وليد إخلاصي في آلة الزمن

 

خاص- ثقافات

 

د. علياء الداية * /جامعة حلب

ينطلق وليد إخلاصي في فهمه للزمن من مقولات محددة: “الحياة لها قيمة لا يمكن الإحساس بها إلا من خلال العمل والعمل المبرمج. فأنا بالرغم من مزاجي الفني الذي يتحكم في طريقة تفكيري وطرائق كتابتي المتعددة. فإنني مقيد إلى مفهوم “طاعة الوقت” الذي اكتشفت أن الإفلات منه هو سر من أسرار التخلف. أي أن الخضوع للزمن التاريخي هو التقدم، أما التمرد على الزمن الاجتماعي فهو الفن”(1)، إننا نكتشف أنه مولع بالزمن، وهذا ما يتّضح أكثر لدى نظرتنا إلى مجمل أعماله الأدبية على وجه العموم، وبعضها على وجه الخصوص. فعلى الرغم من طرحه فكرة “طاعة الوقت”، فإنه يفتح باب الفن على مصراعيه حين يتعلق الأمر بمفهوم “الزمن” ليفصل بين الوقت المحدد، والزمن الممتد. الوقت الذي يمكن رصده بالساعة، ودقائقها وثوانيها، والزمن الذي لا تتسع له صفحات كثيرة.

ومع التجريب الذي اشتهر به وليد إخلاصي في أعماله كافة، يمكن أن نلمح بسهولة لجوءه إلى ما يمكن تسميته بـ”لعبة الزمن”، ويمكن أيضاً أن نعاين اهتمامه الواضح بالمكان الذي يتمحور في كثير من الحالات حول مدينته الأثيرة مدينة حلب.

الزمن الحلبي… إبداعياً :

يصرّح وليد إخلاصي في عدة حوارات أجريت معه بارتباطه الوثيق بمدينة حلب، إما على الصعيد المكاني حين يقرّر قائلاً: “نزعة الملكية الوحيدة المتجسدة عندي هي انتمائي للمدينة وللأماكن والناس، لا أستطيع أن أتصور نفسي صاحب منصب في دمشق مثلاً، أو مهاجراً إلى الخليج أو موظفاً في سفارة في باريس”(2)، أو على الصعيد الزمني حين يذهب في شوط بعيد يقف فيه مشرفاً على سهول التاريخ وجباله ومقادير الزمن: “في علاقتي مع حلب نشأ عندي غرور شديد قد يكون عيباً فيّ لأنني أعتبر نفسي الشاهد الدائم على ما يجري في المدينة، وعلى ما بقي منها، وبالرغم من أن مثل هذا القرار لا يحق لي لكنني أصرّ عليه!”(3)، و”الموقف اللاحيادي يبعدني عن خانة المؤرخين الذي نعرفهم بحياديتهم، فأنا لست أميناً على حلب لأني أحبها وأغفر لها كل ما يحدث وسوف يحدث في المستقبل”.(4)

وبين المكان والزمن يقف الحلم برزخاً يصل الوعي الداخلي الباطن بالوعي الظاهر، بالكتابة نفسها: “إن مختبري الداخلي مازال يعمل، وقد لا ألام إذا اعترفت بأن معادلات الكيمياء الداخلية مازالت مجهولة من قبلي. أعتمد كثيراً على أحلام أراها في نومي، وكثيراً ما تكون الكتابة هي الشكل الشرعي الوحيد لممارسة حريتي الشخصية”(5)، فـ”الفكرة تخرج مع شكلها دون تفكير… وأن أراها في الحلم يعني أنها في ذهني منذ فترة طويلة، وتأتي بشكل غير معقول والكتابة تعقلنها، أراها بتفاصيلها وتقول لي اكتبني”(6)، فالأحلام طالما كانت مكوّناَ من مكونات السيرة الذاتية لدى أدباء كثر(7)، ولكنها عند إخلاصي فسحة للإبداع نفسه.

كثيراً ما يُنظر إلى المدينة نقدياً في تجليها الإبداعي على أنها مكان للضياع والخيبة والألم، وأنها على تضاد مع انطلاق الإنسان، وأنها تعيق قدرته على التكيف نظراً لبعده عن الطبيعة أو لانغماسه في المشكلات والأزمات الاجتماعية.(8) إن حلب بوصفها عاملاً مكانياً لدى وليد إخلاصي لا تبتعد كثيراً عن هذا الطرح، إذ نجد لديه شخصيات مأزومة إلى جانب المكان المأزوم، غير أنها تمتاز لديه بتفاصيل وجزئيات صغيرة تعدل الكفّة، لتغدو الحارة والقلعة والبيت والمقهى، أمكنة أليفة يأنس بها بطل القصة أو الرواية، وحتى السيرة الذاتية، فتمحو شيئاً من اليأس الذي يزرعه الزمن أو سيرورة التاريخ وأحداثه الدامية أو المهيبة.

وانطلاقاً من فكرة التجريب الزمني لدى وليد إخلاصي، نجد أنه يحتفي به على نحو خاص في كل ما يدور معه من أحاديث حول تجربته الإبداعية، فيأخذ محاورَه وقارئه في رحلة عبر الزمن، أحياناً بالترتيب منذ الطفولة عبر الشباب إلى مرحلة الآراء والأفكار حول الواقع والإبداع والحياة، وأحياناً أخرى من فكرة إلى فكرة مختلفة، كل منهما في زمن معيّن.

وعلى صعيد السيرة الذاتية يظهر الزمن المتشعّب والأحداث التي قد تتكرر أو ترد من غير ترتيب معين، كما في كتابه “حلب بورتريه بألوان معتّقة”، فهو يقترب كثيراً من السيرة الذاتية، في أسلوبه وعرض أحداثه التي جرت ذات أيام بعيدة، ولكنه أشبه بمن يركب آلة الزمن، لا لتأخذه إلى الماضي أو المستقبل فحسب، بل لتمزج بين محطات الماضي، ماضٍ قريب تارة، ثم أقرب، ثم أبعد، والنافذة تنفتح في كل محطة ليعاين القارئ مشهداً حافلاً بلقطات بطلها وليد إخلاصي طفلاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم يافعاً…

أما بالنظر إلى قصصه القصيرة، فقد قدّم لنا وليد إخلاصي مفتاحاً مهماً لتصوره الزمني في أحد حواراته: “عندي تحولات كل عشر سنين، في فترة كنت أكتب بالمقهى، لكن منذ عشرين سنة أكتب على ترابيزتي، لا بد أن يكون “البايب” موجوداً حتى لو لم أدخنه، ولا بد أن تكون هناك أقلام كثيرة، ولا أستخدم منها إلا واحداً لا يتغير، وأجلس على الكرسي الذي لا يتغير (غيّرته أخيراً بعد أن صار غير محتمل). أحياناً أكتب ثلاثة أيام متواصلة، وفي سرعة الدفع الأولى لا أنشغل بشيء آخر، وعندما يأخذ العمل إيقاعه أستطيع أن أخرج منه وأدخل إليه”.(9) ومع أنه ربط هذه التحولات بالمكان المحرّض الإبداعي، فإنه مرتبط بالزمن وطبيعة معالجته قصصياً بما لا يبتعد عن مفهوم الفانتازيا أو التخييل الذي بات راسخاً لديه. فمن خلال معاينة قصصه ومجموعاته نلحظ في عقد الستينات فانتازيا القصص الشعبي، كما في قصّتََي “الأفعى وأيام الحرب” و”دماء في الصبح الأغبر”، وفي عقد السبعينات فانتازيا الحكاية المتخيَّلة، كما في “مساكن للعصافير”، وفي عقد الثمانينات ثمة الفانتازيا التاريخية والاجتماعية كـ”الميوا تاء” و”ليلة الكلب المرحة” و”أيها القادم الجميل” و”مجنون القصر” و”خميس الأصدقاء” و”شجرة جوز لهذا الزمن”. أما عقد التسعينات فينحو إلى الفانتازيا الرمزية، كما في “نافذة في القطار” و”دمية عالقة في الشجرة”، يترك فيها للقارئ أن يستنتج ما يجري في ذهن بطل القصة وما يعايشه.

إن كل القصص السابقة تحتوي على المكان الحلبي، الذي قد يمثّله شارع أو مجموعة حارات قديمة، أو حيّ كـ باب جنين (باب الجِنان)، أو نهر قويق، أو قلعة حلب المعلَم الأشهر فيها عبر العصور، أو أحد مساجدها كـ جامع الأُطْرُوش، أو مقاهيها كـ مقهى القصر. وتمتد هذه الأمكنة لتفرش بظلالها على أسلوب الكاتب في العقد الأول من الألفية الثالثة، حيث نجد على سبيل المثال نصّه “تخريفات حلبية” الذي يتخذ أسلوب الحكاية أكثر من القصة، ويتوزّع فيه البطل السارد بين الزمن والأمكنة المتحولة فيه ضمن المدينة الواحدة “حلب”، مع تساؤله وهو يحاول حل أحجية الموت التي تشغله على مدار الصفحات. وهذه الحكاية نفسها تم تضمينها لاحقاً في كتابه “حلب بورتريه بألوان معتقة” لتأخذ حيزاً بين مثيلاتها من النصوص السيرية المتنوعة، إن إخلاصي يقرّر: “أعترف بأمر واحد وهو نظرية (الحكاية) والحكاية هي أكثر الأساليب إنسانية في ربط البشر ببعضهم، وفي نقل المعرفة من طرف إلى طرف، وفي تحفيز الروح للبحث عن الحقيقة، وأخيراً في خلق الوسط الكيميائي الجمالي لدى الآخر”.(10)

حلب… وألوانها المعتّقة :

يذهب وليد إخلاصي في “حلب بورتريه بألوان معتّقة” إلى حارات مدينته، وإلى حارات سيرته الذاتية الموسّعة، فبدءاً من العنوان تتصدر حلب الجملة، ثم يمتزج المصطلح الأجنبي للصورة الشخصية “بورتريه” بالمعتّق القديم الأصيل، مقترناً بالألوان التي تدل بوصفها كلمة مفردة على ألوان طيف كثيرة، لكنها في العنوان معتّقة تترك لحلب ألق الحضور ببهاء حروف اسمها، ليرسم وليد إخلاصي عملياً لوحتها التي يهوى داخل صفحات كتابه.

إنه يجعل للكتاب مقدمة وخاتمة تزخران بأسلوب حكائي، يشكّل الأوّل مدخلاً إلى المدينة من جهة وجدان الكاتب يختتمه بعبارة الحكواتي الشهيرة “تلك هي الحكاية باختصار يا سادة يا كرام”(11)، أما الثاني ـ الخاتمة ـ فهو يشبه جولة قطار في المدينة عبر تاريخها، وأهم الشخصيات التي مرت في حياة صاحب السيرة الذاتية، ثم في حياة المدينة. وما بين المقدمة والخاتمة يقوم الكاتب بنزهته مع آلة الزمن، مستفيداً من تقنيات الحكاية ولعبة الكلمات وأرضية المكان، فلا يتبقى سوى الزمن الذي تتوالى محطاته دون تعاقب محدد، فينتقل وليد إخلاصي من استقلال سوريا عن الانتداب الفرنسي عام 1946، إلى التصورات الشعبية حول الأولياء، والأحداث الروحية، ثم يعود إلى طرفٍ من السياسة لدى حديثه عن صديقه الفلسطيني منذ طفولته حتى تلقيه نبأ مصرعه شاباً، ليستعيد سحر المكان حيث حيّ الفرافرة المرتبط معناه بالعصافير والطيور، ثم ينتقل إلى صنف آخر من الحيوانات وهي الحرادين، وما كان يشاع بين الأطفال من أن دماءها تقي الأيدي من ألم الضرب. يتجول وليد إخلاصي من باب جنين حيث مسكنهم القديم، ليعبُر سكة الترامواي إلى البيت الذي قطنه لاجئون من السودان يبيعون الفستق السوداني، ليقفز إلى سيرة النسيمي والسهروردي ومقاميهما في حلب، ثم يتحدث عن الاستقلال من جديد وعن أفول نجم اللغة الفرنسية. ولا يُغفل الحديث عن مدرسته في المرحلة الابتدائية المدرسة الحمدانية، حيث ذكرياته مع الأساتذة والأحداث البارزة وصراعات المدينة والطلاب، ليربط القارئ مذكّراً إياه بالعصر الحالي عام تأليف الكتاب 2005 حيث المحطات الفضائية.

وفي معرض الحديث عن مدرسة التجهيز الأولى في حلب التي أصبح اسمها مدرسة المأمون لاحقاً، قد يذكر بعض القراء من مثقفي المدينة وأصدقاء إخلاصي أن مكتبه كان لفترة من الزمن على بعد أمتار قليلة من مدرسته السابقة.

وتستمر صفحات حلب في اجتذاب القارئ، فمن الأحزاب بعد استقلال سوريا، إلى حيّ الجَلُّوم والعلاّمة خير الدين الأسدي الذي تُروى حكايات حول وجهة نظره في امتحانات الطلاب، وذهابه للتنقيب عن كهوف المدينة القديمة، وارتحاله مسافراً إلى مدينة طشقند للبحث عن أصل حلوى الهيطلية وصحونها وملاعقها الشهيرة. ويصل إخلاصي في صفحاته إلى دار الكتب الوطنية في باب الفرج، ثم يعود إلى طفولته ويكشف عن أماكن وفعاليات متجاورة في المدينة الواحدة، من مثل سوق الجمعة، والمكتبات، والسينما. ويطيب له أن يسرد حكاية حادثة العطب الذي أصاب طائرة فهوت أثناء الحفل فوق الحشود التي كان قريباً منها؛ ويختتم بالحديث عن جامع الأطروش وغيره من المعالم والشخصيات.

فانتازيا الحكاية والقصة:

يميل التجريب الزمني لدى وليد إخلاصي نحو فانتازيا القصص الشعبي، كما في قصة “دماء في الصبح الأغبر” 1961، حيث تتراءى التصورات الطفولية التي تجرّ الأولاد إلى عواقب مؤلمة ومعذّبة لهم. فالطفل راوي القصة يتمكّن من اجتياز خندق القلعة وتسلّق صخورها على الرغم من النباتات الشائكة والأحجار الناتئة ليحقق بطولة بين أقرانه، أما صديقه الفلسطيني، فلم تمكّنه ساقه الخشبية من اجتياز الخندق، وكان نصيبه الوقوع فيه قريباً من حالة الموت، مثيراً أسى جميع من وصلوا إلى المكان وشفقتهم. وكغيرها من القصص وبعض أجزاء السيرة الذاتية للكاتب، تعصف الأسئلة بذهن الطفل دون إجابة، فمَن يسكن القلعة؟ إنهم قدامى حلب، لكن لا أحد يعرف من هم بالتحديد. ويزعم بعض الأطفال أن جدّه كان يسكنها: “وأتدخل مجيباً: إنها تلة وبنوا عليها قلعة، إنها قديمة. ويقول الثالث واثقاً: سكنها آدم عليه السلام، وشرب إبراهيم فيها اللبن من بقرته. جدّي كان يسكنها أيضاً!”(12) أما الأستاذ فهو لا يجيب: “وحين كنا نلجأ إلى أستاذ التاريخ نسأله الحقيقة، كان يهدد بوضع صفر لكل من يتدخل فيما لا يعنيه”.(13) من هنا تبدو علاقة متأزمة بين المكان الواضح “القلعة” والزمن الغامض “تاريخ المدينة”.

أما قصة “مساكن للعصافير” 1972، فهي أقرب إلى الحكاية المتخيّلة، حيث يجيز السارد لنفسه أن يجعل العصافير تتكلم وتتحاور مع إدارة الحديقة وجباة المال فيها، إلى جانب الأطفال والأمهات؛ “أما الأطفال فقد تساءلوا عن سر التعاسة المقيمة، وتوجّه بعضهم إلى شجرة سرو هرمة يطلب أجوبة لكل سؤال يدور في رأسه، فقصّت الشجرة عليهم كل الحكاية وكيف أن العصافير اضطرت إلى الهجرة لأنها لا تملك مالاً تدفعه أجرة لأعشاشها الصغيرة”.(14) والمهم في هذه القصة هو انفتاح أفق المستقبل أمام الحياة والأطفال والعصافير، حين يجمعون المال، ويعود ما تبقى من العصافير لمتابعة الحياة، إنها الحياة التي لم يفهمها الكبار أو يتعاطفوا معها.

يعود إخلاصي في فترة الثمانينات إلى أسئلة الماضي، والتاريخ على وجه الخصوص، فبعد الطفولة والمستقبل في العقدين الماضيين، تنطوي قصة “خميس الأصدقاء” 1981 على الماضي حيث تاريخ المدينة الدامي الذي تعكسه صورة “جامع الأطروش” المعلّقة أمام سارد القصة. لقد شهدت مدينة حلب العديد من الزلازل الطبيعية في تاريخها، ولكن بطل القصة يربط بين الزلزال الحقيقي أو الهزّة الأرضية الخفيفة، برعب التاريخ والدم، الماضي الذي يشكّل كابوساً وحلماً مريعاً يصادف أن تراه أكثر من شخصية في القصة على التتابع، من البطل إلى صديقه كمال، ثم وحيد، ثم سعد، على اختلاف صفاتهم ومجالات أعمالهم. إن مخاوف الزمن تمتد إلى الجميع ويدخلون في حال عبثية من التأمل الذي يترك المجال فيه للقارئ في النهاية، فلعبة الزمن لا تكتمل.

أما القصة في عقد التسعينات الذي يسبق قصة “تخاريف حلبية”، وكتاب “حلب بورتريه بألوان معتّقة”، فهي “نافذة في القطار” 1991، وتشكّل حالة نموذجية للزمن المؤطّر بقطار، وتكون الفتاة الشابة التي يراها بطل القصة عبر نافذة القطار عيّنة من سير الحياة الذي يؤثّر فيه الزمن. إن بطل القصة لا يعي أنه متغيّر أيضاً، بل يحسب أنه في رحلة قطار اعتيادية كرحلاته السابقة المألوفة عبر العالم: “ما أكثر المرّات التي ركبت فيها القطار، حلب ـ اللاذقية. ميلانو ـ زيوريخ عبر جبال الألب التي يصلّي ثلجها لسماء مغلقة. باريس ـ الهافر. موسكو ـ ليننغراد والثلج الوضّاء في عتمة ليل بارد. ونترتور ـ برن. دنفر ـ سلولت ليك سيتي وصحارى الملح المنبسطة تعقب جبال الهنود الحمر العالية. قطارات وذكريات ووجوه عابرة لا تذكر منها سوى العيون المتطلعة إلى وصول عاجل. أنهار وغابات، غيوم تلهث راكضة، أحلام تعيد الشباب إلى الطفولة وتهرع بالكهولة إلى الأمل”(15)، ويقرر بأن ما يراه من النافذة خاضع لقانون الحركة النسبي فـ”المتعة في القطار أنك تكتشف الحركة على حقيقتها، الأشياء الجديدة… اللحظات الجديدة… القطار يطوي المسافات وتتعاقب الطبيعة والمدن. شجرة، حقل من الأزهار البرية، أعمدة الكهرباء والهاتف تختفي لتظهر، أبقار تتهادى متفاخرة بضروع ملآنة بالحليب، سرب من الطيور يهاجر عكس الرحلة”.(16) غير أن دهشته تتسع لتصل إلى مرحلة اليقين بحركة الزمن حين يلمح فتاة شابة، ثم يستوعب في المرة التالية أنها نفسها المرأة الحامل، ثم هي المرأة مع الطفل الصغير، وأخيراً فهي تظهر بشعر شائب، ليبدأ القارئ في تجميع أجزاء اللوحة من حول بطل القصة، بين فنجان القهوة الساخن، فالبارد، فالطاولة وقطار الزمن الذي يمضي، وتمضي معه عقود الزمن يوثّقها الإبداع بمراحله لدى وليد إخلاصي.

******

الهوامش:

(1) مواجهات نقدية ولقاءات، المجلد الحادي عشر، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص399

(2) المصدر السابق، ص128

(3) المصدر السابق، ص129

(4) المصدر السابق، ص363

(5) المصدر السابق، ص175

(6) المصدر السابق، ص354

(7) ينظر: ترجمة النفس ـ السيرة الذاتية في الأدب العربي، تحرير: دُوَيْت راينولدز، ترجمة: سعيد الغانمي، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، الطبعة الأولى 2009 ، ص133

(8) ينظر: المدينة الضحلة ـ تثريب المدينة في الرواية العربية، د. صلاح صالح، وزارة الثقافة، الهيئة العامة السورية للكتاب، دمشق، الطبعة الأولى، 2014 ، ص9

(9) مواجهات نقدية ولقاءات، ص355

(10) المصدر السابق، ص329

(11) حلب بورتريه بألوان معتّقة، وليد إخلاصي، دار نون4 ، حلب، الطبعة الأولى،2006، ص9

(12) الدهشة في العيون القاسية وقصص أخرى، المجلد الخامس، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص92

(13) المصدر السابق، ص93

(14) المصدر السابق، ص191

(15) خان الورد وقصص أخرى، المجلد السادس، وليد إخلاصي، دار عطية، لبنان، الطبعة الأولى، 2009 ، ص323،324

(16) المصدر السابق، ص323

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *