“جاز الفيزياء”: محاولة جديدة في فهم الكون

*جعفر العلوني

فلتتخيلوا معي هذا المشهد: سمكتان تتحدثان مع بعضهما في نهر وهما تقتربان من هاوية شلال. يسافر كلام كلٍّ من هاتين السمكتين بسرعة الصوت في الماء، وهو أمر ليس سيئاً بالنسبة إلى ما يمكن أن نتوقعه من حديث تلك الأنواع المائية. السمكة الأكثر حظاً بينهما تتمكن من التشبث بين جذور زنابق الماء، في حين تنجرف السمكة الأخرى نحو الشلال على نحو مشؤوم. بالرغم من هذا يستمر الحديث بين السمكتين دون أية عقبة؛ فصوت السمكة العالقة في زنابق الماء يصل بمساعدة تيار الماء، وصوت السمكة الأخرى التي حُكم عليها بالانجراف نحو الشلال يسافر عكس التيار ويتأخر أكثر في الوصول إلى السمكة الأخرى، لكنّ، بالرغم من ذلك يستمر الحوار. فجأة، وفي اللحظة نفسها التي تتجاوز فيها السمكة الثانية منحدر الشلال، يتغيَّر الموقف بشكلٍ جذريٍّ. فالسمكة التي وقعت باتجاه هاوية الشلال تستمر بسماع صوت السمكة الأخرى العالقة بين زنابق الماء، في حين أن صرخات النجدة التي تطلقها لا تصل إلى مسامع صديقتها، ذلك أن السرعة التي تتساقط فيها مياه النهر أكبر من سرعة الصوت، وهكذا تختفي السمكة المسكينة عن عالمها بشكل كامل.

إذا غيّرنا سرعة الصوت ووضعنا مكانها سرعة الضوء، فإن هذه القصة الصغيرة ستكون الاستعارة المثالية للثقب الأسود، ذلك الشيء الأكثر غرابة وغموضاً الذي اكتشفه العلم إلى يومنا هذا. إن منحدر الشلال سيكون مشابهاً لـ “أفق الحدث” للثقب الأسود، أي، الحد الذي يقع عنده أي شيءٍ على الإطلاق، سواء أكان سمكة أم رجلاً أم مادة أم طاقة، فإنه سيقع لا محالة بسرعة كبيرة نحو الجاذبية القاتلة للثقب الأسود بحيث لا يستطيع الهرب بعد ذلك أبداً. حتى الضوء نفسه لا يستطيع الهرب، ومن هنا كان هذا الاسم: الثقب الأسود.

إن هذه الصورة الأدبية والاستعارة هي مجرد واحدة فقط من بين الآلاف التي يصوغها ستيفون ألكسندر Stepon Alexander، فيزيائيٌّ وعازف سكسفونٍ، في كتابه: “جاز الفيزياء”، الصادر مؤخراً عن دار نشر Tusquets الإسبانية ضمن سلسلتها العلمية Metatemas الشهيرة. غير أن هذا المثال ليس له علاقة بموسيقى الجاز إلا من حيث الصوت، ولكن هناك دافعاً أكثر صلابة لذكر مثل هذا المثال وهو: أن التشابيه والاستعارات بالنسبة للفكر عموماً، وللفكر العلمي خصوصاً، لا غنى عنها من أجل فهم الكون، فهي تفسّر بوضوح كامل أفق الحدث بالنسبة للثقب الأسود، وهو كما قلنا واحد من المفاهيم العصيّة على الفهم.

إن العاشق لموسيقى الجاز وللفيزياء، سيقع عند قراءة كتاب يحمل هذا العنوان بجاذبية مشابهة لتلك الجاذبية الموجودة في الثقب الأسود، وستجعل عقله يحلّق من أجل الوصول إلى حدود الكون. غير أن الجاذبية الكبيرة الموجودة في هذا الكتاب، لا تؤثر على عاشقي الجاز والفيزياء فحسب، وإنما على أولئك الذين يفضّلون واحدة على الأخرى، أو على أولئك الذين لا يحبون الفيزياء ولا الجاز، ولكنهم سينجذبون مجبرين إلى هذا العمل جراء التأثير الكبير للعلاقات الغامضة بين التخصصات المختلفة، حيث تبرز الطاقة الإبداعية الهائلة للاستعارة. من هنا يمكننا أن نصف هذا الكتاب بأنه عمل شعري – علميّ بامتياز.

نادراً ما يهتم العلماء بالاستعارة، وربما هذا ما دفع الفيلسوف الإسباني خوسيه أورتيغا أي غاسيت José Ortega y Gasset، إلى تمجيد الاستعارة ووصفها بالعنصر الوحيد الذي يقودنا إلى الموضوع الجمالي- إلى الحقيقة، يقول غاسيت: “هناك إهمالٌ غير مبرر من قبل بعض العلماء للاستعارة لاعتقادهم أنها ميدان لم يُكتشف بعد (Terra incognita)، ولكن الاستعارة هي أعظم قدرة خصبة يملكها الإنسان. فعاليتّها تصل إلى حدود صنع المعجزات، وهي تبدو كأنها أداة خلق تركها الله في مخلوقاته منسية، على نحو ما ينسى الجراح شارد الذهن أدواته في بطن المريض. إن كل القدرات الخصبة الأخرى التي يملكها الإنسان تبقينا داخل إطار الواقع، والشيء الوحيد الذي يمكننا القيام به هو إضافة، أو حذف، بعض أشياء هذا الواقع، وحدها الاستعارة تسهّل علينا مهمة الهرب وتخلق بين الأشياء الحقيقية رفوفا خيالية، مثل جزر لا تخضع لقوانين الجاذبية”. من هنا جاء ستيفون ليغطي هذا النقص الذي يعانيه العلم، وإذ به يستخدم الاستعارة لفهم بعض الألغاز الأكثر ديمومة في الفيزياء المعاصرة، وفي علم الكون.

وهكذا، انطلاقا من التشابيه القديمة، من بين أمور أخرى، والتي أكد عليها كل من فيثاغورس وكلبر، فإن الكون يخفي أجزاء متناسقة، من هنا جاء الأستاذ في جامعة Brown، ألكسندر، المولع بالعزف على الساكسيفون، ليدخل مفاهيم موسيقية جديدة على هذه القياسات مثل: “إيقاع، تناغم، نسب، ارتجالية، موسيقا، لحنيّ”، لترافقنا هذه المفاهيم الموسيقية واستعاراتها عبر رحلة تنطلق مع بدايات الكون لتنتهي بنا في أقاصي التوسعات الكونية. وهكذا بينما تكشف أمامنا نظرية الأوتار الحديثة هذه عن عالم جزيء مهتز باستمرار، يرى علماء الفلك أن كوننا هذا يتمدد وينكمش في دورات تشابه التراكيب الموسيقية.

غير أنَّ “جاز الفيزياء” ليس مجرد عنوان كتاب جذابٍ فحسب، وإنما هو كتاب يستجيب لكثير من التوقعات؛ فألكسندر هو فيزيائي نظري بحت تدرب مع أفضل العلماء، كما أنه أستاذ في جامعة Brown، إضافة إلى كونه عاشقا مولعا بالجاز وعازفا على الساكسيفون. إن شغفه الموسيقي هذا وتعمقه في البحث عن الحقيقة يعودان إلى كل من عازف الجاز الأمريكي الشهير جون كولترين John Coltrane وألبرت آينشتاين. فعندما يغرق المبدع بعمق في اختصاصين مختلفين، فإنه ليس من الغريب أن يخلق لنا الاستعارة؛ صلة الوصل الخفية والنافذة بين أنواع المعارف، والتي كانت تعتبر سابقاً غير متناسقة مع بعضها. هكذا كان آينشتاين وكولترين وغيرهما من عباقرة التاريخ، وهذه هي خدعة الابتكار والاكتشاف لخلق الفكر، فالالتزام في تخصص معرفي واحد هو فخ أمام المبدعين، ومن هنا كان لا بدّ من هدم الحدود بين أنواع المعارف شتى.

“كنت أقرأ كل ما يقع بين يدي عن الفيزياء”، يعترف ألكسندر ويتابع: “لقد أعانتني هذه القراءة على الهرب من واقع كئيب كنت أعيش فيه. هذا الواقع هو ترينيداد Trinidad. لقد قضيت سنوات حياتي الدراسية وأنا أشعر أنني منفي في هذا المكان”.

من الغريب جداً أن في مركز ذلك المنفى كان هنالك شابٌ يقضي وقته وهو يفكر في الإجابة عن السؤال الآتي: لماذا يوجد شيء بدلاً من اللا شيء؟
_______

*ضفة ثالثة.

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *