صدمة الاحتلال في الرواية العراقية الحديثة … ” الحفيدة الأمريكية ” أنموذجا

خاص- ثقافات

قراءة : داود سلمان الشويلي

الاحتلال – أي احتلال، واحتلال العراق عام 2003 خاصة – عمل عدواني، وغير أخلاقي، وغير إنساني بصورة عامة، يدفع بالفرد والمجتمع إلى أن يقول كلمته فيه، فإما أن يكون معه، أو ضده، وحتما فإن الأفراد، والمجتمع كذلك، السويون يقفون ضده، لأنه – كما قلت – غير أخلاقي وغير إنساني، والمجتمع السوي يقف مع الأمر الأخلاقي والإنساني دائماً وابداً.

والمجتمع العراقي، بكل أديانه ومذاهبه وقومياته، هو من المجتمعات السوية، حضارياً وتاريخياً، لهذا نراه يقف من الاحتلال موقفا بالضد منه، بل ويقاومه بشتى الطرق والأساليب والوسائل المتاحة.

لنتساءل : ما هو موقف ” الشخص ” الذي ينتمي الى هذا المجتمع ” السوي ” إلا أنه غادره في وقت من الأوقات ليعيش في كنف مجتمع قامت قواته باحتلال بلده ؟

عندما يحتل البلد يقف ذاك المجتمع في مفترق طرق، إما أن يكون مع الاحتلال وعند ذاك يكون قد خان الوطن ( في أي عرف كان حتى في عرف هتلر)، أو أن يكون ضده، عندها يكون موقفه وطنيا متساوقا مع الطبيعة البشرية السوية مهما كان موقفه من الحكومة في ذاك الوقت (وهو موقف في عرف العالم أجمع).

إن الوطنيين هم الأكثرية الساحقة من المجتمع الذي احتل بلده محاولا أن يغير من قيمه وأخلاقه، أما الذين هم مع الاحتلال والذين يمكن أن نطلق عليهم كلمة ” خونة ” فهم أقلية، بل أقلية قليلة من المنتفعين منه، لهذا لايحسب لهم حسابا عند الوطنين، إلا إذا كان صوتهم عال في زمن الاحتلال لأنهم يستمدون قوتهم من هذا الاحتلال، فيكون محاربتهم بشتى الطرق، والحذر منهم، واجباً وطنياً كذلك كالوقوف ضد الاحتلال .

في رواية الكاتبة العراقية انعام كجه جي ( الحفيدة الامريكية ) نطلع على حالة تقع ضمن الوصف الذي قدمناه، وأيضا تقف خارجه، فهي حالة خيانة للوطن من شخص عراقي غادر وطنه قبل خمسة عشر سنة، وفي الوقت نفسه هي حالة العودة للوطنية قبل أن يفوت الاوان، وبين هذا وذاك يقف وصول تلك الشخصية إلى أرض الوطن هي الفيصل بين الاثنين .

تدور أحداث الرواية عن شخصية ” زينة ” الفتاة المسيحية التي هربت مع والدها المذيع إلى امريكا وحصلت على الجنسية الامريكية، ابنة الأسرة العراقية المهاجرة التي تفككت في هجرتها، وأدمن  الابن ” يزن ” على تعاطي المخدرات، وعاش الأب والأم في مدن مختلفة، فامتلكت هي زمام إرادتها.

و في الوقت نفسه فهي تقوم بمقام الراوي للاحداث بصيغة الراوي العليم، وهذا مما ساعد على توصيل المعلومات عنها وعما تراه للمتلقي، فقد كانت هي التي تنقل للمتلقي كل ما كانت تحس وتشعر به من هواجس وهموم، وما تذكره من ذكرياتها في امريكا، وما تراه في العراق زمن الاحتلال، وقناعاتها الفكرية أو النفسية عن كل هذا .

عندما احتل العراق تطوعت ” زينة ”  في الجيش الأمريكي للعمل في العراق، فها هي تقول بكل فرح وسرور : ((ملأني الفخر بعد أن أعطوني البدلة المرقطة وتأكدت من أنني ذاهبة إلى المهمة التي ستجعلني أستحق المواطنة الامريكية، أنها فرصتي لرد الجميل للبلد الذي أحتضنني منذ أول الصبا وفتح لي ولأسرتي صدره. )). ص93

كانت مزهوة بالبدلة العسكرية الامريكية، وكذلك بذهابها في مهمة خاصة بأمريكا إلى بلدها الأم، لأنها وجدت في ذلك فرصتها لترد الجميل كمواطنة امريكية لامريكا، فهل حققت ذلك المطلب بعد وصولها للعراق ؟

 ومن لحظة وصولها للعراق ومشاهدة الفعل الأمريكي الاحتلالي فيه تغير كل شيء في نفسية وفكر ” زينة ” بعد أن كانت تعد امريكا وطنها وعليها أن تخدمه، ((أنها فرصتي لرد الجميل للبلد الذي احتضنني منذ أول الصبا وفتح لي ولأسرتي صدره. )) .

في الرواية تقف ” زينة ” في مفترق طرق، بين موقفها الفكري عن أمريكا كوطن لها يجب عليها أن ترد جميله، وبين موقف الجدة التي بقيت في العراق، وهو موقف وطني لمن عاشوا في العراق ولهم تاريخهم الممتد عبر الزمن، وشربوا من مائه وأكلوا من خيراته، وكان زوجها ضابطا في الجيش العراقي وما زالت بدلته تتوهج وطنية، وكذلك ما تراه من فعل الاحتلال .

إن ما شاهدته من فعل الاحتلال في العراق،وكذلك ما سمعته من جدتها عن حبها للعراق، وكيف أنها تحتفظ بالبدلة  العسكرية لزوجها المتوفي، كل ذلك اعاد لفكرها الذي كانت تصفه بالنزق : ” كيف تمكن هذا الإحساس المخاتل أن يصقلني ويشذب  نزقي الذي كان طبعا ً فيّ ؟ ” ص 9، التوازن الفعلي لاتخاذ موقف سوي بالضد من موقف الاحتلال .

إن الشخصية الرئيسية في الرواية ” زينة ” تقف بعد تطوعها في الجيش الأمريكي،ووصولها إلى العراق ورؤيتها لما يفعله الاحتلال، في مفترق طرق، اما ان تكون مع والديها تائهة لا هوية وطنية لها، فها هي بعد أن رأت أمها عند عودتها من العراق، تقول عنها زينة : (( أقر بأنني عدت مقهورة، محملة بحصى الشجن  وبحبتين من النومي الحلو، اشتهيتهما لأمي التي يبدو أنها اكتفت نعمة الخذلان  قبلي، وبالتحديد منذ ذلك اليوم  الذي  سيقت فيه  إلى الاحتفال الكبير في ديترويت ـ لكي تؤدي قسم الولاء لأميركا وتنال بركة جنسيتها . دمعت عيناها وأنا أمد يدي لها بالثمرتين الصفراوين اللتين قطفتهما  من حديقة البيت الكبير الذي أمضت شبابها فيه .أخذت النوميتين  بكلتا يديها  وتنشقتهما بعمق وكأنها تشم مسبحة أبيها وحليب أمها  وعمرها الماضي))  ص 10، أو أن تقف مع جدتها بهوية وطنية معروفة سلفاً، ومع بلدها الأم ؟

في هذا المجال تطرح رواية ” الحفيدة الامريكية ”  إشكالية الهوية، فكيف ننظر إلى ” زينة ” قبل وبعد المجيء الى العراق ؟ هل ننظر اليها على انها فتاة هرب بها وبعائلتها والدها الى امريكا وترعرعت هناك على قيم واخلاق غير التي عند العراقيين؟ أم ننظر اليها وهي تتخذ موقفا غير الموقف التي جاءت به من أمريكا مع الجيش الامريكي ؟

لقد تساءلت مرة : (( هل أنا منافقة، أمريكية بوجهين ؟ أم عراقية في سبات مؤجل مثل الجواسيس النائمين المزروعين في أرض العدو منذ سنوات )) ص 23.

إنه تساؤل حرك في نفسها وفكرها كذلك ما كانت تعتقد به قبل مجيئها الى العراق، ودق ناقوس الخطر عندها .

في هذه الإشكالية، أي إشكالية الهوية، نصطدم بزينة الفتاة العراقية التي عاشت أكثر من خمسة عشر سنة في امريكا، واكتسبت عادات الامريكان وتقاليدهم وثقافتهم، وعندما تأتي ضمن الجيش الامريكي بعد الاحتلال إلى العراق تصطدم بذكريات جدتها الوطنية زوجة الضابط السابق في الجيش العراقي، وبأخيها في الرضاعة الشيعي المنتمي إلى جيش المهدي المقاوم، وبالواقع العراقي بعد الاحتلال الذي يقول أقل مما يسكت عنه.

هذه العوالم الثلاثة التي اصطدمت بها هي التي تعيد لزينة هويتها العراقية بعد أن كادت أن تسحقها الحضارة الأمريكية بمخالبها الحديدية .

قالت زينة بعد ان رأت فعل الاحتلال : (( حتى ضحكتي تغيرت، لم أعد أقهقه من قلبي كالسابق )).  ص9، و ((منذ أن عدت من بغداد  خرقة معصورة من خرق مسح البلاط )) . ص  10

فبينما كانت تقول في بدء التحاقها بالجيش الأميركي : (( كنت أقول إنني ذاهبة في مهمة وطنية . جندية أقدم خدمة لمساعدة حكومتي وجيشي وشعبي )).  ص 18 ، عادت إلى أمريكا وهي تردد قول والدها : ((شلّـّت يميني إذا نسيتك يا بغــداد )).  ص  195  .

هذا التغير الذي حصل في تفكير ” زينه ” وقبله في وجدانها وضميرها العراقي بلا أمريكا وثقافتها، قد حصل بفعل الجدة، وبفضل أخيها في الرضاعة المقاوم،و فضل الواقع المرئي لفعل الاحتلال، ولولا هذه الأركان الثلاثة المؤثرة في فكر وضمير واخلاق ” زينة ” لما رأينا ” زينة ” جديدة في امريكا بعد عودتها وعدم تجديد تطوعها في الجيش الامريكي الغازي، أنها وقفت مع  ((أناس يديرون الوجوه ويبصقون ويحذرون من خيانة الأرض التي شربنا من دجلتها وفراتها )).  ص 26، لا مع (( أناس يشجعون ويصفقون ويزينون التجربة )) ص26، تجربة الاحتلال المريرة والقاسية واللاوطنية ايضا .

ان “الحفيدة الامريكية ” قد وضعت اللبنات الاولى في موقف ” ضد الاحتلال ” بعد أن تتبعت مصير المتطوعة العراقية / الأمريكية في الجيش الأمريكي، فكانت رواية هجاء للغزو، كما أنها رواية مدح للموقف العراقي الصامد الذي مثلته الجدة، والعراقيين المقاومين .

صحيح أني لم أكن فيما كتبت ناقدأ لفنية النص الروائي وتركيبه الداخلي، أو أن أقوم بدور المقيّم والمقوّم، إلا أني افهم النقد على أنه دراسة النص لإضاءته من كل جوانبه، لهذا قدمت دراسة لموقف البطلة ” زينه ” من الاحتلال، الموقف الإنساني، و الأخلاقي، والتاريخي، والعائلي، دون أن أتحدث عن جوانب السرد ومقوماته، والشخوص، والوصف …  الخ، فأنا أترك هذه الجوانب لناقد غيري هو مسؤول عن تقييم وتقويم العمل.

ولما كنت في ما كتبت من سطور سابقة أقرب إلى ما يسمى بالنقد الثقافي، فلا بأس أن أتكلم عن عتبتين أحدهما نصية والأخرى تشكيلية ذكرت في الرواية، وهما الحديث النبوي الذي أوردته كجه جي في مقدمة روايتها إذ ذكرته : ((إياكم و خضراء الدمن )) فهل كان هذا الحديث يرمز إلى ما في المنطقة الخضراء من تجمع يضم رموز الاحتلال وأذنابهم الذي قال عنهم بريمر في كتابه (عام قضيته في العراق) ما معناه : أن امريكا جاءت بسياسيي الاحتلال من العراقيين من شوارع وأزقة اوربا، فراحت كجه جي تحذرنا منهم ؟

أن المتلقي لا يخرج بشيء إلا بهذه النتيجة التي تؤكد أن الاحتلال ما زال في العراق إن كان بقوات عسكرية، أو بعملاء له من العراقيين  .

كأنها تحذر من “المنطقة الخضراء” في بغداد التي تضم السفارة الامريكية، وينظر إليها العراقيون باعتبارها رمزا لنكبتهم المعاصرة.

والعتبة النصية الثانية هي ” تشكيلية “، وهي اختيار ناجح لجزء من لوحة ” شاي العصر بعد الحمام ” للفنان فيصل لعيبي، حيث رمزت الى المنطقة الخضراء التي حذرت منها في الحديث النبوي بخلفية اللوحة الخضراء، وثانيا مثلت هذه اللوحة التشكيلية على انها جلسة سمر تأتي بعد الخروج من الحمام الذي غسلت فيه ” زينه ” ادرانها من الاحتلال واذنابه من العراقين .

لقد تحولت ” زينه ” من مواطنة عراقية – امريكية بلا هوية انتماء وطني الى ” زينه ” عراقية الهوية تتفاعل مع ابناء مجتمعها العراقي، وتشعر بمشاكلهم وقضاياهم،  فتصل الى نتيجة نهائية وهي عدم تجديد عقدها مع الجيش الامريكي الغازي بعد ان رأت افعالهم مع المجتمع العراقي الذي قسموه الى ملل واديان وقوميات،اقلية واكثرية، انهم جعلوه عبارة عن مكونات وليس مجتمعا واحدا .

هذه الرواية هي الثانية التي يلتقي القاريء ببطلة ذات جذور مسيحية بعد رواية ” ليل علي بابا الحزين ” للروائي الكبير عبد الخالق الركابي والتي تغادر الى امريكا، ونحن نتساءل : هل ان المسلمين وتابعي باقي الديانات بمنأى عما قامت به هاتين الشخصيتين بمغادرة العراق الى امريكا، او ان امريكا خالية من العراقيين المسلمين، وخاصة بعد عام 2003، عام الاحتلال؟ اترك الاجابة عن هذا التساؤل في هذه السطور الى الروائيين انفسهم .

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *