الشعر ووسائل التواصل

*محمد عبدالله البريكي

ما من شك في أن وسائل التواصل الاجتماعي أحدثت طفرة وثورة لدى الجميع كل في مجاله، ودخل الشعر من الأبواب الأمامية ليثبت تعاطيه الإيجابي مع هذا الفضاء الجديد، وأنه قادر على التأقلم والوصول إلى المتلقي، والحقيقة تقال أن الشعر فعل خيراً حين دخل هذا العالم وتقبله منذ البدايات، ولم يعلن عليه القطيعة، وقد أدرك العديد من الشعراء أن عجلة الزمن لا تتوقف، وأن عصر التجديد قادم لا محالة، ولذلك حضروا بأصواتهم المرهفة عبر هذه الوسائل منذ بدايات المنتديات، وصولاً إلى عصر «السوشيال ميديا»، واستغل بعضهم هذا الفضاء من أجل أن لا يتركوا هذه المساحة الشاسعة لكل من هب ودب، ليكتشفوا بعد «خراب مالطا»، كما يقال أن القصيدة احتضرت، وأن عصر ديوان العرب قد ولى.

وحضور الشعر المشرف الرصين والمتجدد في هذا الفضاء كان له دور في عملية الدفاع عن حصون اللغة والتراث والشعر، وبينما كان بعض الشعراء الحقيقيين لا يجدون فرصتهم في السابق للوصول إلى المتلقي عبر المطبوعات والجرائد والملاحق الشعرية التي كانت تفلتر الكثير، سواء أكانت فلترة إيجابية باختيار الأسماء الحقيقية واستبعاد التجارب المترهلة والمواهب الضعيفة، أو من خلال الفلترة السلبية، بمنح المساحة للغث وإقصاء التجارب الناضجة وتغييبها، وفي الحالتين كان هناك غياب لبعض التجارب الجيدة لقلة المساحة التي يستطيع الشعر التحرك فيها، وبحكم علاقتي القديمة بالنشر الورقي فقد اكتشفت أن طريق الوصول إلى بعض المطبوعات التي تنشر الشعر طريق صعب ووعر ويحتاج إلى معونات كثيرة وطاقات كبيرة يكون للإبداع فيها جزء، ولكنه مع أهميته لا يستطيع وحده صعود العقبات الشاهقة والطرق الطويلة إلا بمعونات أخرى.

كنت أعرف العديد من الأسماء الجيدة لم يكتب لها الدخول في هذا الطريق، ولذلك مات الكثير من الشعر الجيد أو ظل حبيس الأدراج إلا ما قدر له أن يطبع ثم يظهر بعد فترة بضربة حظ، وكان لظهور الشبكات الإلكترونية دور في إنقاذ الكثير من تلك التجارب وخروجها من ركام التهميش والإقصاء إلى فضاء مفتوح لا يعترف بالفلترة والحدود، فانتشرت الكثير من القصائد ووصلت إلى الجمهور من هذا الباب، ثم دارت العجلة سريعاً إلى أن وصلنا إلى مرحلة تقليم أظفار القصيدة وتقصير ثوبها، فمثلما أثرت وسائل التواصل الاجتماعي على المجتمع بالسلب أو الإيجاب أثرت كذلك على الشعر، فقد عملت بعض هذه الوسائل على تقييد حركة مساحة القول وجعلته يختصر ويوجز ويكثف ويختزل، وهذا الإيجاز في الشعر موجود منذ القدم ويتجلى كثيراً فيما يعرف ببيت القصيد ضمن قصيدة تتطرق إلى أحداث متعددة وتؤرخ للزمن وتوثق الحدث وتفصل في العاطفة والهجاء والمديح وغيرها، وهو أمر يأتي في سياق النص أو في بعض محطاته، فكانت الأبيات التي تسبق بيت القصيد أو تليه كالوصيفات للملكة، لكننا كدنا لا نرى غير الملكة وكأنها وحيدة بلا وصيفات من خلال أحرف قصيرة تختزل فكرة واحدة تكون في الغالب جميلة تحمل الدهشة، لكن هذا الأمر أثر كثيراً على لياقة الشعراء فترهلت قدراتهم وانحصرت طاقتهم في هذه المساحة، ولم يعد لديهم القدرة على قطع المسافات التي تعودوا عليها، وأعرف الكثير من هؤلاء وقد أصابهم هذا الوهن وقلة اللياقة، ولم يعد لديهم القدرة على كتابة نص مكتمل يتفاعل مع حدث أو مناسبة.

والحقيقة أن الشاعر يحتاج إلى الدخول في هذا العالم بخبرة، وأن لا يتخلى عن لياقته ويكون اختزاله المفروض عليه جزءاً من نص مكتمل لا تضيع معه قدراته ولا تتضاءل ملكات فكره أو تغيب وتتلاشى في هذا الفضاء المفتوح.
___
*الخليج

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *