في اللسان واللغة والبيان وعن القرآن والأولوية والأحقية

خاص- ثقافات

*كفاح جرار

 

هب أن القرآن الكريم نزل من لدن الرحمن جل شأنه بالفرنسية أو اليابانية، وبأي لغة حية أو ميتة أخرى، هل سيكون وقتها معجزا ويظل معجزا أم لا؟.

يهمني التأكيد هنا أني من الذين يفضلون استعمال كلمة “لسان” على مفردة “لغة” لأن الأولى تؤدي الغرض منها تماما، أما الثانية فقد استخدمت حديثا بمعنى الكلام اللساني المميز لكل أمة، وهي في الحقيقة كانت قد استخدمت لغير ذلك تماما، يوم كانوا يعنون بها اللوغوس، وما زالوا على أية حال، وهي مفردة شرك، تعني “المسيح الرب” على حد زعم أصحابها.

تحدي المعرفة

السؤال السابق، يحمل دلالات معرفية وزمنية واجتماعية عظيمة، لمن يهمهم البحث العلمي والمعرفة التاريخية المفصلة، وهو الأمر الذي يطرح قضية غاية في الأهمية، تتعلق بماهية وكينونة الإعجاز القرآني، هل تتعلق باللغة لوحدها مجردة، أو باللغة وأشياء أخرى، أم لا علاقة لها باللسان مهما كانت طبيعته وماهيته، ومهما بلغت درجة رقيه وجبروته وسطوته من حيث التنوع والانتشار والقوة، كالسواحلية والصينية والإنكليزية، وطالما العصر يعترف بقوة الاقتصاد والتقنية، فإن لغة الاقتصاد وما يتبعها من ملاحق ثقافية وتقنية وصناعية هي لسان شكسبير دون منازع، الذي نشك أنه “الشيخ زبير” كما أشيع ذات يوم.

المؤكد من القرآن نفسه أنه لا يخضع ولا يتحدد بالإعجاز اللغوي، لقوله تعالى مخاطبا جميع الخلق الذي هم من خلقه وصناعته وإبداعه..  (قُلْ لَئِنْ اِجْتَمَعَتْ الْإِنْس وَالْجِنّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآن لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضهمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا.).

الآية لم تحدد صراحة وبمنتهى الوضوح طبيعة اللغة الإنسية ومعها اللغة الجنية، التي كان الإعجاز بها، ما يؤكد أن الله تعالى تحدى معرفيا ولم يذكر اللسان أبدا، فليجتمع ويتضامن ويتفق جميع الإنس بمختلف ألسنتهم ومعارفهم، ومعهم الجن بجميع ألسنتهم وعلومهم، فليتحدوا ويحاولوا فسوف يعجزهم القرآن الكريم، ليس لأننا نقول ذلك ونزعمه، لإيماننا به، وإنما لأنه الواقع المعرفي التاريخي الذي تكرس كحقيقة بديهية لا يمكن نكرانها ورفضها، وغير ذلك كان من باب أولى أن يقوم على التحدي الذين نزل القرآن بلغتهم، فقالوا ” لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون” وكأني بهم عرفوا وتيقنوا أن الإنصات والاستماع للقرآن الكريم فيه خطر على عقيدتهم، ليس لهشاشة في العقيدة، وإنما لقوة الإقناع القرآني ونفاذه ومضاوته ومضيه، ولا بد لمن ينصت ويستمع أن ينقاد ويؤمن ويسلم، أي ينخلع وينسلخ من معتقده الأبوي الجيلي، ويتبع هدى عقله وبيانه، لذلك وجدوا صفة اعتقدوها لائقة بظنهم، فقالوا “سحر مبين” أو “سحر يؤثر” وهو ليس سحر الآية المادية، ليس سحر العصا والإحياء والأشفاء وشق البحر ورفع الجبل وانبجاس الماء، رغم عظمة هذه الآيات، لكنها لحظية وقتية آنية، وإنما حمل القرآن الكريم ما يمكن تسميته بـ”سحر الفكرة”.

أي بيان الآية وجلاؤها وحصانتها، المجموعة في سورة، هي أعظم وأحكم من السور بكثير، بل يكفيها أنها آية فما حاجتها للتسور؟.

أين النسخة؟

على أقل تقدير من يزعم أن في كتاب الله تعالى مجرد خلل صغير بنيوي أو معرفي/ علمي فليأتنا بصدقية ذلك، ومن يزعم أن القرآن الذي بين أيدينا نسخة مطورة أو مشوهة عن نسخة أخرى، فليأتنا بالنسخة الأولى المزعومة، المعمول بها والمتداولة، أما وأن جميع المؤمنين ولا أقول المسلمين وبكافة فرقهم ومذاهبهم ومشاربهم واتجاهاتهم ،ومن تزندق وجنح وفجر منهم، اتفقوا على أن ما نتداوله ونقرأه يوميا في الصلاة على الأقل هو النسخة الوحيدة الموجودة للقرآن الكريم، ولا يوجد أي نسخة أخرى غيرها، عند أي من الفرق والمذاهب والجماعات الإيمانية.

وما يتعلق بالعربية، فأن يكون كتاب الله تعالى بلسان العرب ومعارفهم فهذا يعلي من شأنهم لرفعة شأنهم أساسا، لكنه ليس تقزيما لعلم الله تعالى الذي إن شاء ينزل كتبا كثيرة وبلغات مختلفة وجميعها معجزة، ولنا في الكتب السماوية السابقة ما يدعم ذلك، وإذن من كرم قريشا بسورة حملت اسمها، هو سبحانه الذي كرم لسان قريش وغلبه على لسان جميع العرب، كما تغلبت لهجة ماسينيسا المازيلي على بقية لهجات الأمازيغ، وتغلبت فارسية أصفهان على بقية اللهجات، لهجة أهل باريس في الفرنسية، والإنكليزية وغيرها من ألسنة البشر.

والحق.. ليس أكذب من مسيلمة إلا رجل يتبجح في الإسلام ولا يعرف معناه، ولئن سألته ليقولن، لجهله، الإسلام أن تستسلم لله تعالى، ما يوحي بأننا في حالة حرب مع الله جل شأنه، فيقبل الرجل الاستسلام له على القتل والهلاك، فهل هذا هو الإسلام؟.

سطوة المفتي

لو كان مسيلمة البائد يعرف أهمية الفقيه وسطوة الولي المرشد، وأثر الشيخ المدمر، لكفى نفسه عناء ادعاء النبوة، واكتفى بلقب الشيخ الفقيه، لكنه إضافة إلى قصر نظره، كان محدود الأفق والعقل والرؤى.

ومن محدودي الأفق كذلك، أولئك الذين يقدمون ويحتجون بلفظة ومصطلح “الرجل الحر” تعريفا للأمازيغي، مع أن هؤلاء جاؤوا ليتفاخروا فوقعوا وسقطوا، فما الداعي لتأكيد حريتك طالما كنت حرا، وهل يحتاج الرجل الشجاع المقدام لأن يحمل اسم الشجاع فلان، تلك صفة تنتقل معه ولا تكون اسمه، وأن تصر على أنك حر، فهذا يعني أن هناك من أرادك ويراك عبد، أي “أكلي”.

لقد كان الأمازيغي حرا كريما، ليس بسبب اسمه وإنما لأنه كذلك حقا، وعندما رضي بلعب دور التابع الذليل تخلى عن حريته، كما صنع شقيقه الذي سلم ذقنه ورأسه لحاكم يستبد به.

وقد عرفنا في تاريخنا مفاصل تاريخية كثيرة ومتعددة، لعل أهمها تلك المرحلة التي لم ندرسها كما ينبغي ولم تأخذ حقها في البحث والتمحيص، وهي فترة الغزو التتري المغولي للعالم العربي الإسلامي، وهم للحق غزو العالم القديم برمته، فما الذي حملته وأفرزته تلك الحقبة، وقد تزامنت لعجائب التاريخ مع دعوات بطرس الناسك لغزو العالم الإسلامي، فاجتمع المغول والصليبيون لاحقا على أمة واحدة، وكان المغول قد أعدموا كل أثر علمي ومعرفي للحضارة الإسلامية الرائدة؟.

التغيير

كانت تلك نكبة عظيمة قلبت بنا السلم التاريخي رأسا على عقب، وما زلنا نصارع للصعود نزولا، فقد كان التغيير الذي سيكون سلبيا دوما وهبوطا دوما ونحو الأسفل دوما، لأن فطرة البقاء والنقاء أن يكون المرء إنسانا يتمتع بكرامة ورفعة ومناعة، فإن تخلى عن ذلك، وقع التغيير فكان الانقلاب نحو الأسوأ، وذلك جريا على قولنا من الآية الكريمة، لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، فقد وقع التغيير من الناس التبع أولا، وكان جذره نفسي، أي انقلبت أنفسهم فتعاكست نواياهم، فلما غيروا ما بأنفسهم وبإرادتهم، غيرهم الله تعالى، وهذه حقيقة غاية في الأهمية، (لم تنجح فرنسا الاستعمارية رغم عقود احتلالية إلغائية بشعة من مسح نفسية الشعب الجزائري)، لكنه (مسحها بيده لاحقا في نعمة استقلاله)، ولقد كان تغيير الله تعالى متناسب طردا مع التغييرات التي أحدثها الناس، فأنكرتم النعمة فحرمتموها، وتركتم العلم فجهلتم وانكفأتم، وتقاعستم عن القتال فاحتلكم الناس واستعمروكم، واتبعتم الفرقة فتشرذمتم وتقاتلتم واقتتلتم فهلكتم..إلخ.

على الأقل كنا أمة نهارية فصرنا أمة ليلية، وكنا أمة تغيير فصرنا أمة تقليد، وكنا نفخر بأعمالنا فصرنا نتفاخر بأعمال أجدادنا، وكنا نشتغل في كل شيء، فصرنا نشتغل في المرأة، ولست أدري سر تمسكنا بهذه المهنة غير النبيلة، فلا هم ولا شاغل لنا سوى النساء وما نصنع بهن وما يصنعن بنا، حتى رجال زمان أصحاب اللحى والشوارب العصملية، كان حديثهم وشغلهم ومشغلتهم الحريم.

لقد سلبوا منا العلم بعدما تخلينا طواعية عن السيف، وسلبوا منا الفعل الوجودي بعدما تخلينا طواعية عن خدمة الأرض، وقد قيل لولا الفول لانقرض الشعب المصري، فقد كانت هذه النبتة التي لا تصمد في التخزين أمام غزو السوس، نعمة عظيمة على هذا الشعب، كما كان القطن نعمة ونقمة على الهنود.

فهل كانت اللغة/ اللسان نعمة أم نقمة على جمهور المؤمنين؟.

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *