الكتابة عالم مليء بالألغام. من يتجاسر على إضافة كتاب إلى مكتبة تضم عباقرة الفكر والأدب الإنساني. ولكن ثمة لحظة واحدة، هي تلك التي يقرر فيها المرء أن يصبح كاتباً، رغم كل شيء. ماهي هذه اللحظة، كيف تولد ومتى، وما الدافع، المحرك وراء التحول من فعل القراءة إلى فعل الكتابة الإبداعية.

في هذه المساحة، نطل على كتّاب من حقول الأدب الروائي والقصصي والمسرحي، لنستطلع آرائهم حول هذه المسألة التي رغم بساطتها، إلا أنها بالضرورة تستدعي مواجهة عميقة بين الكاتب وذاته، وما أصعبها من مواجهة.

بداية الكتابة

بداية يشير الروائي السعودي مبارك الهاجري إلى لحظة البداية قائلا: «هي اللحظة الحاسمة في تحول ذروة الانفعالات القرائية والتأثيرات الحياتية الخاصة بي إلى مادة كتابية تستحق القراءة، مادة خلَّقها الصدق، وشذبتها التجارب والمسودات والسفر في عقول الأدباء وصفحاتهم». مضيفاً: «تلك اللحظة لم أكن فيها سيداً قرارياً كما قد أكونه في أي لحظةٍ أخرى، تلك اللحظة سلَّمت فيها عاطفتي وفكري للقدر الذي مدَّ لي بالقلم لأكتب». مبيناً أن اللحظة المثلى لبدء الكتابة، حين «تشعر أن الكلام الذي تكتبه أصبح في مستوى الكلام الذي تقرأه وتتذوق له، حين ذاك تبدأ لحظة التحليق السماوي الذي لا ينتهي».

سلسلة بدايات

أما الناقد السينمائي والروائي السوري زياد عبدالله فيرى في تلك اللحظة اتصالاً بحساسية مفرطة مستحكمة به، كونه ولد في بيت فيه مكتبة هائلة مليئة بكتب قلقة وإشكالية، وأب شغوف بالقراءة، ودفاتره بأوراقها المصفرة مليئة باقتباسات مدوّخة من فرلين وروبرت فروست وهنري بربوس. مشيراً: «ما كان من ملاذ لدي سوى التمترس خلف تلك الكتب والتلصص على هذا العالم والكتابة. ليضيف قائلاً: «وفي سياق أعمّ فإن كلمة «بداية» متعلقة بعملية الكتابة، وهي سلسلة متواصلة من البدايات، ولادات متجددة يمسي فيها الرحم بعيداً جداً، أو خط بداية سرعان ما ينتهي، ولعل عملية التأليف فعل هش يمارس بصرامة، وهذا ممتد بحيث الموازاة بين الهشاشة والصرامة تمسي سلوكاً يومياً». ويعتقد صاحب رواية (ديناميت) أن القراءة تكشف عن حيوية الكتابة. موضحاً: «بمعنى أن تواصل القراءة بشغف يشير إلى أن فعل التأليف متدفق وحيوي، وشعوري الدائم هو: كيف لي أن أموت ولم أقرأ بعد هذا الكتاب أو ذاك؟ لكن -بداهة- الكتابة أمر آخر، لا أعرف إن كان صائباً. القول: إن الكاتب قارئ لم يكتف بما قرأ، ووجد أن بمقدوره أن يحاكي أو يماحك أو يضيف أو يتجاوز وحسبي ككاتب أن أدّعي ذلك! ثم إن في القراءة كسل لذيذ لا تعثر عليه في الكتابة!».

القراءة لا تكفي

ويرى الكاتب المسرحي السعودي عباس الحايك: أن «لا وجود لكاتب خلق كاتباً من فراغ». مضيفاً: «ومن جاء إلى عالم الكتابة من هذا الفراغ تظل كتاباته خالية من المحتوى والقيمة، فالكتابة دون قراءة وإطلاع عميقين يعد مأزقاً حقيقياً، يستسهله البعض فيقعون في هذا المأزق». موضحاً: « الكتابة لا تأتي إلا بعد قراءة وتجربة متواصلة، فالشاعر لا يمكن أن يكون شاعراً حتى وإن امتلك موهبة دون أن يقرأ دواوين الشعر منذ بدايات الشعر إلى وقتنا الحالي إضافة لقراءة كل أشكال الكتابة الأدبية التي سترفع من قيمة ما يكتبه هذا الشاعر، والروائي لا يمكن أن يكون روائياً دون أن يبدأ بقراءة المنتج الروائي العالمي». ويؤكد الكاتب الحايك « أن القراءة وحدها لا تصنع كاتباً، فنماذج عديدة ممن حولنا تشير إلى ذلك، فالقراء عديدون، يقضون حياتهم قراءة لكن شرارة الكتابة لا تنقدح أبداً، يظلون قراءً مخلصين للكتاب، فالكتابة لحظة تأتي أحياناً بغتة كالحب أو لنقل كالموت، تأتي رغبة في تحويل فكرة أو خاطرة إلى فعل، وإلى كلمات تقرأ، والقراءة المتعمقة تكون محرضة على فعل الكتابة، والقارئ الذي يملك موهبة سيجد نفسه في هذا العالم غالباً دون ترتيب، وقد يكون بترتيب مقصود، فقد يؤجل فعل الكتابة حتى تنضج مرحلة القراءة والاكتشاف».

صدفة الكتابة

وتتحدث الروائية الإماراتية إيمان يوسف عن تجربتها قائلةً: «بالنسبة لي جاءت القراءة عن حاجة مُلحة، والكتابة فيما بعد بالصدفة، ثم لاحقاً اكتشفت أن الكتب لا تجيب عن الأسئلة بل تفتح أبوابًا كثيرة للمزيد من الأسئلة، مع الوقت أصبحت الكتب الرفيق والصديق والمُتنفس والملجأ». مؤكدة أنها بدأت الكتابة باكراً، وكتبت أول قصة قصيرة حقيقية على مقاعد الجامعة. مضيفة: « ثم استمرت مشاكساتي الأدبية بين المحاضرات وحصص المختبرات الطويلة. وترى صاحبة رواية (حارس الشمس) أن على القراءة أن تكون أسلوب حياة، ممارسة يومية أما الكتابة فلا يجب أن يستعجلها الكاتب، هناك من بدأ مبكرًا ومن تأخر حتى أصدر أولى أعماله مثل جوزيه ساراماغو ومن أصدر كتابًا خالدًا واحدًا مثل هاربر لي في «أن تقتل طائرًا بريئًا».

لحظات متعددة

بالوقوف مجدداً عند لحظة بدء الكتابة، يرى الروائي السعودي فهد الفهد: «أن هذه اللحظة هي في الحقيقة لحظات متعددة ومبثوثة على مدى حياة المبدع، تكون في بداياتها نوع من الاستجابة لما يثيره التعرض للإبداع». مضيفاً: « يقرأ فيجد نفسه أسيراً للقصة والشخصيات، هذا يدفعه للتقليد ومحاولة الاقتراب من هذا العالم الخيالي الفريد، لاحقاً تزداد المحاولات وتنضج، حتى تصل إلى اللحظة التي يقرر فيها الكاتب مشاركة الآخرين ما يكتب، تلك اللحظة مهمة لأنه عندها يعتبر ما كتبه جديراً بالقراءة، وأنه يمكن له أن يصمد في وجه قراءات وأذواق أخرى».

ما وراء اللحظة

ولكن ما هو الدافع للتحول من فعل القراءة إلى فعل الكتابة؟. يجيبنا الفهد معتقداً: أن الدافع الأكبر هو محاولة الكاتب معالجة وإنتاج رؤيته الخاصة للنوع الأدبي. مضيفاً: «فهو مع تكرار القراءات وتنوعها قد توصل إلى ذائقة خاصة، تقبل بعض الموضوعات والأساليب، وتنقد وتنبذ موضوعات وأساليب أخرى، فلذا عندما يكتب فكأنه يقول للقارئ: هذه هي الموضوعات وهذه هي الأساليب كما يجب أن تكون».

بينما يرى الروائي مبارك الهاجري: أن الدافع الأول للتحول من فعل القراءة إلى الكتابة هو التحدي. موضحاً: «إنها ردة فعل لتلك الكتابة التي تمسنا في إنسانيتنا وتقع على الجزء الأكثر توهجاً للحديث في أنفسنا، حين نتحول من قراء إلى كتاب، فنحنُ نخوض النهر من ضفةٍ إلى أخرى؛ لكننا لا ننجو لأننا نعلق بين الضفتين، لا ننسى أننا قراء في الأصل وتبتلعنا الكتابة؛ لذا فعملية التحول هذه ليست انتقال وانسلاخ بقدر ما هي امتزاج ونقطة ارتكاز بين الذهاب والعودة».

بحث عن الذات

وترى الروائية الإماراتية: أن «القراءة والكتابة متشابهتان». مضيفة: «الوجه ذاته بقناعين ليس إلا، في كليهما يبحث المرء عن ذاته، عن فهم أكبر وأعمق لكل ما حوله من أسئلة وجودية، عن معنى حقيقي للحياة، لكل شيء. الفرق، أننا في القراءة نطلع على هذه العوالم ونضيف إلى حيواتنا، بينما الكتابة تتيح لنا فعل «الخلق» وإضافة حيوات إلى حيواتهم «هم» كما أضافوا إلينا. كليهما تفاعل مع «الآخر». أما المسرحي عباس الحايك، فيرى بأن دوافع التحول من القراءة إلى الكتابة، قد تكون متباينة من كاتب لآخر. مضيفاً: «منهم من يراها تعبيراً عن ذاته، ومنهم من يراها تحقيقاً لذاته، ولو أدرنا هذا السؤال على كل من يمارس الكتابة لوجدنا التباين جلياً في الإجابات، ولكن سنرى أن تحقيق الذات والتعبير عنها سيختصر الكثير علينا في الإجابة على تساؤل حول جدوى الكتابة». متمماً: «يرى البعض أن الكتابة أثر، لا يرغبون في ترك هذه الحياة دون أثر، ولأن الكتابة حياة فيجدون فيها حياة جديدة تعوضهم أرواحهم عن حياة واقعية مفقودة، كما أنهم يرون في الكتابة بقاء، فلولا الكتابة ما عرف الناس كتاب رحلوا منذ مئات السنوات، فأبقتهم أحياء يمرون من جيل إلى جيل».

بلا فصل

ويعتقد صاحب مسرحية « المزبلة الفاضلة» بأن الكتابة من جهة أخرى يمكن اعتبارها مسألة وجودة في أبعادها المختلفة، فهي تعلن عن ذلك الأثر وذلك الوجود المتمثل بالحالة الإنسانية، وفي بعدها كهوية، فالكتابة لا تفترق عن البشر في وجودهم الفعلي ووجودهم الافتراضي، كما أنها تمثل هويتهم ضمن وجودهم المكاني والاجتماعي والثقافي. لا يمكن الفصل بين الكتابة والإنسان.

بينما يذهب الروائي الهاجري إلى أن الكتابة « عملية تشاركية لأكثر الأرواح وحدة في العالم، الكتابة جسر يصنعه الكاتب ليصل إلى نفسه الأخرى هناك، نفسه التي يجهلها وتمنى مراراً أن يصل إليها. الكتابة إحدى وسائل تحقيق الذات عند طائفة، وهي الوسائل جميعها عند أخرى، أعتقد أن المسألة نسبية هنا، ويرجع الأمر لمدى إيمان المؤلف بفعل الكتابة».

سؤال الندم

وهل يمكن للكاتب أن يندم على لحظة دخول عوالم الكتابة؟، تجيب الروائية الإماراتية بالقول: « إن كان العائد المادي ضمن أولوياته، نعم سيندم للأسف وأيضًا، سيُصدم البعض بقلة الاهتمام وضعف التلقي خاصة من يكتب بشكل حقيقي». مشيرة إلى أن الكثير من الأدباء عانوا من عدم تقديرهم في حياتهم أو بعد رحيلهم بسنين طويلة وذلك لعبقريتهم، الكتابة طريقٌ شائكة ووعرة، من يتوقع سهولة الدرب فقد يُصدم أو يندم أيضًا.

وخلافاً لرأي الروائية الإماراتية، يرى فهد الفهد: «أن كل القرارات يمكن للإنسان أن يندم عليها، ولكني لا أظن أن الإنسان يندم على الكتابة، قد يندم على بعض ما كتبه، أعماله الأولى أو الأخيرة، ولكن ليس على فعل الكتابة ذاته، لأنه لا يمكن أن ينسى كل تلك المتعة التي وفرتها له معالجة النصوص والشخصيات ومساءلتها»..

انتصارات وجيزة

ويعتقد الروائي السوري: أن دخول عالم الكتابة يعيدني إلى خط البداية سابق الذكر، متى ما تمّ الانطلاق منه بحق فإن عليه أن يقود إلى خط بداية آخر، وهنا يمكن الحديث عن عالم كتابة، وهذا معيار -إن صحت الكلمة- متعلق بغياب خط النهاية، والوصول، والظفر، إذ ما من انتصار في الكتابة، ما من حسم، هناك انتصارات وجيزة تفضي إلى صراع جديد والهزيمة وإرادة في أية لحظة، وبهذا المعنى فإن من يتوقف عن الكتابة يكون قد أصيب بشعور الظفر أو الاكتفاء أو التعب، وركن إلى خط نهاية السباق مع الزمن، الزمن أي العمر أيضاً وجهلي بما قد يرميني به».

هل الكتابة إذاً تحقيق للذات، يختم عبدالله حديثنا بالقول: «تحقيق الذات في الكتابة أمر مرتبط بالبدايات والتي تترافق مع أوهام بتغيير العالم، إلا أن ذلك دفعني لاحقاً للرهان عليها بحياتي، أن أعيش لأجلها مثلاً، أن أتجنب أية غواية أو خطوة مهما بلغ بريقها قد تشوش على الكتابة، وهذا كله لا أدّعي فيه «تضحية» ولا شيء من تلك التوصيفات المبالغ بها، بل هو أسلوب عيش نطاقه الحيوي الطاولة».
___
*جريدة الرياض