَمِّه، وتُلبِّد قَتامةَ غَمِّه، وتوقُّعاتٍ تُنبئُ بأنَّ ما هو آتٍ ليس بأفضل مما فات، فأُمضي الوقت في أثناء بثِّ النشرات، خلالَ آناء الليل وساعات النهار، وأنا أزفِر، وأنخِر، وأَنُطّ ولا أحطّ، وألعن، وأشتم، وأُزَفِّرُ بشَّتائم ومسبّات من “كعب الدّست” كلُّها من الزّنّار وتحت، و”أفشّ خلقي عالطّالِعة والنّازلة” بكلّ مَنْ حولي، بسبب ومن دون سبب، حتى بالذي يُبادرُني بــ”صباح الخير” أو بــ”مرحبا”، حتى كاد أولادي أن “يطفشوا” من البيت ضجراً منّي، وأوشكت أُمّ العيال على صَرِّ بقجتها وشدِّ الرِّحال إلى مضارب قومها.
وحينَ أخلو بنفسي بعد كلِّ نشرة استفزازيّة، فأُفكِّر بما يجري، وأستقرئ الحاضرَ المزري، وأضرب أخماساً بأسداس وأُحلِّل، وأُفكِّك، وأُفسِّر، وأُعلِّل، وأُركِّب، وأستقرئ، وأستنبط، أتوصَّل إلى نتيجةٍ يُخيَّلُ إليَّ أنّها حتميّة، وهي أنّ الحياة على هذه الأرض وصلت إلى نهايتها، وأنّ أملَ الإنسان في متابعة يومه بشهية بات مفقوداً تماماً، وأنَّ تطلُّعات الحالمين من بني البشر، ومنهم شعوبُ منطقتنا، إلى غدٍ أفضل سباحةٌ في بحر الأوهام، وتيهٌ في غاباتٍ من الأسلاك الشائكة، وأنَّ سعيَهم إلى الأمن والسلام، هرولةٌ في أرض مزروعةٍ بالألغام.
لكنّني، وبدافع الفضول لا أكثر، حين أتجوَّل بين الفضائيات ذاتِها بُعَيد الأخبار وتقاريرها مباشرة، أبدأُ بإعادة حساباتي، ومراجعة تحليلاتي واستنتاجاتي، فيخامرني الشكُّ في أنَّ ما رأيته وما سمعته مما سبق، وقبل لحظات، واقعيٌّ وحقيقيٌّ، فيُخيَّل إليَّ أنَّ كلَّ ذلك ما هو إلاّ مجرَّدُ أفلامٍ مرعبة، أو كوابيس مُتعِبة، أو تخيُّلات لا أساسَ لها من الصحّة، أو هيَ مجرّد تهويلٍ إعلاميٍّ، ورشّات من البهارات والتوابل والمقبِّلات والمنكِّهات لتزيين موائد الفضائيّات، الغاية منها فتح شهيّة المتفرِّجين، ليُتابعوا الخبطات الصحفيّة، فيدهمني ظنٌّ بأنّني أسأتُ الحكمَ والتقدير، وأنّ حال بلادنا بخير، ربما، على غير ما تُصوِّره تلك النشرات، وأنَّ أحوالَنا على أحسن ما يُرام.
أمّا مبرِّر ذلك الظَّنّ فهو أنَّ تلك الفضائيات نفسَها، تقريباً، تتنافس على تقديمِ كلِّ ما هو مُمتِعٌ ومُشوِّق و”مُفرفِحٌ” ومُبهِجٌ ومُنشِّطٌ ومُسَلٍّ و”مُفرفِشٌ ومُزَهْزِهٌ ومُنعنِشٌ”، بحيث تُشير إيماءً أو إيحاءً أو تلميحاً أو تصريحاً إلى أنَّ الأوضاع في كلّ مجالات حياتنا تمام التَّمام!!.. فالطبلُ والزَّمْرُ شَغّال “شغل مو بالعقل”، والرقصُ والفقشُ وهَزُّ الخصور “على أبو موزة” كما يقال، وللغناء حيِّزٌ فَلَكيُّ الأبعاد، وله ونصيبٌ يخزي العين، يُثير حسدَ الحسّاد من مثقفين وأدباء مساكين لا نصيب لهم، من برامج الفضائيّات تلك، إلاّ ما للأيتام على مائدة اللئام. ولعرض الأزياء كَمٌّ من حِصَص، تُسبِّبُ في حلوق المشاهدات البسيطات الغُصَص، وتَحُثُّ عيونَ الرجال على القفز من محاجرها، وهم بصمتٍ يُحملقونَ بما شَفَّت أو انحسرت عنه فساتين العارضات وهُنَّ يتبخترْنَ ويتميَّسْنَ ويتلوَّيْنَ ويتثَنَّينَ على منصّات العرض كراقصات باليه. وناهيك عن استعراض أنواع المكياج، وأحدث الطرائق في عالَم التجميل، بحيث يتمكَّن الخبراء والخبيرات بعدّة لمسات، من تحويل عجوزٍ شمطاء على حافّة قبرها إلى صبيّةٍ في العشرينات بالشدّ والمطّ والحقن وبما لا أدري من وسائل أخرى. وللطبخ والنفخ صولات وجولات، يقودُها جهابذة المطابخ من شيفات وأشياف وشيوف -جموع مقتَرَحَة لكلمة “شيف”- لهم خبرةٌ مطبخيّة، أينَ منها خبرة علماء الذرّة، فهم موسوعاتٌ متحرِّكةٌ تتضمَّن جميع أصناف المأكولات وطرائق تحضيرها من البطّيخ “المبسمر” حتى “ضرّاب السُّخن”، ومن الحلويات والأطباق الفولكلوريّة لدى القبائل الأوسترالية شبه المنقرضة إلى وجبات الحشرات النيئة لدى بدائيّي غابات الأمازون من الصيّادين. ثمّ هناك مراسيمُ انتخاب ملكات الجمال المحلية والعربية والعالمية من بين جميع حسناوات الأرض، وبرامج التسالي والكاميرا الخفية والمقالب والحزازير التي تَعِدُ المتسابقين بالدولارات والريالات والدنانير، وبرامج تخفيف الوزن، والمسلسلات الهندية والمكسيكية والتركية واليابانية والكورية والسنسكريتية المدبلجة، والمسرحيات الكوميدية وبرامج تفريخ المطربين والمطربات والراقصين والراقصات، وكَمٌّ لا حصر له من الفيديو كليبات والأفلام الأمريكية والعربية واستضافة الفنّانين والفنّانات، ومهرجانات وكرنفالات و.. و.. أعني بالمختصَر المفيد الأعراس وسهرات المرح والفرح والسعادة و”الكيف والبسط” والانشراح و”الفرفشة” قائمةٌ قيامتُها، فترى كلما قفزتَ من فضائية إلى أخرى حشداً من الشباب والشابّات في كلّ برنامجٍ فنّي يتراقصون منتشين، على مواءٍ أو نباح يُشبه الغناء، و… “شو بدّي أحكي لأحكي”؟ ناس “مطبّلون بالدنيا مزمِّرون بالآخرة”، وكأنَّ أصحابَ تلك الفضائيّات وجماهيرَ برامجها الطويلة العريضة يعيشون في وادٍ وسائر خلق الله المفجوعين في وادٍ آخر.
وفي لحظة معلَّقةٍ بين السَّماء والأرض أجدُ نفسي دائخاً تائهاً حائراً.. بين واقع الفضاء… وفضاء الواقع.. أبعدَ الله عنكم المواجع.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *