ظلاميّة الظلاميين والتنظيمات البديلة والأنظمة!

*إبراهيم نصر الله

لن تنتهي سنوات الدّم التي عصفت أحداثها بعالمنا العربي زمنا طويلا، حتى وإن انتهت حروبها، فالآثار، وهي ليست هنا جانبية، بل صميمية، ستبقى وتواصِل عملها في العقل الجمْعي، والسلوك الفردي.
إن أوضح ما كشفت عنه تلك السنوات، المستمرة، أن ميزان التآلف، والتعايش العربي، لم يكن بحاجة للتيارات المتشددة الظلاميّة كي يختلّ؛ ففي موازاة ما حدث من اصطدام، مُدبّرا كان، أو مُصعّدا، أو مُلبيًا لنداء القطيع وصرخته التي ليس في قاموس مُلبيها أي معنى لضرورات العقل؛ في موازاة ذلك، كانت هنالك معارك من نوع آخر بين التيارات القومية، العلمانية، الوطنية، الشعبوية، الفئوية..، لم يكن ينقص أطرافها سوى أن يكون السلاح في أيديهم، كما شهدنا في حالات كثيرة سابقة، لنرى مجازر لا تختلف عن تلك التي ارتكبتْها قطعان الموت الظلامية.
في حروب الأنظمة مع الظلاميّة، والظلاميّة مع الظلاميّة – وليس ثمة نصف ظلامية إذا ما أعتم أي جزء في العقل- خسر الناس الكثير من أحبابهم، أصدقائهم، إخوتهم، وفي الحرب الموازية، حرب اختلاف الآراء خسر كثير من الناس أصدقاءهم، وبعض أقرب الناس إليهم، بصورة قاطعة. بحيث يصل المرء إلى نتيجة قد لا تكون حاسمة تماما، لكنها نتيجة في النهاية، تقول: هل كان الواقع العربي بحاجة للتشدّد الظلاميّ كي يُفرز كل تلك السموم الكامنة فيه؟!
في ظنّي أنه لم يكن في حاجة لما حدث على هذه الجبهة كي يكتشف عمقَ وهَنِه ورمادَ هشاشته، لأن هذا الواقع محتشد أيضا بخلايا نائمة من نوع آخر، ظهرت بسرعة، ما إن تمّ تعميم معادلة (الخير والشر)، وبدل أن تكون التيارات المُستنيرة عنصر التنوير المضاد للخراب، كانت جزءا من تخريب مساحات أخرى لم يصلها ذلك الخراب مباشرة.
إذا ما أردنا أن نتتبع صورة الخراب والقطيعة ونفي الآخر وسحقه، والتعامل معه عدوا، فإن كل تلك المظاهر تم توطينها في البيئة العربية والعقلية العربية من قبل الأنظمة العربية أولا، فهي منذ أن رأت النور، لم تُرنا غير العتمة، حتى أفضلها، التي وقعنا في حّبها لفرط جوعنا لمرحلة لا استعمار فيها، ولا مستعمرين، وقبِلْنا بقاعدة أسرى الأمل وضحاياه: ظلم القريب ولا ظلم الغريب! متناسين حكمة الشاعر العربي القديم: وظلم ذوي القربى أشدّ مضاضةً..!
كان النظام العربي هو أول ظلاميّة حقيقيّة حطمت أحلامنا في الحرية والتطوّر، واللحاق بركب البشرية في كثير من مناطق العالم، فقد سَجَن مواطنيه وعذّبهم، ونفاهم، وذوّبهم بالأسيد، وحرقهم، ودفنهم أحياء، واغتالهم في الداخل والخارج، واختطفهم، وأخفى آثارهم، ومنعهم من السفر ومن العمل ومن التعليم وأبعدهم، وطوال فترة وجوده (المستمرة) أثبت أنه نظام الدائرة المغلقة، التي تزداد ضيقًا وفسادًا، بمعنى أننا ندور حول أنفسنا كأوطان، خارج أي حلم بأن يكون لدينا كرامة حضارية، بما تعنيه هذه الكرامة من تطوّر وتنمية وعدالة وحرية واطمئنان لمستقبل الأجيال القادمة. ولم تكتفِ هذه الأنظمة بفكرة خط الدائرة المُغلق، بل أصبحت تضيق، واستخدمت كل قوة مضادة للتطوّر والأمل سوطا لإجبار الناس على الصمت، والقبول بها وبقياداتها المُلهمة، الخالدة، الرشيدة، الحانية، الراعية، السّاهرة، الحامية، وهي عكس ذلك كله تماما، وباتت، بدل أن تحمي مواطنيها، تهدّدهم بإطلاق العنان لأعدائها، الوحوش، عليهم!
نعيش في غرف مُغلقة مع الأفاعي ويهددوننا بإدخال الضّباع علينا!
ربما يكون قد آن الأوان للخروج من الكماشة التي لا تملك فكّين فقط، بل ثلاثة: فكّها، وفك الظلاميّة، وفك تيارات تدعي التقدّمية وتجاوز بعضها السبعين، منذ (استقلال أوطاننا!) ولكنه لم يزل في مرحلة المراهقة الفجّة.
لقد أثبتت سنوات أعمار هذه الأوطان أن ثمة مُرَكَّبًا في داخل عقولنا، هو مُركَّب البحث عن ضحية، والبحث عن عدوّ داخلي، خاصة داخليّ، وإن لم يوجد يتمّ اختراعه، صناعته، تفصيله، ليكون ملائما تماما للمعركة التي سنشنّها عليه، لتبرير محوه.
في العالم العربي، على المستوى الأنظمة، وعلى مستوى التنظيمات، وعلى مستوى أولئك الذين يريدون إعادتنا إلى الماضي، بعد انتزاع كل نور فيه، أو كان فيه، وكذلك على المستوى الفردي، في حياتنا اليومية، أو في حياة النّخب، إن بقيت هناك نُخب، لم نزل نبني علاقتنا بأنفسنا وبالآخر المقابل استنادا إلى نقاط الاختلاف بيننا وبينه، وبالطبع بعضها نقاط خلاف مخترعة، لكننا لم نستطع حتى اليوم أن نبني أسس حياتنا وعلاقاتنا بناءً على نقاط الاتفاق.
في أحايين كثيرة لا تشكل نقطة الخلاف بين طرفين، أو شخصين، أو نظامين، أو تنظيمين، أكثر من 5٪، لكن، واستنادًا إليها يتمّ تدمير نسبة قدرها 95٪، وهي معادلة غريبة، تنبئ عن عشق جنوني لضرورة وجود عدو، لا إلى توق إنساني أصيل لوجود صديق، أي أن الرغبة في التدمير باتت الجزء الأكثر إلحاحًا في مخيلتنا العامة والخاصة، ولسنا بحاجة للتأمل، أو للبحث، كي نكتشف حجم العنف اليومي في الشارع، المدرسة، الجامعة، المكونات الاجتماعية، والفئات المثقفة أيضا.
يُفزع المرء أن يرى حجم التصيّد للأخطاء في أية جملة يقولها، وحجم، وسعة التأويل المريض لجملة تُكتب، أو تقال، ويكفي أن ننظر إلى ردود الأفعال المنتشرة في وسائل التواصل الاجتماعي، كأكثر وسائل التطّور التقني انتشارًا حتى الآن بين البشر، لنرى كيف أنها باتت فعلا، وسائلَ للقطيعة الاجتماعية، ومنصّات رخوة لإصدار الفتاوى الجاهلة، والتعاليم الفارغة، والتهوّر في إبداء الرأي الأرعن، المبني على الفقر المعرفي، والجهل، وحتى عدم القدرة على القراءة اللغوية الصحيحة، أو القفز عن فقرات بأكملها، لضمان عدم فهم ما يقال، للوصول إلى النتيجة الهدف، ألا وهي صناعة العدو، لإبادته، لا لشيء إلا كي يحسّ المُبيد أن هناك معركة حدثت وأنه انتصر فيها! في وقت لم تكن هناك معركة، بل رأي، رأي فقط، كان يمكن أن نتفق معه، فنريح عقولنا، أو نختلف معه، فنجعل هذه العقول الصدئة تعمل، وهل ثمة في العالم أجمل من رأي مُختلف يجعل عقولنا تعمل في مساحات لم يسبق لها أن عملت فيها؟
وبعد:
الظلاميون، والتنظيمات البديلة، والأنظمة، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وما بينهما، كلّهم مارسوا بدرجة أو بأخرى، أو بدرجة تفوق الأخـــــرى، كل أشـــــكال القهر ضد خصــومهم وغير خصومهم والمشتبهين بالخصومة؛ وأخطر ما في الأمر تحوّلهم اليوم، ومستقبلا، إلى مثال يُحذى حذوه لرجل الشارع في ظلّ السقوط الحضاري، المعرفي، القيمي، المُفرغ من أي قيم عُليا، أرضية أو سماوية، مهما ادّعاها رجل الشارع هذا وتمسّح بها!
_______
*القدس العربي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *