الدولة الدينيّة خارج العصر

*د . ألفة يوسف

منذ خصام سقيفة بني ساعدة حول الخلافة، وجلّ المسلمين يتصارعون على الحكم السّياسيّ. ومن هذه الصّراعات ما هو تاريخيّ شهده قيام الدّولة الأمويّة ثمّ الدّولة العبّاسيّة، ومنها صراعات حديثة جسّمها ظهور الإسلاميّين وجماعة الإخوان من بداية القرن الماضي، ومنها ما هو ممتدّ عبر الزّمان يتّخذ صورا وأشكالا مختلفة شأن الصّراعات بين السّنّة والشّيعة.

إنّ الأمويّين والعبّاسيّين والإسلاميّين سنّة وشيعة كانوا يريدون تأسيس دولة دينيّة، وقد نجح بعضهم في ذلك عبر التّاريخ. فهل يمكن اليوم قيام دولة دينيّة؟ وما هي تبعات ذلك؟

قبل معالجة هذه المسألة الإشكالية، لنتّفق أوّلا على معنى الدّولة الدّينيّة. الدّولة الدّينيّة هي دولة تستمدّ قوانينها فحسب من دين ما وتشرّع استناداً إليه، وتعتبر أنّ تشريعها ذاك إمكان وحيد لا يجوز أيّ  إمكان سواه (1).

ونرى أنّ خصائص الدّولة الدّينيّة هي خمس، تتمثل في التالي: الدّولة الدّينيّة تتقابل (تتعارض) مع مفهوم الفرد والحرّيات الشّخصيّة، والدّولة الدّينيّة تتقابل مع حقوق الإنسان، والدّولة الدّينيّة تتقابل مع السّلطة النّسبيّة، والدّولة الدّينيّة تتقابل مع الأمن والاستقرار، والدّولة الدّينيّة اليوم «تلفيقيّة» ضرورة.

لا مكان للحرية

أولاً: الدّولة الدّينيّة تتقابل مع مفهوم الفرد والحرّيات الشّخصيّة: مفهوم الفرد هو مفهوم نشأ مع الفلسفات الحديثة. فالمقاربات الاجتماعيّة التّاريخيّة تعرض فحسب للقبيلة أو الأهل أو الجماعة عموما. ويتّصل مفهوم الفرد بمفهومي الحرّية والمسؤوليّة اللّذين بلغا أوجهما مع الفلسفات الوجوديّة. ومفهوم الفرد أساسيّ في التّنظيمات السّياسيّة الحديثة حيث يلتزم الفرد القوانين والواجبات تجاه الدّولة مقابل حقوق وحرّيات فرديّة.

أمّا في الدّول الدّينيّة، فلا معنى للفرد ولا للحرّيات الشّخصيّة. فالإنسان حتّى فكره وعقله ملك للدّولة لا يمكن أن يخرج عن حدود ما ترسمه له تشريعاتها الدّينيّة. ولا ننسى مثلا أنّ ابن رشد قد أحرقت كتبه في دولة دينيّة بسبب أنّ المنصور اتّهمه بالكفر، ولا ننسى أنّ ابن حنبل قد امتحن وعُذّب لأنّه لم يقل قول الخليفة المأمون بخلق القرآن، ولا ننسى أنّ ابن المقفّع قد قُتل وقُطّعت أوصاله لأنّه نُعت بالزّندقة. كلّ هؤلاء، وغيرهم كثير، ما كان مسموحا لهم بحرّية التّفكير، لإنّ الدّولة الدّينيّة لا تسمح لك أن تفكّر إلاّ بمسلّماتها ولا تسمح لك بأن تنظر إلاّ برؤيتها. إنّ علاقة النّاس بعضهم ببعض في دولة دينيّة ليست علاقة فكرة ممكنة بفكرة ممكنة، وإنّما هي علاقة الجميع بفكرة واحدة عليهم الالتزام بها والخضوع لها.

لا مكان للمساواة

ثانياً: الدّولة الدّينيّة تتقابل مع حقوق الإنسان: من أهمّ الأفكار التي ساهمت في بناء المجتمعات الحديثة هي فكرة حقوق الإنسان حيث يقرّ البند الأوّل من هذه الاتّفاقيّة أنّ كلّ الناس يولدون أحراراً ومتساويين في الكرامة وفي الحقوق، وأنّهم يمتلكون عقلاً وضميراً ويجب أن يتعامل بعضهم مع بعض بروح الإخاء.

وتستند الدّول الحديثة إلى هذه الاتّفاقيّة في فلسفتها التّشريعيّة وفي قوانينها، أمّا الدّولة الدّينيّة فإنها لا تقبل مبدأ المساواة بين البشر. ويكفي أن نتذكّر أنّ الدّول الدّينيّة تميّز بين العبيد والأحرار وتجعل لكلّ من هذين الصّنفين أحكاما خاصّة. بل إنّ إلغاء العبوديّة لم يكن منطلقه اجتهادات دينيّة بل تراكم تجارب بشريّة وإجراءات قانونيّة وضعيّة. ومن اللافت للانتباه أنّ بعض المنتمين إلى حركة الاتّجاه الإسلاميّ في تونس في الثّمانينيّات مثلا كانوا يدعون إلى العودة عن إلغاء الرّقّ بصفته تحريما لما تسمح به أحكام الشّريعة. وقد حقّقت داعش الّتي تدّعي أنّها «دولة إسلاميّة» هذا التمثّل النّظريّ في الواقع. فمن ينسى أسر اليزيديات وسبيهنّ واغتصابهنّ وبيعهنّ باسم أنّهنّ إماء؟

وليست ثنائية الحرّ والعبد هي الثّنائيّة الوحيدة المقابلة لمفهوم حقوق الإنسان إذ أنّ الدّولة الدّينيّة تقيم ثنائيّتين أخريين بين الرّجل والمرأة من جهة وبين المسلم وغير المسلم من جهة أخرى حتّى إنّ الباحثين يؤكّدون أنّ الإنسان النّموذج2 في الدّول الدّينيّة هو الذّكر المسلم الحرّ.

 إنّ الدّولة الدّينيّة لا تعترف بالمساواة بين الرّجل والمرأة، وتمنح الرّجل حقوقا تمنعها عن المرأة شأن حقّ الحرّيّة في السّفر أو حقّ إعطاء الجنسيّة للأبناء من أزواج أجانب وسواها من الحقوق المختلفة الّتي قد لا يتّسع المجال لتعدادها والتي تشترك في حرمان المرأة منها جلّ الدّول الدّينيّة.

وليست المرأة وحدها «ضحيّة» الدّول الدّينيّة، وإنّما يشاركها في هذا الوضع الأدنى من يعتنقون عقائد أخرى. فهم «رعايا» من الدّرجة الثّانية، وليس ما تنقله لنا كتب التراث من ضرورة وجود زيّ خاصّ بأهل الذّمّة إلا مثال على ذلك، وليس ما تنقله كتب التّاريخ من معاناة الموريسكيّين من محاكم التّفتيش الإسبانيّة إلاّ مثال ثان.

لا مكان للمواطنة

ثالثاً: الدّولة الدّينيّة تتقابل مع السّلطة النّسبيّة: لا تقوم الدّولة الدّينيّة على مفهوم المواطنة ذلك أنّ المواطنة مفهوم حديث يقتضي المساواة بين جميع المواطنين تحت لواء القانون الّذي يخضع له الجميع. أمّا في الدّولة الدّينيّة، فيُستبدل مفهوم الرّعيّة بمفهوم المواطنة. المجتمع ينقسم إلى عامّة هي الرّعيّة وخاصّة عادة ما تستمدّ نفوذها وسلطانها من أنّها هي التي تحكم باسم الله تعالى. فالتّاريخ ينقل لنا أنّ الحكم الكنيسيّ كان يقرّ بأنّ الملك هو ظلّ الله تعالى على الأرض، ومن ثمّ فلا يمكن مناقشته ولا معارضته إذ مناقشته ومعارضته تغدو مناقشة ومعارضة لله تعالى. ونجد نفس منطق السّيطرة هذا لدى جلّ من حكم باسم الله تعالى لدى المسلمين3. فخليفة المسلمين ممّن يجب على الجميع طاعته، ومن الأقوال التّاريخيّة الشّهيرة قول عبد الملك بن مروان: «والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلاّ ضربت عنقه» (4).

إنّ موقع الخليفة أو أيّ حاكم باسم الله يهبه حكما مطلقا لا يمكن ضمان عدم الانحراف به أو تحويله إلى استبداد شرعيّ.

لا مكان للسلام

رابعاً: الدّولة الدّينيّة تتقابل مع الأمن والاستقرار:

من تبعات الدّولة الدّينيّة أنّها أرض خصبة للصّراعات والحروب. ذلك أنّه إذا كانت الدّولة الدّينيّة تسمح بتجميع السّلطة بيد الحاكم بصفته حاكما بأمر الله، فإنّ المتصارعين على السّلطة سيتكاثرون ويسعى كلّ واحد منهم إلى أن ينتصب حاكما وحيدا باسم الله. إنّ الصّراع على المعنى يصبح صراعا على السّلطة. وهذا ما نجده في صراع المذاهب بين السّنّة والشّيعة، فرغم أنهما ينتميان إلى تقليد دينيّ واحد، وهو الإسلام، فإنّ كلّ فرقة تدّعي أنّها على حقّ. وهذا الصّراع الإيديولوجي الفكريّ  (5) يتجسّم سياسيّا من خلال الفتن والحروب عبر التّاريخ وحتّى يومنا الحاليّ.

إنّه من العسير أن تحقّق الدّولة الدّينيّة سلاما أو تعايشا هادئا لأنّ الطّمع في تمثيل الله تعالى سيكون كالجمر تحت الرّماد تغذّيه التآويل المختلفة والقراءات المتضاربة.

غريبة ومرفوضة

خامساً: الدّولة الدّينيّة اليوم «تلفيقيّة» ضرورة: إنّ ما سبق بيّن لنا أنّ الدّولة الدّينيّة متقابلة مع مفهوم الفرد وحرّية الإنسان والسّلطة النّسبيّة والأمن الشّامل. وهذه العناصر كلّها أساسيّة في الحداثة، لذلك ستكون الدّولة الدّينيّة الآن بالضّرورة غريبة مرفوضة من العالم كلّه، وهذا ما حصل لداعش. ولكن إذا اعتبرنا داعش حدّا أقصى للدّولة الدّينيّة يراه البعض إرهابا متستّرا بالدّين، فإنّ الدّول الدّينيّة «المسالمة» لن تخلو من المشاكل الّتي تقوم على ازدواج دساتيرها وتناقض قوانينها. فكثيرة هي البلدان التي ما تزال تعمل بقانون الأحوال الشّخصيّة «الإسلاميّ» في حين أنّها لا تعمل بقانون الأحوال الجنائيّة «الإسلاميّ» إذ لا تعتمد حدود الجلد والرّجم وقطع اليد مثلا. وكثيرة هي الدّول الّتي تعتمد التّآويل وحذلقة القراءة لتوفّق بين تعاليم الدّين ومتطلّبات القوانين الحديثة. وهذه النّزعة التّوفيقيّة التي يراها بعض الباحثين تلفيقيّة تعزّز انفصام المجتمع وتفسّر ظهور الحركات الدّينيّة المتطرّفة بين حين وآخر.

لقائل أن يقول إذن: إذا كانت الدّولة الدّينيّة غير متلائمة مع الحداثة، فلماذا تتحرّج كثير من الدّول المسلمة من انتهاج العلمانيّة أو من الإقرار بها؟

إنّ مصطلح «علمانيّة» ليس من التّراث العربي الإسلاميّ فلا وجود له في أمّهات الكتب بما يعني أنّه مصطلح مستورد مفتقر إلى الانغراس في التّربة الحضارية المسلمة. ثمّ إنّ هذا المصطلح ضبابيّ المفهوم لدى جلّ النّاس متّصل عندهم بالكفر أو اللاّتديّن بل لعلّه مرادف لهما. وإنّنا نعتقد جازمين أنّ الفضائيّات كان لها دور كبير في تقديم العلمانيّة على أنّها مرادفة للكفر أو اللاتديّن. ولا نظنّ أنّ هذا الاستعمال الخاطئ عفويّ بل نتصوّره مقصودا لتشويه مفهوم العلمانية خدمة لحركات إخوانيّة في سياق تاريخيّ مخصوص.

والأصل أنّ العلمانيّة في معناها الأبسط هي فصل للدّين عن الدّولة، وهي لا تتقابل البتّة مع التّديّن بل لعلّها تتلاءم مع ما يدعو إليه القرآن من احترام عقيدة البشر واعتبار كلّ  واحد حرّا في دينه واقتناعاته العقديّة: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف، 29) « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ- لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ» (الغاشية، 21-22). بل أكثر من ذلك إنّ القرآن يؤكّد أنّ اختلاف العقيدة بين البشر ممّا أراده الله تعالى في الكون: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ  حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين» (يونس،99). ومن هنا فإنّ فصل السّياسيّ عن الدّينيّ ليس بدعة ولا ضلالة بل هو من جوهر الحرّية المسؤولة التي وهبها الله تعالى للإنسان.

إنّ العلمانيّة تكفل حرّية المعتقد وحرّية ممارسة الشّعائر، فهي لا تنفي الدّين بل تحميه وتحمي ممارسيه. إنّها لا تجعل الدّين وسيلة للحكم وإنّما يكون الحكم وسيلة لحماية المتديّنين واللامتديّنين. ولعلّه آن الأوان للتّذكير بخطورة الدّولة الدّينيّة وسرعة انجرافها إلى الدّكتاتورية والعنف من جهة، ولتخليص مصطلح العلمانيّة من شوائبه ومنع تشويهه من جهة أخرى، عسى نستطيع بناء دول فاعلة وديموقراطيّات حديثة.

العلمانيّة لا تناقض الدين

العلمانيّة في معناها الأبسط هي فصل للدّين عن الدّولة، وهي لا تتقابل البتّة مع التّديّن بل لعلّها تتلاءم مع ما يدعو إليه القرآن من احترام عقيدة البشر واعتبار كلّ واحد حرّا في دينه واقتناعاته العقديّة: «وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ» (الكهف، 29) « فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ- لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ»(الغاشية، 21-22). بل أكثر من ذلك إنّ القرآن يؤكّد أنّ اختلاف العقيدة بين البشر ممّا أراده الله تعالى في الكون: «وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ  كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ  حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِين» (يونس،99). ومن هنا فإنّ فصل السّياسيّ عن الدّينيّ ليس بدعة ولا ضلالة بل هو من جوهر الحرّية المسؤولة التي وهبها الله تعالى للإنسان.

الدولة الدينيّة مرشحة للديكتاتورية

إنّ العلمانيّة تكفل حرّية المعتقد وحرّية ممارسة الشّعائر، فهي لا تنفي الدّين بل تحميه وتحمي ممارسيه. إنّها لا تجعل الدّين وسيلة للحكم وإنّما يكون الحكم وسيلة لحماية المتديّنين واللامتديّنين. ولعلّه آن الأوان للتّذكير بخطورة الدّولة الدّينيّة وسرعة انجرافها إلى الدّكتاتورية والعنف من جهة، ولتخليص مصطلح العلمانيّة من شوائبه ومنع تشويهه من جهة أخرى، عسى أن نستطيع بناء دول فاعلة وديموقراطيّات حديثة.
_______
*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *