الافتراضي وأسئلة العلاقة مع الواقع

*زهور كرام

تأخذ المفاهيم دلالتها من قوة تداولها. قد يظهر المفهوم بدلالة معينة، تُحدد استعماله زمن ظهوره، غير أن طريقة تداوله، وشكل رواجه، في علاقة مع سياقات الاستعمال وطبيعة المُستعملين، تجعله يتجاوز الدلالة الأولى ويتبنى دلالة جديدة، وفق عملية جذب الاستعمال، دون التخلي عن الدلالة الأولى. عندها، يُصبح المفهوم ذاكرة لتاريخ استعماله، يعني ذاكرة للدلالات التي يأخذها، وهو يتشكل في الممارسة والاستعمال.

ارتبط مفهوم الافتراضي بظهور الثقافة التكنولوجية، وتطور مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها فضاءات غير واقعية، تسمح للمستعمل بأن يكون ذاتا افتراضية، ويُمارس أفعالا افتراضية، ويحلم بأفاق احتمالية. أنتجت تجربة الحياة في الفضاء الافتراضي سلوكات وممارسات وخطابات، حرَرت المُقيمين بهذا الفضاء من منطق التفكير في الفضاء الواقعي. يعود الأمر، إلى كون العالم الافتراضي لا يخضع لمنطق تدبير العالم الواقعي. مع ذلك، بدأ العالم الافتراضي يفرض قوانين جديدة، وتشريعات مختلفة، تُحدد نوعية المعاملات الجديدة. يفرض علينا هذا العالم الافتراضي طرح سؤال/أسئلة حول مفهوم الافتراضي، وإذا كان الوعي بمفهوم جديد يتم- في غالب الأحيان- وفق مفهوم قائم، ومُتداول، يحق لنا طرح الأسئلة التالية: كيف نفهم الافتراضي؟ أو كيف يحضر في وعينا، عندما نستخدم التكنولوجيا، ونتحرك في فضاء الإنترنت؟ ما هي الحدود الفاصلة – في وعينا- بين الافتراضي والواقعي؟ هل نستحضر مفهوم الخيالي لفهم الافتراضي؟ وهل يتماشى فعل التخييل، أي تحويل المادة إلى موضوع مُتخيل في الإبداع، مع فعل الكتابة في فضاء الإنترنت؟ وهل منطق عالم الافتراض هو منطق عالم الخيال؟ أم أن الافتراضي زمنٌ مختلفٌ في نظامه ومنطقه؟ تلك مجموعة من الأسئلة التي تتطلب التفكير فيها، من أجل إنتاج وعي بمعنى الإقامة في الافتراضي، والتحرك فيه، والتعبير من خلاله، وبقدرة هذا الفضاء على تغيير الفرد، وجعله يفكر بطريقة مُختلفة، ويحلم بأسلوب جديد.

تُشكل هذه الأسئلة حول مفهوم ومنطق «الافتراضي» ورشا مهمة للبحث والتفكير والتحليل، وإشكالية للبحث العلمي، يمكن لطلبة الدكتوراه والماستر الاشتغال فيها، والمُساهمة في تطوير الوعي العلمي والمعرفي في هذا الفضاء الجديد، الذي أصبح إقامة يومية للأفراد والمجتمعات. ما يدفعنا إلى طرح «الافتراضي» سؤالا وتفكيرا، هو نسبة التواجد اليومي في هذا الفضاء أولا، ثم طبيعة التحولات التي يمكن أن تطرأ على الحياة الواقعية للأفراد ثانيا. وعليه، يمكن البداية بالبحث في الدلالة التي رافقت مفهوم «الافتراضي» عند ظهوره، ثم الدلالة الجديدة التي قد يأخذها المفهوم، وهو يعرف استخداما كبيرا. استُعمل «الافتراضي» منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين، باعتباره صفة لكل العمليات التي تحدث في الإنترنت، ولها علاقة بما يسمى بالعالم الإلكتروني والرقمي، وتكون مُفارقة للعالم الواقعي. لذلك تحدد مفهوم الافتراضي في معنى الاحتمال، والممكن، والشيء غير موجود، لكن قابل لأن يكون. ولأن الافتراضي يتم من خلال فضاء مفتوح، يسمح للمستعمل بالتحرك بسرعة ومرونة وحرية، للتعبير وإعلان صوته، واقتسام وجهات نظره وأحلامه وآلامه، ويضع- في الوقت نفسه- أمام المُستقبل خيارات كثيرة، وإمكانيات كبيرة، تسمح له باستقبال المعلومات، والتواصل معها، كما يُمكَنه هذا الفضاء بأساليب وإجراءات تقنية، تجعله ينتقل من مجرد مُستقبل للمعلومة، والتواصل معها إلى مُتفاعلٍ معها، ومُنتج لها، وصانعٍ منها معرفة جديدة، تتحول عند اقتسامها إلى معلومات لدى مُستقبلين ومتفاعلين آخرين، فإن هذا الفضاء أصبح يُشكل حالة جذب مُثيرة، وبدأ يتحول بسرعة فائقة، وتبعا لزمن الإقامة فيه إلى مجتمع ومؤسسات، ونظام ومنطق ومعاملات إنسانية، وسلطة مرجعية، وموقع سياسي وإيديولوجي، وعتبة للتحدي الاجتماعي والاقتصادي، وسوق تجاري تبادلي، وغير ذلك من أنشطة هذا الفضاء. وبالتالي، لم يعد هذا الافتراضي مجرد فضاء للمعلومة والتواصل، وزمن للمُحتمل الذي قد يكون، أو لا يكون، إنما تحول إلى صيغة جديدة في الوجود والحياة والتفكير والمشاعر. ومن ثمة، يمكن الحديث عن بداية ظهور دلالات جديدة للمفاهيم المُتداولة مثل: الفرد، ونحن والآخر، والمكان والزمن، وعن مفاهيم جديدة مثل: المجتمع الافتراضي، والجماعات الافتراضية، والديمقراطية الافتراضية، والطبقة الافتراضية، ويمكن التفكير في ظهور مفاهيم جديدة مثل: النخبة الافتراضية، وغير ذلك. ولهذا، فإن الموضوع بات يتطلب مقاربات سوسيولوجية وثقافية ونفسية وسياسية، من أجل إنتاج وعي بالفضاء الافتراضي من جهة، وبالافتراضية باعتبارها مُنجزا. وعليه، يحق لنا طرح أسئلة، نفترض أن تكون مدخلا منهجيا للتفكير في معنى الوجود، وعلاقة منطق الافتراضي بالتحولات التي يعرفها العالم اليوم، ومدى قدرة هذه التحولات على دعم إنسانية الإنسان، عوض تدميرها، وغير ذلك من الأسئلة التي باتت تتطلب مقاربة فلسفية من قبل المفكرين والمشتغلين في ثقافة التكنولوجيا وفلسفة الوجود.

ونبدأ بأسئلة، سبق التفكير فيها وطرحها من قبل بعض الفلاسفة، مثل جون بودريار (1929-2007)، الذي اهتم بمجتمع الاستهلاك، وبول فِرِيليُو المهتم بسرعة العالم، والذي يحذر من مخاطر هذه السرعة التكنولوجية، مثل: هل هناك خوف من غربة الواقع مع الافتراضي؟ وهل يمكن التفكير في نوع من الاختفاء العالمي؟ والحديث عن انهيار مرعب للزمن والمكان، إضافة إلى أسئلة أخرى نقترح طرحها، من أجل تأمل منطق التحول الذي تعرفه البشرية، وهي ترْكبُ زمن السرعة مع العهد التكنولوجي: كيف يتشكل منطق الاحتمال مع الزمن الافتراضي؟ وبأي أساليب يتم تصريف هذا المنطق؟ وبأي شكل لغوي يتم بناؤه؟ وهل تلتقي المجتمعات في البناء نفسه؟ وهل يتشابه الأفراد في محتوى المنطق الافتراضي نفسه؟ وهل يُساهم كل أفراد المجتمعات في تشكيل العالم الافتراضي؟ ما موقع الذاكرة مع السرعة والمنطق الافتراضي؟ كيف يمكن فهم السرعة؟ كيف يتحول الإنسان مع تسارع المعلومات؟ كيف يمكن تفسير الحركة من الواقعي إلى الافتراضي؟ وكيف تكون العودة من الافتراضي إلى الواقعي؟ ما مظاهر التحول في نفسية الإنسان، ومشاعره؟ ما علاقته بالزمن والمكان؟ هل بدأ الواقع كمفهوم يتحول في الوعي الإدراكي للأفراد المُستعملين لفضاء الافتراضي؟ هل يمكن الحديث عن هوية وجودية جديدة للإنسان مع منطق الافتراضي؟ تلك عينة من الأسئلة التي بطرحها، نبدأ في عملية ترتيب علاقتنا بالتكنولوجيا، والفضاء الافتراضي. وهي أسئلة قابلة للتطوير الثقافي والعلمي، من خلال أبحاث أكاديمية، ودراسات معرفية وفلسفية، لعلها تُساهم في الوعي بالتحول الذي بات يشكل تيارا تاريخيا اليوم، وعلى الفكر أن ينشغل بقضاياه.

عربيا، وبتأمل مشهد استعمال الفضاء الافتراضي، من خلال مختلف الوسائط والخيارات ومواقع التواصل الاجتماعي، سنسجل ملاحظة، تخص طبيعة الاختلاف الواضح في استعمال هذه الوسائط بين المجتمعات العربية. مثلا، تستخدم المجتمعات الخليجية – بشكل كبير- وسائط التويتر وسناب شات، ويحضران باعتبارهما وسيطا للتواصل الاجتماعي والسياسي، في حين نلمس هيمنة استخدام وسيط الفيسبوك في منطقة المغرب العربي، وباقي الدول العربية. مع ملاحظة ثانية، في كون المحتوى الافتراضي، سواء عبر الفيسبوك أو التويتر وغيرهما، يختلف من مجتمع إلى آخر. نطرح أسئلة جديدة من واقع هذا الاختلاف: هل هذا الاختلاف يُعبر عن مستوى علاقة الاصطدام بين الواقعي والافتراضي في كل مجتمع على حدة؟ وهل يُحقق الافتراضي في تجربة أفراد كل مجتمع تحولات في الواقع؟ هل يمكن التعامل مع الافتراضي – اليوم- باعتباره مدخلا اجتماعيا للتعرف على طبيعة المجتمع؟ وحسب تحقق الافتراضي محتوى وأبنية، هل نستطيع التعرف على مستوى التفكير الثقافي لدى الأفراد؟ هل بمقدور المُنجز الافتراضي أن يقدم تصورا عن الأوضاع السياسية في المجتمعات العربية، بعيدا عن سلطة تقارير الواقع؟ وكيف نُحلل الشخصية المُستعملة لوسائط التويتر والانستغرام وسناب شات، والأخرى التي تتواصل عبر الفيسبوك؟ كيف يستفيد الواقع من سرعة الحركة في الافتراضي؟

لا يمكن الوعي بواقع التحول الذي تعرفه المجتمعات العربية، وهي تنخرط – بمستويات مختلفة- في الزمن التكنولوجي، إذا غابت هذه الأسئلة، أو غيرها، عندها سيكون الاستهلاك هو منطق التعامل مع الفضاء الافتراضي.
______

*القدس العربي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *