فان غوخ.. المجتمع هو القاتل

ترجمة أحمد حميدة

كتابة – أنطونان أرتو

فان غوخ.. أمجنون هو؟

ينبغي لمن تأمّل يوماً وجهاً بشريّاً، أن يشاهد الصّورة الذّاتيّة لفان غوخ، وأفكّر تحديداً بتلك اللّوحة التي يحمل فيها قبّعة رخوة.

تلك اللّوحة التي رسمها فان غوخ ذو البصيرة النّافذة، ذاك الوجه الشّبيه بوجه قصّاب أصهب، وجه يبدو يرصدنا.. يراقبنا، ويتفحّصنا بنظرة جامحة. لا أعرف طبيباً نفسانيّاً واحداً قادراً على تفحّص وجه بشريّ بمثل تلك القوّة السّاحقة، وتشريحه على الوضم بمثل تلك السّيكولوجيّة القاطعة.

عين فان غوخ، عين عبقريّ باهر، ولكن بالطّريقة التي أراه بها وهو يشرّحني من عمق اللّوحة التي نطّ منها، إنّها لم تعد عبقريّة الرسّام، تلك التي أشعر بأنّها تحيا بداخله الآن، ولكن عبقريّة فيلسوف لم ألتقه البتّة في حياتي.

كلاّ.. لم تكن لسقراط مثل تلك العين، لعلّ نيتشه الشّقيّ هو وحده الذي كانت له مثل تلك النّظرة المشلّحة للرّوح، المطلقة للجسد والرّوح، والكاشفة حدّ العري جسد الإنسان، بعيدا عن خداع العقل.

نظرة فان غوخ، نظرة معلّقة، مثبّتة، مزجّجة وراء جفنين غير مألوفين، وحاجبين نحيلين خاليين من التّجاعيد.

إنّها نظرة تنغرس في العمق، تلك التي تخترق ذاك الوجه المنحوت بالمحشّة، كما الشّجرة المربّعة تمام التّربيع.

غير أنّ فان غوخ تخيّر اللّحظة التي تنسكب فيها مقلة العين في الفراغ، حيث تنطلق النّظرة نحونا كقنبلة – نيزك، لتكتسي اللّون الواهن للفراغ والسّكون الذي يملأه.

هكذا حدّد فان غوخ مكمن مرضه، على نحو أفضل ممّا يقدر عليه أيّ طبيب نفسانيّ في العالم.

إنّي أخترق، أرصد، أصمد، أفكّك، فحياتي الفانية لا تنطوي على شيء، وعلاوة على ذلك لم يؤلم العدم أحداً، ممّا يجعلني ارتدّ إلى الدّاخل.. داخلي، إنّه ذلك الغياب الحزين الذي يغمرني من حين لآخر، كي أبصر بوضوح، بوضوح شديد، حتّى أنّني غدوت أدرك ماهية العدم، وباستطاعتي أن أخبر عمّا بداخله.

و كم كان فان غوخ محقّاً في ذلك، إذ بإمكاننا أن نعيش للأبد، ولا نرضى بغيره زمنا للحياة، وهناك ما يكفي من الأبديّة على الأرض وفي الأجرام، كي نتخم بألف عبقريّ عظيم. وإذا كان فان غوخ لم يفلح في إشباع نهمه منه طيلة حياته، فذلك لأنّ المجتمع حرمه من ذلك، حرمه عمداً وصراحة.

هناك من أطلق النّار يوماً على فان غوخ، كما كان الحال مع جيرار دو نرفال، بودلير، إدغار آلن بو، لوتريامون..

أولئك الّذين قالوا ذات يوم: أمّا الآن، فكفى، إلى القبر فان غوخ، لقد سئمنا عبقريّتك..

لم يمت فان غوخ من فرط بحثه عن الأبديّة أو من اضطراره إلى الاختناق فقراً وكمداً، ولكن من فرط الرّفض الذي قابلته به الدّهماء، التي كانت، وهو لا يزال حيّا، تظنّ أنّها دونه، تمتلك ذلك الزّمن المشتهى. وكان بإمكان فان غوخ أن يجد ما يكفي من الأبديّة ليعيش بها ملء حياته، لولا الوعي الحيواني للرّعاع، وحرصهم على تملّكها، ليغذّوا بها هلوساتهم الجنسيّة، هلوسات أبعد ما تكون عن فنّيْ الرّسم والشعر.

و علاوة على ذلك، فلا أحد يقدم على الانتحار بمحض إرادته، لا أحد يوجد وحده كي يولد، ولا أحد أيضا يوجد وحده كي يموت.

و لكن فيما يتعلّق بالانتحار، فلا بدّ من جيش من الكائنات المسخة، لتدفع بالجسد عنوة لتلك الحركة المنافية للطّبيعة، التنازل عن الحياة، وأعتقد أنّ هنالك دوما من يترصّد لحظة الموت القصوى ليسلبنا هذه الحياة.

هكذا حكم فون غوخ على نفسه؛ لأنّه توقّف عن العيش، ولأنّه مثل ما توحي به رسائله، أمام ولادة ابن لأخيه تيو، أدرك بأنّه سيصبح لا محالة عالة على عائلة أخيه.

و أكثر من هذا، فإنّ فان غوخ كان يريد الالتحاق بتلك الأبديّة التي تشبه على حدّ قوله، حال من يركب القطار مترحّلاً نحو النّجوم، ونركب هذا القطار يوم نكون قد حسمنا أمرنا لمغادرة الحياة.

و لكن في موت فان غوخ، وبالطّريقة التي نعرف، لا أعتقد أنّ هذا هو الذي وقع فعلا.

إنّ فان غوخ غادر الحياة بسبب أخيه عندما أخبره بميلاد ابنه، كما غادر الحياة بسبب الدّكتور غاشي الذي عوض أن يوصيه بالخلود إلى الرّاحة والسّكينة، أرسله ليرسم، في يوم كان يدرك فيه جيّداً أنّ فان غوخ كان بأمسّ الحاجة إلى النّوم.

لأنّ صفاء وحساسيّة رجل بحجم فان غوخ القتيل، كان ينبغي أن لا تحبط على هذا النّحو المباشر.

هناك أنفس يمكن أن تقدم في لحظات محدّدة على الانتحار لمجرّد عناد متعمّد، ولا ضرورة أن يكون الشّخص مجنونا، مراقَباً ومصنّفاً كذلك، ينبغي على العكس من ذلك أن يكون المرء بعافية، ومحفوزاً إلى تلك النّهاية.

أنا أيضا في وضع مماثل، لن أتحمّل أن يقال لي: «سيّد أرتو.. أنت تهذي».. دون أن أرتكب جريمة، وقد قيل لي ذلك أكثر من مرّة، ونفس الكلام قيل لفان غوخ..

وكانت النّتيجة أن انقطعت عقدة الدّم الذي في عنقه فقتلته..
__
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *