المبدعون.. «ملائكة الشر»

*د. لطيفة لبصير

تحتفظ ذاكرتنا المدرسية بنبل المبدعين وسرهم الملائكي، فقد شهدنا في جبران النبي أرهف المشاعر، وفي المنفلوطي أصدق العبرات، وفي المتنبي أنبل الحكم وأشدها وقعا على النفس… ولكن هذه الذاكرة القرائية سرعان ما انتابها الصدع، حين أدركنا بوعي بَعدي أن المبدعين ليسوا ملائكة مطهرين، وإنما يمكن أن نلمس فيهم صفات «ملائكة الشر».

تشكل حيوات المبدعين أغنى مادة يمكن أن تلهم الإبداع والأدب وعلم النفس… وتظل العديد من الإشكالات النفسية قائمة دون تفسير حتى لدى المبدعين أنفسهم. وقد اعتبر فرويد بأن جل المبدعين يعانون من «رواية عصابية»  تظل هي المسير الأساس لحياتهم وينبغي البحث عنها بشكل أو بآخر، لكن هذه الفكرة قوبلت برفض شديد فيما بعد، بحيث يرى العديد من النقاد أن فرويد بالغ في نظرياته عن الرواية الأسرية للمبدع، وإن كان هو نفسه المادة الدسمة لكل النظريات النفسية.

 ويشكل الأدب الشخصي نقطة استفهام في الأدب، فهو يصنف تحت اسم السيرة الذاتية، ولكن العديد من المبدعين قنعوا هذا الاعتراف السيري بحثاً عن الحب من طرف المتلقي، فالعديد منهم صرح بأن الحصول على الحب هو الرغبة من وراء كتابة أدب شخصي… وقد انتابتني دهشة حقيقية وأنا أقرأ كتاب «الحياة السرية» لسالفادور دالي وهو يعترف بالعديد من الانحرافات السلوكية والهذيانات المقززة التي يمكن أن تجعل منه شخصية ينفر منها الجميع، إلا أننا لا نستطيع أن نراه سوى ملاك شرير، لكونه كان يصف نفسه كما يراها من الداخل بكثير من الفظاعة والإرباك، شأنه في ذلك شأن أعماله التي مزجت بين الإنسان والحيوان والآلات والطبيعة في الآن نفسه بانصهار يصعب تفكيكه، وأيضا بشكل مكثف تجعل من فنه مادة قابلة للعديد من التأويلات.

حين نتأمل الكثير من الإبداعات سواء الأدبية أو الفنية، نجد أن ملامح الشر والخير كامنة داخل الإبداع، ولا نستطيع أن نراها خارجه. ففي العديد من اللوحات السريالية لسالفادور دالي، نجد أن العالم وقد صار مقلوبا يفصح عن تقززه الداخلي الذي لا يظهر على السطح، وكأن كل المشاعر الخبيثة قد لامستنا ولامسناها نحن ـ المتأملين ـ لهذه الأعمال، وفي حياته السرية تكمن العديد من الأوراق التي تفسر، بشكل أو بآخر، الكم الهائل لهذا العالم الذي يغير معاطفه في الفن بحرفية نادرة، وقد تحدث سالفادور دالي عن حياته السرية بشكل يثير الاستغراب والدهشة التي توازي دهشتنا بفنه المافوق الواقعي الذي ما يزال يثير العديد من التآويل.

تبدو طفولة سالفادور دالي مليئة بالشر وبالرغبة في النيل من الآخر، وبالرغم أنه ولد لأسرة ميسورة إلا أن نزعة إلحاق الأذى بالآخرين؛ أصدقاء كانوا أو مقربين منه، كانت تنتابه بشدة، فهو الذي يمكن أن يقذف بصديق من أعلى الدرج، وهو الذي يمكن أن يحدث هلوسة مزيفة في الفصل الدراسي، مما يجعل الجميع مهتما بشأنه! وهو الذي يمكن أن يثير الاشمئزاز والقيء وهو يقضم خفاشا يدب عليه النمل، وهو الذي يحس بتناقض رغباته الجنسية، أو يلحق الأذى بالحشرات، إلى غير ذلك مما لا يخطر على بال؛ ولكن أهم ما يميز شخصيته، هي طريقة استعراضه الشخصي لشكله الخارجي، وذلك الشعور بجنون العظمة وبالرغبة في أن يكون في الأعلى لأن الأسفل، كما يقول، يوجد فيه الصغار فقط، يقول سالفادور دالي في كتابه «الحياة السرية»:
«كنت هناك في بداية التاسعة من عمري، كنت الطفل الملك، ولدي رعاف دائم، وأجلس دائما في حوض الغسيل على سطح المنزل، في الذروة! أما في الأسفل، فهناك الجسد البيولوجي والأنوف المشعرة، هناك المايوني، وأرواح المطهر، هناك الأطفال البلهاء الذين تعلموا أي شيء تريده، وهناك السمك المسلوق.. وبالنسبة لي، لن أنزل شارع الأرواح مرة أخرى لأتعلم أي شيء كان. لقد كنت مجنونا منذ سنوات مضت، فلماذا إذن أتعلم الهجاء المربك مرة أخرى بعد أن نسيته منذ ألفي سنة مضت..»

 نعم! تبدو حيوات المبدعين منهلا أساسيا لعالم داخلي بكل ارتباكاته، وإذا كان النقد الأدبي قد أحدث القطيعة مع المؤلف في فترة زمنية معينة بتبنيه لفكرة موت المؤلف التي هيمنت وقتا ليس بالقصير بهدف إحداث قطيعة مع المجتمع ولمحاربة كل أقانيم السلطة، فإنه بدأ بلاوعي منه، يعود إلى حيوات المبدعين، كطعم خاص يغذي الإبداع نفسه وينعشه. فحياة كافكا وصراعه مع الأب، هي أيضا مادة غنية لذلك الرعب الكافكاوي الذي خلق شخصية ملتبسة مثل شخصية غريغور سامسا في قصة «التحول» أو«الانمساخ» التي غيرت نظرتنا للإبداع عموما، فحين يستيقظ غريغور سامسا ويجد نفسه قد صار إلى حشرة، فإن هذا التحول نفسه له مبرره في الشر المحيط بالكاتب نفسه، وهو الذي ألهم هذه الشخصية، بوعي منه أو بدونه.

وبالرغم من أن العديد من المبدعين قد خلقوا لأنفسهم هالة قداسة تظهر للآخر أن الظلم قد وقع عليهم في جل مراحل حياتهم، فإنهم غالباً ما يقنعون الحقائق، حتى لا أقول يزورونها، فقد كتب فرويد حياته وأعلن فيها جل ما حدث له ومعه، والمفاهيم التي استقاها من خلال علاجه الذاتي، غير أنه كان يمنح القارئ ما يريد هو بالضبط ويقوده إليه! وفي الوقت الذي يكثر فيه الحديث عن أفوله ونهاية معرفته، فقد أصبح مادة غنية للإبداع، إذ تحول إلى شخصية ملهمة للعديد من الأعمال الأدبية التي تحمل اسمه والتي تضع القارئ أمام فرويد الآخر الذي لا نعرفه، والذي قد لا يعرف، هو أيضا، نفسه ، لتبدأ عملية اكتشاف جديدة من خلال العديد من الأعمال الروائية أو النقدية اللاحقة التي تحمل اسمه؛ ففي رواية «لائحة فرويد» لـ«كوص سميلفسكي»، والتي جعل الروائي شخصية أخته هي الساردة، تضعنا أمام تناقضات يصعب الحسم فيها، فهو في نفس الآن، كان يحب أخواته، ولكن حين أخبروه بأن يضع لائحة بأسماء عائلته لمغادرة الوطن هربا من التهديد الذي كان يتعرض له اليهود، كتب لائحة تقتصر على زوجته وأبنائه، وخدمه وكلابه، ولم يدرج أخواته، فقدم بذلك للرواية أغنى مادة نفسية يصعب تفسيرها.

إن فكرة «ملائكة الشر» والحالة هاته، لا تعني أن المبدعين أنفسهم قد سعوا إلى إنتاج الشر، ولكنهم كانوا يضمرون شخصيات فريدة من نوعها تلهم الإبداع بشكل كبير! ذلك لأنها شخصيات تظل أكبر من كل النظريات نفسها، ولذا فلا عجب إن لمسنا في كثير من الأحيان ذلك اللاتوافق بين الشخصية الإبداعية والشخصية الحقيقية! أو ليست الحقيقة هي نفسها غائبة؟
____
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *