عزلة الكاتب

خاص-ثقافات

*العلوي رشيد – المغرب

من لم يجد ضالته في عزلته فلن يكتب ولو فكرة واحدة معبِّرة.

ليست العزلة من نوع الانطواء أو مرض التوحد، ولا هي من نوع الآفة التي تصيب الجميع، بل هي اختيار يفرضه واقع الحال: حال الكتابة وإكراهاتها الجمَّة.

لا تعني العزلة عدم القدرة على الاندماج مع الآخرين ولا عيباً في التنشئة أو ما شابه، كما لا تعني شبحاً يجتاح أرضا خيِّرة، بل هي سلوك ونمط يفرض نفسه فرضاً، وقدرة على تحمل روح الأشباح الفارغة، قدرة على التحمل والتكيف والتأقلم.

بغض النَّظر عن الارتباط اللَّصيق بين فعل الكتابة والعزلة، وهو ما كتب عنه معظم المبدعين، فإن الكاتِب ينظر إلى كل شيء من حوله نظراً مغايراً يرى في الوقائع ما لم يراه أحد غيره، يفهم البساطة والعمق ويقلب بعضهما بعضاً بحثاً عن معنى ليس ببسيط ولا بعميق: إنه يعيش وهم التفوق.

تفرض طقوس الكتابة عزلة غير مشروطة ولا هي بنمطيَّة فكل واحد يعيشها ويدبر اكراهاتها بحجم طاقاته وشخصيته والتزاماته. فالطقوس أقبحُ ما تجدُ فيه البشريَّة ضالتها بما هي تنفيس، مراوغة على ثقل المعتاد واليومي.

يسير في الشارع ولا يأبه لأحد، كما لا تثيره المؤخرات أبداً، ليس لأنه متعالٍ على الحياة الاجتماعيَّة، أو أقلُ رغبةً من غيره، وإنما لأنه يعرف جيداً أنه لن يجد مؤخرةً أفضل من تلك التي خلقها بنفسه ورشم بها شخصيَّته المفضلة. لأنه يعرف أن خياله أوسع من أن يتحمله الواقع، لذلك يهرب من الشارع في اتجاه قبوه. يهرب من الكلام الفارغ والأحاديث غير المجديَّة.

يجلس في مقهى شعبي ويمل من الحوارات التي تعاود نفسها مع طلوع كل فجر إلى أن يسدل الليل ستاره: تلك مسرحيَّة عبثيَّة يعيشها ملايير النَّاس على هذا الكوكب يلتقون ويكررون نفس الكلام ويتلهون بنفس النكت: نكت جنس وسيَّاسة… ما أقبحك أيها الوجود الذي يدفع النَّاس إلى الملل، إلى تكرار أنفسهم.

دمرت الحياة المعاصرة كل مقومات الوجود الطبيعي وكبلت الرغبة والعفوية في الصغار والكبار معاً، فلماذا ينبغي الجري وراء الاندماج والانسجام وقضاء الأوقات في الملاهي والحانات البئيسة؟ أتسافر للبحث عن السعادة؟ السفر الوحيد الذي يتيح السعادة هو الذي تطلق فيه العنان للعفويَّة، تعيش فيه روح المغامرة خارج أية قيود غير قوانين الطبيعة: الطبيعة المتوحشة لن تؤديك أبدا، وإنما ستعيدك إلى أصلك الطبيعي والحيواني، فلماذا نتنكر لها؟

في جل المدن الكبرى تجد أماكن مهمشة ووسخة ورثة، وأماكن باذخة للغاية: غير أن الحياة تنبض في كليهما، فلو شعرت أنك من الطبقة المتوسطة أو الثرية فستجد ضالتك فيما تم تسويقه لك على أنه مكان مناسب لك تماماً وقد صُمِّم لأمثالك، وإن شعرت أنك عكس فذلك فادخل حانة شعبيَّة لتجد أمثالك يتباهون على بعضهم البعض، ويتقمصون شخصيَّات لا يعرفونها حتى. يدَّعون أنهم كل شيء وينتهون إلى لا شيء.

المدارس سجون بمعايير ومقومات لا بأس بها كي لا يشعر السجناء بأنهم كذلك، لذلك ينتظرون قدر أهل الكهف حتى يأتي أفلاطون ليظهر لهم الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

المنزل قبو تكلفك جدرانه أكثر ممَّا تكلَّفك الحياة. فهل سألت يوماً لماذا تسعى وراء امتلاك قبو؟ هل سألت نفسك لماذا تعيد تكرار أسلوب النَّاس المُمِل؟ لماذا تريد أن تصنع المستحيل من المحال؟

العزلة متنفس وحيد لخيال الكاتب الرحب والفسيح: ففيها يطلق عنان الحرف لإعادة تشكيل الوجوه والقوام والألوان.

عزلة الكاتب اختيار يعاش وليس من نوع الاختيار الحر، لأن شروطا واكراهات عدة تدفعه إلى الاعتزال: لا أقصد الخلوة، وإنما العزلة التي ليست هي وحدة أو أن تكون وحيداً، لأنه يستحيل أن تكون وحيداً، أنت دوماً “مع”: أشخاص، أشياء، كائنات، أشباح، تخيلات، هلوسات، أو على الأقل مع سيجارتك تحاور المجهول في صمت.

تمنحك العزلة الصمت والهدوء، وحتى الحنين إلى الصخب والضجر هو من العزلة.

أن تتصفح كتاباً أو رواية أو مسرحيَّة أو أي عمل مكتوب، فتلك شهوة لا تطاق: إنك تختلي به، فقط لأنك تسعى إلى تملك شخصيَّاتها وتخيلاته العريضة. فماذا تبحث عنه؟ بالتأكيد تبحث عن فهم عزلة الكاتب. وأين ستجد عزلة الكاتب؟ لا تتعب نفسك: لن تجدها أبداً لأنه وحده يعرف أين يجدها وكيف يمكنه أن يعيشها، ويتعايش معها.

عزلة الكاتب ماركة مسجلة. ينشأ الفرد في وسط اجتماعي ويتعامل معه بحسب ما تعلموه ليعيد الإنتاج، فإن كنت مرغوباً فيه ومألوفاً كغيرك من النَّاس فلن تصير إلا مثلهم، وإن كنت مخيِّب الظن فسيسلكون طريقاً أخر معك، أو على الأقل سيهمشونك لأنهم لا يعرفون كيف يمكنهم أن يحفزوك أو يشجعوك على ما أنت عليه، وهنا يكمن سر الاختلاف: الاختلاف من حيث هو دافع إلى التفرد، فلتحافظوا على تفرد كل فرد واتركوه على حاله كما هو لا تتعبوا أنفسكم لترويضه أو للسعي إلى تدجينه ليصير واحداً منكم. ابحثوا فقط عن انسجام روحه مع سلوكه وابعدوا عنه كل المشاغل التي تدمر عزلته.

التقيت صديقي العزيز (كان أخر لقاء بيننا قبل ثمانية أشهر وعادتي أنني لا أخرج بالصدفة إلا للقاء أحد مثله) في ظروف ناسبتنا معاً، تبادلنا الحديث وبين الفينة والأخرى أسعى إلى فهم شيء ما من خلاله: عدت إلى المنزل وقرأت أقصوصته الأولى التي فهم من خلالها كلام الجيران عنه، ولكنه لا يستطيع أن يجيب شخصيته أمنية، فقلت في نفس عليه أن يحاورها ولو أنها طفلة! ولكن التحدي يكمن في حوار كهذا: كيف يمكن أن تقنع شخصاً بنقيض ما يسمع به؟ ستدفع نفسك إلى سلوك جميع الحيل والحجج والتبريرات، وفي الأخير لو تأملت كل ذلك ستكتشف أنك تتحايل على شيء ما، تتحايل على “الحقيقة” باسم “الحقيقة”، لأن هذه الأخيرة لا وجود لها بل نشكلها بحسب المقام والسيَّاق والهدف. فهمت أن بالحي الذي أقطنه أنا أيضا أمنيات كثر وسأقتنص الفرصة للتعرف على واحدة منهن للتحاور.

حاولت أن أفهم عزلة صديقي أكثر ولكنه خيَّب أملي لأن حيلتي في طرح السؤال فشلت، لقد صارحني أنه عاش دوماً في أماكن غير صاخبة وهادئة جداً لذلك أيقنت أن عزلته أشبه بعزلتي، رغم أنني أبحث عن هدوء شبه مطلق وغير منظور لم أجده يوماً إلا في ضاية “ويوان” التي أرتاح لها وترتاح لي للاختلاء بعزلتي ولأفرغ لها روحي من كل صخب المدينة ومشاغل العمل وضجر أناس لا أعرفهم حتى ولن يتركوني هادئاً يوماً.

عزلت الكاتب لا تفصله عن المعيش ولا عن حلم الناس ولا عن رغبتهم الجامحة في الاستسلام لرغباتهم الطبيعيَّة، ولكنه يفهم جيداً أن أدمغتهم تكبلهم تماماً، ولا تسمح لهم بالخروج عن القواعد خوفاً من تأنيب الضمير: وتلك هي أكبر جريمة للتنشئة على الأفراد.

لتحيا العزلة بما هي أسلوب اجتماعي واندماجي بامتياز مع روح الذات. التواصل لن ينتهي، والمحبة لا تكتمل والكلام الفارغ تنتهي صلاحيته في الحين، والعلاقات لا متناهية يذهب بعضها ويبقى منها القليل، كل هذا شأنه شأن الفرح والحزن والاستمتاع والتلذذ والرقص والتأبين… إلا أن العزلة تظل متفردة تمنحك بقدر ما تمنحها، فأشباحها مرئيَّة ورائحتها متاحة، فهل نستطيع أن نمنحها ما تطلبه منَّا أكثر من قدرتنا؟

 

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *