أكثر من مجرد شجرة … “في فرضيات اللاتسامح”

خاص- ثقافات

*عبدالله الحميدي

I

 يصف لوكلير فكرة التسامح في أوروبا بأنها ولدت من رحم الصراع السياسي والطائفي أكثر من كونها نتاج تأمل نظري صرف، فخيار التسامح كان خيارا سياسيا في الأساس قبل أن يكون خيارا أخلاقيا وفكريا، في وقت كان الجميع في القرن السابع والثامن عشر منهكا بسبب الحروب الدينية والطائفية. فالتعددية الدينية والمذهبية الهائلة التي بدت تتكاثر بشكل كبير وواضح منذ الإصلاح الديني في القرن السادس عشر قد واجهت معضلة في إيجاد صيغه للتعايش مع الآخر المختلف – دينيا –. كان ومن ثم كان التسامح قائما على عدم القدرة على فرض الانسجام الديني أكثر منه على القبول بالتعددية الدينية.

مع ذلك ومن وجهة نظر دينية وسياسة استمر النظر إلى مفهوم التعددية الدينية ومن ثم التسامح كتهديد لكل من الدين والسياسة على السواء. فكانت قرارات التسامح الديني آنذاك جزء لا يتجزأ من سياسة ” استراتيجية طويلة الأمد لاستعادة الوحدة الدينية” 1  فبالنسبة للدين كان القبول بالتعددية الدينية يعتبر خيانة للدين ذاته. لذا كان من المفهوم أن تكون النزعة التسامحية التي بدت عند كبار المصلحين في التيار الإنسانوي قد استمرت في النظر إلى الاختلاف بوصفه خطيئة، غير أنها خطيئة لا بد منها، مقارنة بالبديل الأخر المتمثل في استمرارية النزاعات والحروب. ومن ثم سعيها لحل معضلة الاختلاف – المذهبي – هذا منصبا في توسعة مفهوم الدين ليشمل جميع الفرق المختلفة من خلال إيجاد أساس ديني مشترك يسع تلك التعددية الدينية والطوائفية، وهي المحاولة التي نظر إليها البعض على أنها مجرد تفريغ للدين-المسيحية-من مضامينه الأساسية، لصالح تحقيق الوحدة الدينيه2. مع ذلك استمر النظر إلى مفهوم التسامح كمصطلح ذي دلالات سلبيه عند كثيرين حتى بين أولئك الذين كانوا يروجون له. إلا أنه وفي أواخر القرن السابع عشر بدا المصطلح يأخذ دلالاته الإيجابية بالتحديد عند كل من بيير بايل ولوك وفولتير من خلال كتاباتهم حول التسامح. وخصوصا عند بايل والذي كتب في العام 1686 كتابه ” تعليق فلسفي حول كلمات السيد المسيح ” أرغمهم على الدخول”3 حيث كان من أوائل الكتابات في اللغة الفرنسية – على الأقل – والتي تناولت مفهوم التسامح حول الاختلاف الديني بشكل أكثر إيجابيه. وهي المقاربة التي ستجد صداها عند جون لوك في ” رسالة حول التسامح ” 1689 و فولتير ” رساله حول التسامح بمناسبة مقتل جان كالاس” 1763

 أما بالنسبة للسياسة فقد كانت تقوم في مجملها على المماهاة ما بين الوحدة الدينية والسياسية. فلم يكن الأفق السياسي قادرا حتى ذلك الحين أن يتصور ذاته من دون هوية دينية واحده. ومن ثم لم تكن التعددية الدينية شأناً فرديا أو ميتافيزيقيا فحسب، بل كانت تحمل في طياتها تهديدا جديا لوحدة الدولة. فكان الحفاظ على هذه الوحدة الدينية عملا يقع في صميم السياسة.  فالخلاف الديني كان صيغة أخرى للخلاف السياسي، من ثم كان الحل قائما على أساس الوحدة الدينية والسياسية ” دين واحد، ملك واحد”. وهي الصيغة التي تمت ترجمتها في معاهدة أوغسبورغ 1555 *4 ، الأمر الذي يفسر كيف كان تسيس الدين أمرا لا مفر منه في ظل تصور سائد من أن السلام المدني غير ممكن التحقق إلا في ظل فرض ديانة واحدة لكل الدولة، بيد أن العبء السياسي والديني لتسيس الديني كان ثقيلا بالنسبة لكثيرين، ما جعل التطلع إلى صيغة للتعايش والتسامح أمرا ملحا.

 كانت يوتوبيا توماس مور ( 1478- 1535 ) أحد أهم الأعمال الأدبية والفلسفية التي عكست هذا التوق إلى التسامح في ظل مجتمع ذا تعددية دينية ومذهبية، وهي ككل يوتوبيا تعكس فشل الواقعي والتاريخي عن أن يلبي الطموح الإنساني المنشود. ومن ثم كانت تتضمن نقدا ضمنيا لهذا الواقع وتعريته وفضحه من خلال إبراز نقيضه. فلم تكن الحرية الدينية التي يتمتع بها سكان يوتوبيا عند مور مجرد حل لابد منه لحسم الخلافات والنزاعات التي كانت سائدة فيما بينهم “  إذ يكفل القانون لكل شخص حرية اعتناق الدين الذي يريده، ويُسمح له بدعوة الآخرين إلى دينه، بشرط أن يؤيد الدعوة بالمنطق بهدوء ووداعه، وألا يهاجم الأديان لأخرى بمرارة إذا لم تنجح حججه، وألا يستخدم العنف، ويمتنع عن السب، فإذا ما عبر عن آرائه بعنف وحماس متطرف، عوقب بالنفي أو بأن يصبح عبداً” 5  بل ثمة أبعاد دينيه لذلك التسامح الديني تتجاوز الاعتبارات السياسية،. فلو لم يكن “الله يريد أنواعاً كثيرة ومختلفة من العبادة” لما أوحى للشعوب المختلفة بآراء مختلفة 6

تجدر الإشارة هذه الطموح للتسامح الديني لم يكن مستحيلا، إذ بدت الإمبراطورية العثمانية مثالا على تحقق يوتوبيا التسامح هذه. إذ دائما ما تتم الإشارة إليها كدليل على إمكانيه التعايش الديني في ظل سلطة زمنية واحدة.7. حيث كانت بمثابة التحقق الواقعي والتاريخي ليوتيوبيات للفكر الغربي آنذاك.

II

تُطرح مسألة التسامح على الأغلب كانعكاس ما بين تعارض إرادات ومصالح ما، ما بين الأغلبية والأقلية. إذ يتم استحضارها كحل وتسويه ما بين اختلاف المصالح تلك. وبسبب الثقل الاجتماعي والديني والسياسي للأغلبية فإن التسامح يبدو أحيانا وكأنه هبه من طرف الأغلبية للأقلية التي غالبا ما يبدو التسامح مطلبا أساسيا بالنسبة لها. غير أنه في كثير من الأحيان يصبح ضرورة سياسية في المقام الأول لتحقيق نوع من السلام الداخلي.

في ديسمبر من عام 2016 حدث أن قام بعض نواب مجلس الأمة الكويتي باستنكار وضع شجرة الميلاد في أحد المجمعات التجارية، الأمر الذي تم على أساسه إزالتها،8 نفس الموضوع حدث في مصر من خلال قيام بعض الأشخاص بتخريب شجرة عيد الميلاد في أحد المجمعات. وعلى الرغم مما كون هذه الأمثلة هامشية مقارنة بالأمثلة الكبرى والتي يتم غالبا ما يتم خلالها مقاربة موضع التسامح كالحروب الأهلية والاضطهادات التي تتعرض لها بعض الأقليات على سبيل المثال، بيد أنها رغم هامشيتها تضعنا أمــام التسامح “في إطار الممارسة اليومية” فضلا عن كونها تمثل ما يمكن اعتباره بذورا غير مرئية غالبا للعديد أحداث العنف الكبرى، ومن ثم يبدو مناسبا تناولها من أجل إثارة تساؤلات عديدة حول التسامح والحرية الدينية.

 لا تكمن الإشكالية في الحدث ذاته بقدر ما تكمن في المبدأ الذي تم على أساسه إزالة شجرة الميلاد وهو يفتح الباب أمام مناقشات أوسع بكثير من إزالة شجره في سوق تجاري. ينطلق هذا المبدأ من ثلاثة مسلمات كلها حسب رأيي تحكم أغلب المنطلقات الأساسية لخطاب عدم التسامح فضلا عن كونها تتناقض مع مفاهيم أساسية لفكرة المجتمع المدني:

 تنطلق الفرضية الأولى من افتراض أن الأغلبية تمتلك الحق في فرض ما تراه مناسبا في المجال العام. ما يعني مطالبه الأغلبية باحتكار المجال العام، وتحديد ما هو مناسب وغير مناسب على أساس كونها تمثل رغبات الأكثرية حول موضوعات معينه. وبالتالي فإن هذه ” الأكثرية” يحق لها  – حسب هذا المفهوم – أن تستخدم القوة في فرض وتحديد المجال العام، لا يقتصر مصطلح (القوة) هنا بالضرورة الإحالة إلى  المعنى المادي للقوة – الاعتداء الجسدي، النفي، الحبس – بل يحيل أحيانا إلى استخدام أشكال أخرى كممارسة الضغط السياسي من خلال الهيئات التشريعية من أجل القيام فيما تعجز الأغلبية عن القيام به في ظل مفهوم الدولة كجهاز يحتكر العنف، من أجل الضغط عليها لتغيير ما تراه الأغلبية موضوعا غير لائق. من المهم ملاحظة أن هذا الإلزام يأتي مناقضا لمبدأ النقاش العقلاني الحر. فالأغلبية حينما تعمد إلى فرض رأيها بالقوة فإنها ترى في التداول العقلاني في حل الخلافات مجرد “ترف” يغني عنه الثقل الأيديولوجي والديني أو السياسي لها. فضلا عن أن اللجوء للحوار العقلاني يستلزم التخلي – نظريا على الأقل – عن استخدام تلك السُلط لصالح الاعتراف بالندية في المجال العام. بالتالي يصبح فرض الرأي من خلال الإلزام خياراً أقل كلفة بالنسبة للأغلبية من وضع “موضوعات الخلاف” رهنا للنقاش العام. في حين يبدو التخلي عن هذا المبدأ واللجوء إلى خيار النقاش العقلاني الحر يشبه التخلي “مكسب مضمون”. والتخلي عن فرصة سيادة ” مجانية”.

يظهر أن مفهوم امتلاك القوة، هو ما يستبطن المبدأ الذي تنطلق منه أي أكثرية في فرض رأيها. إلا أن نفس هذا المبدأ يتيح لأي جهة تمتلك القوة أن تفرض رأيها بنفس الطريقة. كما لاحظ ذلك “مل”. حتى لو كانت هذه الجهة في موقع “أقلية”.

يدرك  أصحاب هذا الرأي أن وضع ” الخلاف ” رهنا للنقاش العام ينطوي في أغلب الأحيان على جعل الحسم في هذا الموضوعات – إن كان ثمة حسم كامل – يستغرق زمنا طويلا. ومن ثم الاعتراف بإمكانية وجود أكثر من رأي حول موضوع واحد. والامتناع عن فرض الرأي بالقوة.

الفرضية الثانية التي تستبطن فكرة المنع تتعلق بالربط بين كل من فكرة السماح والرضى، واعتبار أن الأول يتضمن الثاني. حيث أن السماح بفعل معين يعني تبني وقبول الفعل الذي تم التسامح معه. كانت هذه المسلمة في الواقع قد حكمت جل المواقف التي بدت رافضه للتسامح والتعايش الديني. فقد كان الموقف اللاتسامحي ينطلق في إطار نقده لنزعة التسامح هذه من فكرة مفادها أن ثمة تناقض ما بين رفض موقف فكري أو عملي معين وما بين العمل على السماح له بالوجود وربما الانتشار. ومن ثم يبدو التسامح وكأنه خيانة للدين والمعتقد.

غير أن التسامح إزاء بعض المواقف التي يتم اعتبارها خاطئة لا يعني بالضرورة قبولها واعتباره صائبة بل كل ما في الأمر هو الإقرار بحقها في الوجود بشرط ألا يكون في وجودها تهديد فعلي على الآخرين ومن ثم كان لا أن بد في الواقع من فك العلاقة ما بين كل من السماح والرضى وذلك من خلال تبرير مقاربه أخرى وهي مقاربه أن التسامح لا يعني بالضرورة الرضى بل يتضمن “رفضا” لكنه رفض من نوع معين.

فإذا كان صحيحا القول أن مفهوم التسامح لا يمكن التفكير فيه إلا في سياق “خلاف”، فــإن السعـــي لإزالــة ” الخلاف” يقتضي موقفا سلبيا إزاء ” التسامح”، خاصة إذا ما تم بالقوة.  فلا تسامح من غير وجود خلاف.  إذ يبدو كشرط مسبق لإمكانية أي تفكير في التسامح. إلى حد يمكن الزعم معه بأن تاريخ التسامح نفسه كان تاريخ “خلاف” بامتياز. حيث بدا التسامح كأحد الحلول الأكثر معقولية إزاء الحيلولة دون أن يتحول الخلاف – وكان قد تحول بالفعل – إلى صراع سياسي وديني دموي وسم شطرا كبيرا من التاريخ الأوروبي على وجه الخصوص. بناء على ذلك يصح القول أيضا أن فكرة ” الخلاف” هي الأخرى تتضمن وجود “رفض”. إذ من غير الممكن التفكير في وجود خلاف حول موضوع ما، دون يتضمن ذلك وجود “رفض”، وإلا لم يتأت وجود “خلاف” أصلا.

إلا أن فكرة الرفض التي يتضمنها خطاب التسامح تختلف عنها في خطاب اللاتسامح. بحيث لا تعبر عن نفسها إلا في سياق النقد والنقاش الفكري العام. الأمر الذي يجعل من القيود التي تحكم توجهات وآراء الأفراد ليست سوى تلك القيود التي يفرضها الأفراد على أنفسهم. الأمر الذي يستبعد كل إمكانيه لإلزام الآخرين بالقوة. في حين تبدو المقاربة التي ينتهجها الموقف المناهض للتسامح تنطوي على الربط بين فكرة الخلاف وبين فكرة الرفض باستعمال القوة– بالمعنى العام – لإزالة أو منع ما يعتبر خاطئا. حيث يكون الموقف الوحيد إزاء الأفعال التي يتم اعتبارها خاطئة هو العمل على استئصالها بالقوة.

الفرضية الثالثة التي تستبطن فكرة المنع هي فرضية ابيستيمولوجية*9. تنطلق هذه المقاربة من فكرة مفادها الاعتقاد بأن امتلاك الحقيقة في موضوع معين يفضي إلى وجوب فرضها على الأخرين. فهي يقوم على الاستنتاج التالي صحة فكرة معينة تستلزم فرضها.

 فإذا كان س يعتقد بأن “أ” فكرة صحيحه فذلك يعني أن “س” يجب أن يجبر “ب” على قبولها. بالرغم من عدم وجود رابطه منطقية ما بين امتلاك الحقيقة والتيقن التام منها، وما بين إجبار أو إلزام الأخرين على اعتناقها. بحيث يبدو أننا أمام قفزة منطقية واضحة من فكرة امتلاك اليقين وبين فكرة إلزام الآخرين بها، بيد أن الشواهد التاريخية تأتي لتؤكد على النقيض من ذلك، من حيث أن أولئك الذين يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة علماء كانوا أم عقائديين إنما يفتحون الباب على مصراعيه أمام مأسي بشرية، إلا أننا نجد أنفسنا ملزمين بتفسير هذه القفزة المنطقية، ولماذا كان اليقين مرادفا في كثير من الأحيان للاضطهاد، وابتعادا عن التسامح، وما الذي يجعل الانتقال من اليقين إلى التعصب ممكنا بهذه السهولة. إلى حد اعتبار ادعاء اليقين خطرا بحد ذاتهً؟9

ربما كان في عدم قدرة الموقف اليقيني بموثوقيته المطلقة على خلق فضاء جدي من الحوار والنقاش. هو ما يفسر النظرة السلبية للاختلاف، وهو ما تشير إليه أيضا الكتابات حول تاريخ الاختلاف حيث ظل ينظر إليه على الدوام وحتى وقت طويل بكونه مشكله سياسية ودينيه، إذ يبدو الآخر على الدوام مصدر خطر بالنسبة للموقف اليقيني -أيا كانت تمثلاته، دينيه كانت أم سياسية أم ثقافية -. ومن ثم فإن وجود الآخر المختلف، يمثل بحد ذاته مصدرا مستمرا لطرح الأسئلة، الأمر الذي يبدو كتهديد لأي موقف يقيني. فالأخر يحيل دائما على وجود” اختلاف”، بحيث يمكن القول إن سؤال “الاختلاف” هو ما يثيره وجود “آخر”.

فمكمن الخطورة في “اليقين” هو هذا الفضاء المغلق الذي يجعل منه محصنا ضد أي فكرة أخرى مخالفه، هو ضمير متوحد، لا يمكنه أو التواصل مع الأخر. فهو قادر على سبيل المثال على تجاوز كل الاعتراضات الأخلاقية. ودون أن يقف للنظر إلى الوراء، إنه يشبه ما أطلق عليه ماركيوز ” الضمير السعيد ” 10 وإذا كان مصدر السعادة لهذه الضمير حسب ماركيوز يكمن في أن كل ما هو واقعي عقلاني بالضرورة، وإذا كان هذا الواقع الذي يتناوله ماركيوز بالنقد هو تلك النزعة العقلانية والبيروقراطية المفرطة. فإن واقع الضمير السعيد في خطابات اللاتسامح هو الأيديولوجيا السائدة. إن اليقين المتعالي لها وحصانتها ضد النقد هي ما تجعل منها أمرا مرعبا، خصوصا عندما تتخذ طابعا عنيفا. هذا الضمير السعيد هو من يكفل ليلة هادئة لشخص بعد قضاء يوم كامل قتل أو تعذيب العديد من الأبرياء، إنه يشبه ضمير تلك العجوز التي قدمت حزمة من الحطب للنيران التي كانت تلتهم في حينها المصلح واللاهوتي التشيكي جيروم أوف براغ (1379-1416) 11 بسبب أن سلطة الضمير الأخلاقي عند هذا الشخص قد أصبحت مرتهنة لمقولات وأفكار يقينية غير قابلة للنقض، بل وليس ثمة مجال لنقدها

فالبساطة والوضوح التي تسم فكــرة ” اليقين” تجعل من غير الممكن طرح مسألة احتماليه أن نكون على خطأ، ومن ثم فإنها تقطع الطريق على أي محاولة تواصليه حقيقيه مع الآخر إذ أن هذه التواصلية تفقد قيمتها بمجرد عدم تبني فرضية احتماليه الخطأ هذه، إذ أن التساؤل حول مدى مصداقية رأي معين يعد ضمانه لاتخاذ احتياطات كافية، ربما، قبل وضعه موضوع التنفيذ. ثمة أمر أخر يترتب على خاصية “الوضوح”، فهذه الخاصية الكامن في كل نزعه يقينيه هي ما يعطي لفكرة الإلزام هذه ثقلها، بحيث تفرض على معتنقها ما يشبه أن يكون واجبا أخلاقيا يتمثل في “إلزام” الشخص فرض ما يعتبره يقينيا على الآخرين، بحيث يفضي تجاهله إلى ما يشبه أن يكون “أزمة ضمير” بالنسبة للشخص. 12

وعليه كانت القدرة على الشك وطرح الأسئلة ترياقا  للخطر الذي يمثله اليقين المعرفي، وهذا ما حدا باللاهوتي الأنسني الفرنسي سباستيان كاستيليون 1515-1563 أن يقدم مبررات مهمة للشك ” فالآفات الناجمة عن عدم الشك لا تقل سوءا عن تلك الناجمة عن عدم الإيمان حيث يجب الإيمان… ولو عرف الإسرائيليون الشك لما قتلوا هذا العدد الكبير من الأنبياء والرجال القديسين”13   ففضيلة الشك هذه هي ما حاول خطاب التسامح ولا زال وعلى الأخص في القرن الثامن عشر والتاسع عشر إعادة إنتاج نفسه على أسس ابيستيمولوجية، من خلال ملاحظة أن قصور المعرفة البشرية وعدم قدرتها على الوصول الى الكلمة النهائية في شتى موضوعات المعرفة يقتضي التسامح مع الاختلافات الناتجة عن هذا القصور البشري. فضلا عن أن التعددية في الآراء التي يتيحها التسامح توفر الفرصة لتطوير المعرفة وتفادي ما يلحق بها من قصور. بيد أنه إذا كان الشك فضيلة “أخلاقية” عند كاستليون ودعاة التسامح في القرن السادس والسابع عشر، فإنه سيصبح منذ القرن الثامن عشر فضيلة “علمية”، خصوصا بعد الفتوحات العلمية الكبيرة التي رافقت انهيار النماذج العلمية والفلسفية القديمة والتي كانت بمثابة السلطة المرجعية الوحيدة، ذات القول الفصل في أي موضوع من موضوعات المعرفة. إذ جعلت هذه الهزه الابستيمولوجيه الذهن البشري أكثر حذرا في الادعاء باليقين المطلق. لتصل زعزعة اليقينيات هذه ذروتها في القرن العشرين حسب بروفنسكي 14

كان التأسيس للتسامح الأخلاقي وفق هذا المنطلق يتم من خلال ملاحظة الفرق بين المعرفة العلمية والمعرفة الأخلاقية والإنسانية على وجه العموم. فما يميز المعرفة العلمية هو كونها مفتوحة للجميع، فإذا ما قام أحد العلماء باكتشاف علمي معين فإنه يقوم بكل بساطة بتدوين تلك التجربة بحيث يمكن لأي شخص آخر يملك الوقت الإمكانيات الكافية أن يعيد التجربة ليصل إما إلى نفس النتيجة أو يثبت خطؤها. في حين تبدو في الفرضيات الأخلاقية والدينية عموما غير قابله لنفس التحقق العلمي بحيث تبدو غير مفتوحة للجميع لإمكانيه اختبارها. الامر الذي يجعل ادعاء اليقين الأخلاقي فيها ليس أمرا خاطئا وحسب بل ذو تبعات كارثيه فيما يخص العلاقات الإنسانية عموما. وهو ما يجعل من التسامح مع الاختلاف ضرورة أساسيه في مثل هذه الحالة. 15

  • Divided by Faith: religious and the practice of toleration in early modern europ”, pp 143 Kaplan, Benjamin

كذلك يبدو مهما ملاحظة أن المراسيم التي كانت تدفع نحو التسامح الديني، بما فيها مرسوم نانت 1598 كان يطلق عليه رسميا مراسيم ” تهدئة” وليست مراسيم للتسامح.

  • عبرت عن هذا النزعة التي تحاول تأسيس الدين على مبادئ أخلاقية عامه واعتبار وتهميش المضمون الحرفي للكتاب المقدس. عن نفسها من خلال كتابات عديده أبرزها لها عند غاسبار شفنكفيلد- دافيد جورس . أنظر لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة جورج سليمان، 2009، ص 149-219

  • جدير بالذكر أن هذه الآية التي وردت في لوقا 14:23 قد شكلت ركيزة عند البعض في تبرير الاضطهاد الديني بدعوى حماية الدين من الهراطقة من جهة ومن جهة بدعوى تخليص الهراطقة من بدعهم بدعوى المحبة، كان القديس أوغسطينوس في سياق جداله مع الدوناطيين قد حاول أن يجد في هذه الآية مبررات لاستخدام السلطة الزمنية لقمعهم واستئصال بدعتهم من حيث أن ثمة اضطهادان تعسفي وآخر عادل ، فأما الاضطهاد التعسفي فذاك الذي يلحقه الهراطقة بكنيسة المسيح، وأما الاضطهاد العادل فهو ذاك الذي تلحقه الكنيسة بالهراطقة، فالاضطهاد الأول هو اضطهاد تعسفي وأما الأخر فبداعي المحبة . أنظر تاريخ التسامح ص86-94

  • كانت معاهدة أوغسبورغ قد وضعت الحد للصراع الطائفي الكاثوليكي البروتستانتي في الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حيث إقرار مبدأ الوحدة السياسية الدينية، إذ سمح لكل أمير من أمرا المقاطعات الألمانية أخيار إما اللوثرية أو الكاثوليكية ضمن المقاطعات التي يحكمونها في حين يكون رعايا الأمير في المقاطعة مجبرين على اعتناق مذهب الأمير

  • توماس مور، يوتوبيا، ترجمة وتقديم أنجيل بطرس سمعان، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1987

  • نفس المصدر

  • Stravrianos, “The Ottoman Empire” pp24  S  وفولتير، قصص وحكايات، ترجمة سليمان حرفوش، دمشق، دار المدى، 2006

  • جريدة القبس 20 ديسمبر 2016

  • Simon The dangerous of certainty by in new York times 2.Feb.2014 Critchley

  • هربرت ماركيوز، الإنسان ذو البعد الواحد، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت، دار الآداب، 1988 ص116-120

  • في آواخر شهر مايو من العام 1416 أدان مجمع كونستانس المصلح واللاهوتــي التشيكـــي جيــروم أوف براغ بتهمة الهرطقة، وتم الحكم عليه بالإعدام حرقــا، وبينما كانت النيران تشتعل تقدمت امرأة عجوز بيدهــــا حزمة مـــن الحطب لترمي بها ضمن الحطـــب المشتعــــل حــول جيروم، فقال : sancta simplicitas “يا للسذاجة المقدسة”

  • أنظر المبررات التي ساقها (ج. مل) للدفاع عن التسامح ج.مل. عن التسامح ترجمة عبد الله غيث ط الأهلية ص 65 – 80 على الرغم من كون هذا الإلزام لا ينبع دوما من فكرة ( اليقين ) فحسب، إذ ثمة دوافع أخرى تجد تبريراتها في الإلزام الديني نفسه. بحث تصبح فكره إلزام الآخرين لفكرة ما، هو بسبب أن الدين أو بالأحرى أن – تفسيرا معينا للدين – يوجب على الفرد أو السلطة -بأشكالها الاجتماعية أو السياسية –  أن تفرض هذا الرأي على الآخرين. أو كما يعبر “مل” في نقده للفكرة القائلة من ان الله لا يكره فقط أفعال الكفار، ولكنه كذلك لن يعفينا من الذنب إن لم نتدخل ضدهم” ج. مل. في الحرية، ترجمة عبدالله غيث، الأردن، الأهلية للنشر والتوزيع ص188، مع ذلك يبدو أن هذا الإلزام يتسند هو الآخر على يقين مطلق.

  • ج لوكلير، تاريخ التسامح في عصر الإصلاح، المنظمة العربية للترجمة، ترجمة جورج سليمان، 2009، ص 450

  • (إن أحد أهداف العلوم الطبيعية إعطـاء صـورة دقيقة عن العالم المادي وإحدى منجزات الفيزياء في القرن العشرين هي البرهان على أن هذا الهدف لا يمكن تحقيقه …… ذلك هو الأسلوب الوحيد للمعرفة إذ ليس ثمة معرفة مطلقة. وأولئك الذين يدعون خلاف ذلك -سواء أكانوا علماء أم عقائديين -يفتحون الباب على المأساة، فكل المعلومات منقوصة. غير كاملة. ويجب التعامل معها وتناولها بتواضع. تلك هي الحال البشرية وذلك هو ما تقوله فيزياء الكم وأعني ذلك حرفيا).  ج. بروفنسكي، ارتقاء الإنسان، عالم المعرفة ط 1981، ص 239 -240

  • The dangerous o Moral certainty”, the philosophy now –Issue 15 Lloyd, Peter

 

 

 

 

 

 

 

شاهد أيضاً

طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟!

(ثقافات) طه درويش: أَتكونُ الكِتابَة فِردَوْسَاً مِنَ الأَوْهامْ؟! إلى يحيى القيسي لَمْ نَلْتَقِ في “لندن”.. …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *