فصول من كتاب الحياة السّعيدة.. البحث عن الاكتفاء في العالم الحديث للكاتب ديفيد معلوف (5)

خاص- ثقافات

*ترجمة وتقديم : لطفية الدّليمي

 

      أقدّم أدناه  ( وفي أقسام لاحقة ستنشر تباعاً ) ترجمة لفصول منتخبة من الكتاب الصغير الذي نشره ( ديفيد معلوف ) في مجلة ( Quarterly Essay  ) الأسترالية في العدد 41 لسنة 2011 ، وهذه المجلّة تُعنى بالأفكار وتأثيراتها في السياسة والحياة العامّة .

                                                               المترجمة

                      السعي وراء السعادة – تتمّة

 

   حظيت أعمال جيفرسون – مثل كثيرين من نظرائه الأمريكيين – بقراءة واسعة النطاق في العالم الناطق بالإنكليزية إلى جانب أعمال المفكّرين الأخلاقيين والإجتماعيين السكوتلانديين للقرن السابق ( المقصود هو القرن السابع عشر ، المترجمة ) : جون لوك John Locke العظيم سيكون حتماً إسماً أساسياً ضمن قائمة هؤلاء المفكرين ، ولكن ثمة أيضاً ألغيرنون سيدني Algernon Sydney ( توفى عام 1683 ) مؤلف العمل الشهير ( خطابات بشأن الحكومة ) ، والإيرلندي فرانسيس هاتشيسون Francis Hutcheson ( توفى عام 1746 ) وكان لعمله الموسوم ( بحث حول أفكارنا بشأن الجمال والفضيلة ) تأثير جوهري على فكر جيفرسون ، ثمّ سنذكر المفكر الأكثر أهمية في هذا السياق – ريتشارد كمبرلاند Richard Cumberland : الفيلسوف الأخلاقي الأول الذي ساوى بين الخير الأعظم والسعادة العظمى ، والذي كتب بشأن ” المبدأ الأخلاقي العظيم ” في عمله الموسوم قوانين الطبيعة De Legibus Naturae ( 1672 ) حيث يرى في ذلك المبدأ ( المحاولة الأكثر حيوية وإكتمالاً من قبل كل العناصر – فرادى ومجتمعة – في الإرتقاء بالصالح العام للنظام العقلاني ، ويعمل ذلك المبدأ وبطريقة فاعلة ومؤثرة للغاية على المساهمة في تعزيز صالح كل جزء منفرد من أجزاء النظام العقلاني الكامل وعلى النحو الذي يكفل تحقيق سعادة  الفرد والجماعة معاً في ذلك النظام ( واضح ان المقصود بالنظام هو المجتمع او أي شكل محتمل للجماعة البشرية ، المترجمة ) .

   يبدو كلام كمبرلاند واضحاً بما يكفي رغم أنه مكتوب بالأسلوب الإلتفافيّ القديم وغير المعهود لتلك الفترة ؛ غير أن كمبرلاند ذاته يجعل قصده أكثر وضوحاً بشأن مايعنيه بمفهوم السعادة عندما يستحضر المفهوم المعاكس للسعادة  في عباراته التالية : ( على العكس مما سبق ؛ فإن الأفعال المعاكسة للميول الطبيعية التي حكينا عنها سينتج عنها – حتماً – تأثيرات مضادة ، وبالنتيجة ستلقي تلك التأثيرات بتبعاتها الشريرة علينا ، وستجعل كلاً منا يمكث في البؤس والشقاء … ) .

   إذا ما فكّرنا في الشقاء والبؤس على أساس كونهما متجسّدين في صور كثيرة مثل : الفقر ، القمع ، غياب العدالة ، العبودية ، الرّق ، أو أي شكل من أشكال الهمجية التي تعقب حالة الإنكفاء في غياهب فوضى بدائية ، فربما حينذاك سيكون بمقدورنا الحصول على فكرة لِما عناه جيفرسون – ربما – بالسعي وراء السّعادة وكذلك عن السبب الكامن وراء ربط ماسون للسعادة مع ” الأمان ” في سياق إشارته إلى السعادة ؛ إذ يمكن هنا أن تعني السعادة الحرية التي تعمل الحكومات الجيدة ( أو الرشيدة بمفاهيم عصرنا الحالي ، المترجمة ) على – أو تحاول  في الأقلّ – توفيرها لمواطنيها الأقل تمكناً وقدرة ( فكّر مثلاً في الطبقة الدنيا من المهمشين والخارجين على القانون الذين وفّروا عنواناً مناسباً لرواية هوغو البؤساء  Les Misérables ) وحمايتهم من أسوأ أشكال الشقاء الإجتماعي : الجوع ، التشرّد ، التمييز الديني أو العرقي أمام القانون ، إنحسار فرص العمل وكلّ الأشكال الأخرى من التهميش والنبذ الإجتماعي ، وعند هذا الموضع ينبغي أن نضع في حسباننا أن ماذكرناه أعلاه بشأن السعادة يمكن أن يجعل إستخدام جيفرسون لها في إعلانه العتيد مادة باعثة على التضليل والمُفارقة .

   التحرّر من ربقة الشرور الإجتماعية أمر يُراد له دفع الناس ليكونوا أكثر سعادة ؛ ولكن بالمعنى المادي وحسب وإلى الحد الذي سيريحهم من بعض الحالات الباعثة على خسران السعادة ، ولكن السعادة ذاتها ( وكما يوردها جيفرسون في إعلانه إلى جانب غيرها من المفاهيم المطلقة مثل الحرية والحياة ) تبدو أمراً أبعد من محض الوفاء بتلك المتطلبات المادية – شيء أوسع مدىً وأكثر مدعاة للتحليق بأفق الحياة البشرية ، شيء أقرب ربما إلى ” العواطف الضابطة لأنغام العصر ” أو إلى البهجة التي يكتب عنها شيلّر Schiller في نشيد الفرح Ode to Joy .

   لكن بصرف النظر عن نوايا جيفرسون الحقيقية فإن الحقيقة الماثلة أمامنا هي أن ” السعي وراء السعادة ” قد فُهِم على الدوام في أوسع معنى فضفاض ممكن له من جانب عامة الناس في أقل التقديرات ، ولم يعُد يُفهَم – كما فهمه الفيلسوف الأخلاقي للقرن السابع عشر – على أنه تحرّر من الحاجة أو الوقوع في قبضة الجماعات الأكثر سطوة وسلطة ( وهي أمور يمكن معالجتها بتشريعات مناسبة تحدّ منها ) ؛ بل غدا مفهوم السعادة أمراً أكثر ذاتيةً وأقل إمكانية على الحشر في إطار تعريف محدّد قابل للتشكل : ذلك الحسّ بلذيذ العيش وطيبه المحسوم والمستقر والمتمثل في صورة ” الإنسان السعيد ” كما تحكي عنه المطوّلات الأدبية الكلاسيكية ، ويعيش برضا وقناعة مع الجيرة والدولة وذاته هو أيضاً ، وكانت هذه الصورة بالطبع لامحيد عنها وحاضرة بقوة في اللحظة التي ضغط فيها جيفرسون صياغة ماسون المطوّلة في عبارة من سبع كلمات آسرة ( لنا الحق كله في أن ندعوها آسرة ) وضع السعادة في قمتها بحيث تكون قادرة على الإمساك بأقصى إهتمامنا وهي متربّعة كجوهرة لامعة في ثلاثيّة trio الحقوق الطبيعية غير القابلة للدحض أو التجاهل ، وبات واضحاً أن أية إمكانية للحفاظ على المعنى السياسي – الإجتماعي الضيّق الذي لطالما ظل لصيقاً بمفهوم السعادة لن يقوى على الوقوف بوجه المدّ الجيفرسونيّ وبلاغته المشرقة .

   إنّ مافعله جيفرسون ( وبغض النظر عن أصل نواياه وهل حقّقها بالكامل في إعلانه ) هو خلخلة حقلين من حقول التجربة البشرية وعلى نحوٍ يسمح بدمجهما بعد أن تعذّر على الدوام جمعهما في نطاق مفردة واحدة ( وربما لايمكن جمعهما معاً لو أخذنا الأمر من وجهة نظر المقايسات التشريعية أو السياسية ) ، وربما في الأقل يمكن أن نتعامل معهما بوصفهما شيئاً واحداً ، وتبدو النتيجة المستخلصة بعد كلّ هذا من الإعلان الجيفرسوني هو أنه يمنحنا وعداً – أو حتى ضماناً – بأن الحكومة أو النظام السياسي القادم في الجمهورية الأمريكية العتيدة المنتظرة ستضمن بأن يكون الحق في السعادة مماثلاً للحق في الحياة أو الحق في الحرية ، وهذا يعني أن السعادة ستُعامَلُ بالمعنى الذاتي واليومي والإعتيادي للكلمة – والذي يسود أوسع حلقات العامة – الذي يستبطن كونها رديفة أو مكافئة للقناعة والرضا والمتعة ، بل وحتى بالمعنى الذي أراده الشعراء الرومانتيكيون لها – وردزورث Wordsworth من جهة ، وبليك Blake  من جهة مقابلة ، حيث السعادة قرينة الغِبطة والبهجة .

   أريد للسعادة في العالم الجديد أن تكون مبدأً أساسياً لكلّ من الدولة الرشيدة وللحياة الطيبة التي يمكن أن تُعاشَ في نطاق تلك الدولة ، وإذا لم يتحقق هذا الأمر كما وُعِد به بالضبط في العالم الجديد فقد صار في عداد القناعة العامّة أنه سيكون مسعى تحشّدُ كل القدرات لبلوغه مع الزمن بشغف وعزيمة . كانت هذه الفكرة بالطبع جديدة كلّ الجدّة في عالم عصر التنوير إبان القرن الثامن عشر حيث ساد التطللّع الشجاع لما سياتي مع القرن القادم والقرون التي بعده ؛ ولكن في الوقت ذاته كان ثمة شجاعة موازية في إستلهام الكثير من فكر العالم السابق للمسيحية في اليونان وروما ( وهو مادأب على فعله الفكر التنويري على كلّ الأصعدة ) ، وكان على رأس قائمة الكتابات التي إعتمدها جيفرسون لدعمه في كتابة الإعلان هي كتابات أرسطو وشيشرون التي وضعها جيفرسون على قدم المساواة مع كتابات سيدني وجون لوك ، وهذا أمر سيكون له فعل مؤثر في سياق تشكل الحوادث التي ستأتي لاحقاً .

   عندما مَنَحت المسيحية أنصارها وتابعيها السعادة فإنها كانت ترى السعادة بمثابة مكافأة ( نظير الأعمال الحسنة أو الإيمان ) في العالم الأخروي ؛ أما الإعلان الجيفرسوني فيبشّر بالسعادة ويراها حقاً طبيعياً في البرهة اللحظية التي نحياها في العالم الجديد ( عالم ” هنا ” و ” الآن ” ) ، وعندما تحقق حلم الجمهورية الأمريكية  ( تذكّر أن إعلان الإستقلال شرّع في 1776 ، وكان لايزال ثمة الحرب الأهلية التي ينبغي خوضها والفوز فيها قبل إعلان الجمهورية ) فإن ذلك الحلم تأسّس على الحقوق الطبيعية التي أرادها الخالق للبشر ؛ غير أن حيثياته الإجرائية عكست سمات الجمهورية الرومانية الوثنية أكثر من سمات الدول الإنكليزية الحديثة : الأعضاء المُنتَخبون بموجب الدستور سيشكّلون مجلس شيوخ ، وستكون لهم مقاعد في الكابيتول ( مبنى الكونغرس الأمريكي ، المترجمة ) ، وحتى الطراز المعماري للمركز الإداري والعاصمة الفدرالية في الجمهورية المنشودة واللذيْن صمّمهما جيفرسون ذاته سيشيران بدون لبس إلى مصدر إلهامهما المقصود عن طريق إتباع نمط معماري كلاسيكي مُحدّث ( نيوكلاسيكي ) .

   برغم كلّ الحماسة الدينية والتوهّج اللاهوتي في بلاغة جيفرسون التي نلمحها في إعلانه العتيد ، وبرغم تأكيده التقليدي على إستعادة ذكر الخالق فإن الجمهورية الأمريكية – وبخلاف جمهورية كرومويل الإنكليزية – ستكون علمانية في روحها وجوهرها ؛ الأمر الذي يوضّح لنا السبب وراء السعي الحثيث للفدرالية الأمريكية فور تأسيسها إلى فصل الكنيسة عن الدولة .

   ” السعي وراء السعادة ” قنبلة زمنية موقوتة في الإعلان الجيفرسوني ، وقد يُخمّن البعض أن الإعلان فعلُ بلاغة لغوية من جانب جيفرسون أكثر من كونه فعلاً سياسياً معتبراً ذا سطوة : كان جيفرسون مدفوعاً أثناء كتابة الإعلان إلى التعبير عن نفسه بكلمات أكثر حدّة ممّا كان يعلم ، كما  إبتغى ولوج معاني غير تلك التي أرادها بوعي مقصود برغم أن جيفرسون إمتلك عقلاً معقداً ومتوزّعاً على مهمّات كثيرة ؛ لكن يبقى كل ذلك من الأمور التي لانستطيع الجزم بصحتها .

   وصف شيللي الشعراء بأنهم ( مُشرّعو العالم غير المُعتَرَف بهم ) ، ولكن مايمكن إدّعاؤه وبطريقة أفضل ممّا فعل شيللي هو أن الشعراء ( في خضمّ تعثّرهم ومجاهدتهم في الكتابة التي تكشف عن ذواتهم ، وفي اللغة التي يستخدمون والطريقة التي يوظّفون بها تلك اللغة ) قد يفتحون الأبواب مشرعة أمام التغيّرات المؤسساتية من خلال إزاحة النقاب عن أية إمكانية جديدة حبلى بالأمل رغم أننا قد نراها إمكانية خافتة أول الأمر ، وعندما يبدأ العقل بالنظر إلى تلك الإمكانية والتعامل معها  فستغدو حقيقة راسخة يصعب المضيّ في حياتنا من دونها .
________

*المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *