قولُ الكتابة ومنهجيةُ الاستغراق

*رشيد المومني

قولُ الكتابة، هو إشارة ضمنيةٌ إلى مشروع تفاعلٍ ذاتِيٍّ، في قلب تفاعلاتٍ غيْريَّة داخل جغرافية كلامٍ ممتدةِ الأطراف، فأنْت حالما تشرع في بثِّ قولٍ ما، تكون مباشرة بصدد شَقِّ طريقك الخاص باتجاه أقوال أخرى مشتركة، موازية، ومجاورة، حيث يمتد ضوء القول من أرض لأرض، ومن واد لواد، مثل رحلة أبدية في تخوم لانهائية، تتناسل فيها أقوال الكون وخطاباته، إما بصيغة حروب مُدمِّرة، كوارث بيئية، أو نوادر تَضحَك من غرابتها السناجب، فالمسلك الذي فتحته للتو، لا يلبث أن يتشابك ويتقاطع مع غيره من مسالك خطابات، ومسالكِ مصائرَ، سواء وسط هذه البرتقالة الزرقاء المسماة بالأرض، أو على سَطيحَةِ ذلك المعدن الأحمر المسمى مارس.
هذا الانفتاح، هو مصدر التداعيات الموضوعاتية والدلالية التي يفيض بها إبريق القول، في أفق إنتاجها الذاتي لأنساقها الخاصة بها، فحديثك مثلا عن نشيد الماء، هو ما أغرى مخاطبك بالحديث عن البئر، كي يفسح لك المجال لاستعادة شكل الجِنِّية التي أطلتْ عليك البارحة منه، وهكذا دواليك. فالتداعي يمضي بك إليهم، كما يأتي بخطاباتهم إلى خطاباتك، بمعنى أن الكلمة العالقة بطرف قولٍ ما، تجد ذاتها جاهزة للتفاعل مع غيرها من الكلمات العالقة بطرف الخطاب، الذي انتهى الآخر للتو من التلفظ به، وهو تفاعلٌ يساهم في إنتاج المزيد من الخطابات، بصرف النظر عن أبعاد ودلالات رسائلها، ووجهات النظر المتضمنة فيها. فما أنت بصدد قوله الآن، وما تود قوله لاحقا، وما لم تتمكن بعد من تبين أبْجديته، هو ربما قول ينقال الآن، في مكان قد يكون قريبا أو بعيدا عنك، أو ربما سينقال في الأمكنة ذاتها، غدا أو بعد غد. فالعبرة بِترقرق فرعٍ من فروع الكلام على حاشية اللوح، الذي هو الآن على يمينك أو على يسار ظلك. ومع ذلك، فبين أن تكتمل شروط البوح، وأن تنعدم، ثمة مسافة ملتبسة يتعذر فيها معرفة الشروط العامة لتدفق مياهه، سواء كانت مياه نبع يطل من أعلى قمة جبل الوقت، أو من عمق بئر منسية في الذاكرة.
إن التعرف على هذا الشرط وعلى حيثياته، يكون مستحيلا كلما غادرْتَ فِناء القول، كي تدلف إلى زمن الكتابة، المستأثرة أطيافها وإيقاعاتها، ودواماتها أيضا بجماع وعيك، وبجماع ما يلهج به جسدك من لغات، حيث لا وقت للتفكير في ما قد أمسيت خلسة منجرفا في طوفان تفكيره، باعتبار أن التفكير في الكتابة، لا يتحقق عادة إلا عند لحظة احتجابها، حيث لا شيء أمامك عدا الصحراء المحيلة على فَقْدٍ، لا مجال فيه لإمكانية القول أو التحبير. وهي حالة مختلفة تماما عن لحظة الفناء في مواقيتِ الكتابة، حيث تتشظي الذات، على هيئة حروف، تتهايَتُ في ما بينها، كما في ظهيرة يوم من أيام القيامة. ومن المؤكد أن ثمة دائما، ما يحول دون استجابة الكتابة لنداء ذاتها، حيث تتبدد لغاتُ البوح، ولغاتُ الرؤية، وتتعالى الأسوار خلسة، كي تغدو الشمس منسيةً في جهة ما من جهات الأفول. فيتعذر على الكتابة كالعادة، الشروع في تهيئة المشهد، بتأثيثه، وإعادة تقطيعه وتلوينه بكل ما يتطلبه الأمر من حكمة وروية وشعرية، وهو ما لا يتحقق إلا بالتراجع المرحلي والنسبي لدوامات اليومي، باعتبار أن الكتابة، خاصة منها الشعرية، هي حياة أخرى، مجتمع آخر، هوية أخرى، وأقاليم لا تشبه الاقاليم.. لذلك، فالخروج من أراضي الحياة العامة، باتجاه أراضي الكتابة، يحتاج إلى مستوى جد متقدم من الاستغراق الإبداعي، الذي تستيقظ فيه لغات الباطن كله، حالما تغرق لغات الظاهر كله، في عميق سباتها، حيث تجد نفسك في نهاية المطاف، محاطا بتلك الحروف الشبيهة بقبائل دلالية، تنتظر إشارتك الشخصية، كي تعلن عن ظهورها.
الأمر يتعلق بتلك اللحظة التي تنسحب فيها مؤقتا أشياء العالم بدواماتها العاصفة، وحرائقها اللافحة، كما بحدائقها المنذورة للذبول، كي تفسح المجال قليلا لكائنات الكتابة. هي كائنات لا تعلن عن حضورها، إلا حينما تختفي دوامات اليومي أو تكاد، من الفضاءات الحميمية الخاصة ببياض الصفحة، سواء كانت خارجية يثيرها نقع الآخرين حواليك، أو داخلية تقدح زنادها التوترات النفسية والفكرية، الناتجة عما تمور به دواخل الواقع من ارتجاجات. وحضور دوامات اليومي، يعني وجوب إلزام الذات بتدبير شأنها الحياتي المتميز بملحاحية قضاياه ذات الطابع الاستعجالي، وهو ما يؤدي إلى احتجاب كائنات الكتابة، التي لا تعلن عن حضورها، إلا بعد أن تكون الذات، ونتيجة تكامل شروط سيكولوجية أو اجتماعية، أو فيزيولوجية، قادرة على الإنصات، وعلى تملُّكِ ما يكفي من الدينامية الداخلية الكفيلة بردع دوامات الواقع. فالبلبلة التي تحدثها الكارثة على سبيل المثال، غالبا ما تؤدي إلى عرقلة آليات اشتغال الذات الكاتبة، فلا تسترجع حيويتها، إلا في ظل تراجع كيْدِ الدوامات ومقالِبِها، حيث يُشع ذلك الضوء الخافت الذي يتلمس طريقه بحذر كبير، في قلب تلك الظلمة السرية والآسرة.
إن طبيعة هذا الضوء، تقترن أيضا بطبيعة ظلمته، لكونها من جنسه، أي من ظلمة خاصة، تتلألأ في دياجيرها تباشير ذلك الضوء المطَمْئِنِ، الذي لا يشيعُ بالضرورة ما يسمى عادة بحالة الأمان، بقدر ما يعني توافر إمكانية تسطير كلام، اكتشافِ نداء، طقسٍ، طريقٍ أو ممرٍّ، يُفضي إلى اكتشاف فتنة التهجي وشعريته. كما أن إشارتنا إلى تلك الظلمة المنشقة عن هِبَةِ الضوء، تعني التمثيل الرمزي لحالة /رؤية، تطمح الكتابة إلى بلورتها في إهابها المادي والمشهدي. وهو إطار غالبا ما يكون آنيا، ومحدودا في المكان والزمان، لكن ضمن حيثيات استثنائية، حيث يكون بوسع الذات تملك منهجية/أسرار استحضاره، بإخضاعه إلى ما يشبه العادة المتحكم في إعادة إنتاجها، كلما تحققت شروط التموضع المطلوب، داخل أحد أزمنة خلاقة من أزمنة الذات، حيث يتعلق الأمر بسحرية توقيت منزاحٍ أو صُدفَوِيٍّ، ربما ساهم في إنضاج شرط تجلي الحالة، حيث تسود طمأنينةٌ ملتبسة الأصل والمصدر، التي لا يكون فيها أي أثر للدوامات والارتجاجات، التي تَستنزَف فيها الذات ديناميتها عبثا، من أجل الإمساك بذيل الضرورة وسرابها. فضمن هذا الطقس، الذي يتخذ شكل عادةٍ غير قابلة للتكرار، يمكن للذات أن تُوثِّق صلتها بنمط معين من أنماط الكتابة، التي تعوَّد على استدراجها إلى خلواته. كما يمكن، في الوقت نفسه أن تكتشف بُعدا جديدا من أبعادها. إن فسحة الطمأنينة هذه، بما هي لحظة مصالحة مع زمن الآخر، يمكن أن تُسعف الذات باكتشاف أسئلة جديدة من أسئلة الوجود، كما يمكن أن تُحدث انقلابا حقيقيا في مسار الرؤية. على النقيض من الكتابة المشتغلة في قلب الدوامة، والمتسمة بطابعها الانعكاسي الخالي من الروح، باعتبار أن المنعكس لا يعدو أن يكون نسخة مشوهة لأصل منغلق على ذاته، وسجين إنتاجه لخطابات إخبارية، لا أثر فيه لأي حس إبداعي. فالدوامة تحتاج إلى مرايا تتبين فيها بعضا من ملامحها البراغماتية، التي تتجاوزها الكتابة إلى مضاعفها الرمزي، وليس عن حدها الرمزي، وهي تتلمس طريقها إلى الصفحة، حينما تكون الدوامة قد أمست أثرا بعد عين. ولَكَم هي كثيرة الدوامات التي لا تحتجب، إلا بعد أن تترك أثرها الدموي على الجسد، بدون أن تتمكن من بث روح النار في رماد الكتابة، التي يحدث أن تتقدم من مصادرها المجهولة، أو بالأحرى، من تلك الجهات المنسية بالكامل، إنها دائما وبفضل حالة الطمأنينة المنتمية إلى رحاباتها، تستبد بالمشهد بُعَيْدَ انفصالها التام عن شرارتها الأصلية، بفعل مجموع تلك التماسات المتولدة عن عملية الاستغراق التأملي، الفاعلة أيضا في استعادة خطابات، مشاهد وأفكار وحماقات، بوتيرة لا علاقة لها بالمفهوم التقليدي للاستعادة، لأنها وضمن ملابسات سيكولوجية، أو فكرية معينة، تكون مهيأة وبشكل مفاجئ، للكشف عن بعض أسرار الكينونة، حيث يتشكل بها الرحم المؤقت التي تولد منه الكتابة. لأن رحم الكتابة ليس عضوا ثابتا ودائما في منطقة معلومة من مناطق الوعي الشعري. إن وجوده الفعلي رهين بوجود هذه الاستعادات العابرة والمباغتة، الممهدة لإمكانية القول، كما أن وظائفها تنتهي بانتهائه، حيث يتعذر تماما الحديث عن رحم ثابت، ودائم لها. إنه شبيه بالشهوة التي تَؤُول أنفاسُها إلى الزوال، بعد وصولها مستوىً معينا من مستويات الانتشاء.
___
*القدس العربي

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *