موقفان من الفلسفة … العقيدة والحرية

*فيصل دراج

للاختلاف بين الثقافات أبعاد تمس الهوية والتاريخ ودلالة الأدب والفنون، وقد تمس الفلسفة أيضاً، رفضاً أو قبولاً. فبعض هذه الثقافات يرى في الفلسفة وجهاً من وجوه المعرفة، بل وجهاً أساسياً لها، على خلاف اجتهادات قديمة في «الثقافة العربية» رأت فيها ضلالاً وميلاً إلى «الزندقة»، اتكاء على اجتهاد يقول: «من تفلّسف تزندق». وإذا كان قدم الاجتهاد المعارض للفلسفة والعلوم عادياً، فبعض المدارس في الولايات المتحدة يرفض نظرية داروين إلى اليوم، فإن الذي لا يبدو عادياً هو ثبات الموقف القديم وسيطرته على غيره حتى اليوم. فلا تزال الثقافة العربية، في بعض أشكالها، «حريصة» على مغايرة غيرها من الثقافات وحريصة أكثر على اختصار عناصرها المتعددة إلى العنصر الديني وحده. ظهر هذا واضحاً في خبرين صغيرين جاءا في الصفحة الأولى من المجلة الإنكليزية «الفلسفة اليوم»، الصادرة في ربيع 2017 عدد 118، والخبران توزّعا على بلدين هما: إرلندا والمغرب.

ورد في الخبر الخاص بجمهورية إرلندا أن الرئيس مايكل د. هيغنز قام بعمل لا تقوم به إلا قلة من السياسيين، تمثَل في تأكيد أهمية الفلسفة في المدارس، على اعتبار أن الفلسفة كما قال: «درب إلى ثقافة حيّة ديموقراطية تحتفي بالقيم الإنسانية». ألمح هيغنز وزوجته سابينا، وهي خريجة قسم الفلسفة، إلى ضرورة توسيع مجال تدريس الفلسفة، «ذلك أنها من بين الأدوات الفاعلة التي تمكّن الأطفال من التصرف الحر، وتجعلهم مواطنين يتمتعون بالمسؤولية وقادرين على التعامل مع عالم معقد لا يكفّ عن التبدّل». وعلى هذا، فبعد أن كان التلاميذ الإرلنديون (بين الثانية والسادسة عشرة) يدرسون الفلسفة مع مواد أخرى، أصبحوا موضوعاً لفلسفة خاصة بهم، تدرس أحوالهم في أطوارهم المختلفة، وفضولهم إلى إجابات متجددة.

ثلاثة أمور تلفت النظر في سلوك الرئيس الارلندي: الاهتمام بالفلسفة وسبل تدريسها في المدارس الابتدائية والثانوية، لا تأثراً بزوجته، التي درست الفلسفة، بل لسبب أكثر ارتقاء واتساعاً، يرتبط بإرادة الإنسان الحر وإمكان مواطنة أكثر خصباً وفاعلية، أي النظر إلى مستقبل يجمع بين الحرية والفضول المعرفي، في عالم يتسم بالاضطراب واللايقين.

إلى جانب العنوان الصغير المشار إليه «تعليم الفلسفة في إرلندا»، يوجد عنوان آخر وبكلمات أقل هو: «مشاكل في كتب مدرسية»، جاء تحته: «أفضى كتاب مدرسي جديد في المغرب إلى بعض الاضطراب، لأنه وصف الفلسفة بالشذوذ والكفر. ففي هذا الكتاب، وعنوانه «منار التربية الإسلامية»، وقد اعتمد للمرة الأولى لطلاب البكالوريا، يوجد مقطع يعيّن الفلسفة «إنتاجاً فكريا إنسانياً يعارض الإسلام ويدعو إلى الانحلال». ومع أن أساتذة الفلسفة في المغرب شجبوا هذا الموقف، فإن وزارة التعليم دافعت عن الكتاب، معتبرة أن المقصود، «من المقطع الخلافي» إثارة الحوار بين أطراف مختصة.

والسؤال الآن: ما الذي يجعل طرفاً رسمياً إرلندياً يثني على الفلسفة، ويدفع طرفاً رسمياً عربياً إلى «التضييق» على الفلسفة و «محاصرة» دلالتها، بل يمكن صوغ السؤال في شكل آخر: أليس في «تصغير» الفلسفة، عربياً، تجنباً للآثار الصادرة عن تعاليمها أو تحذيراً منها لها؟ فبعد الرأي الحر والاحتفال بالمستقبل وتأكيد حق الأطفال في مساءلة العالم والدفاع عن قيم الثقافة الديموقراطية، الذي يقول بها المسؤول الإرلندي، نقف على «إشارات عربية» معارضة، كما لو كان لا يجوز للتلميذ العربي ما يجوز للتلميذ الإرلندي؟ وهو موضوع يفتح الباب أمام أسئلة كثيرة.

وبداهة، فإن موضوع الفلسفة اليوم، ليس البرهان عن الواجبات الدينية أو رفضها، ذلك أن موضوع الفلسفة، كما المعرفة في شكل عام، مساءلة الحاجات الإنسانية المادية والمعنوية، سواء مس ذلك قضايا الطعام واللباس والتعليم، أو قضايا حيوية تمس مستقبل كل مجتمع يهتم بكرامته وتطوير ما يجب تطويره اليوم: إصلاح التعليم ومراكمة المعرفة ومساوقة العلم الحديث، الذي جعل من القوة معرفة، وتحدث طويلاً عن مجتمع المعرفة… وفي الحالات كلها، فإن الأساسي في الوجود الإنساني لا يختصر في رفض الفلسفة أو في القبول بها، بل في التعامل الصحيح مع قضايا الإنسان المشخصة، الذي أفضى إلى تقدم العلوم، بمعزل عن قضايا اللاهوت. فقد كان نيوتن، صاحب قانون الجاذبية، كما الفيلسوف الفرنسي ديكارت، وكان عالماً في أكثر من مجال، مؤمناً بالوجود الإلهي، غير أن ذلك لا يأخذ معناه الواسع إلا من النظر الحر إلى العالم الذي يحرّض على التساؤل الطليق ويشجّع على التجريب، ويرى في التجريب العلمي عنصراً في النظر الموضوعي إلى العالم وتطويره، وأداة لارتقاء الإنسان إلى مستوى المعرفة والإيمان معاً.

كان الفيلسوف الهولاندي باروخ سبينوزا (1632– 1677) قد عالج علاقة الدين بالفلسفة في كتابه «مقال لاهوتي- سياسي»، المنشور عام 1670، وجاء فيه «كيف يظهر أن حرية التفلّسف لا تسيء إلى التقوى، ولا إلى سلام الدولة وأمنها، بل إنها على خلاف ذلك مفيدة لهما». أراد الفيلسوف تسويغ فائدة التفلّسف في مواجهة طرفين: رجال اللاهوت أو حماة التقوى، ومن يقوم على حماية سلام الدولة وأمنها. رأى الفيلسوف خصومه في متشددين يحتكرون الحقيقة، يمزجون الدين بالتعصب وينتهون إلى حرب أهلية دينية، وفي دولة تتصرف في شؤون الفكر كما تشاء. والتفلّسف في التحديد الأخير، كما رآه سبينوزا وغيره، دعوة إلى إعمال الفكر ومحاولة في توليد الفكر الطليق واستعمال العقل، وصولاً إلى الإجابة عن أسئلة العالم، بمعزل عن الأساطير والخوارق.

يبقى ذلك السؤال اللحوح في مكانه: من يعلّم التلميذ؟ ومن أين تأتي المعرفة المفيدة؟ والسؤال الذي تتأسس عليه فلسفة التربية، لا وجود له بصيغة المفرد، فلكل تلميذ بيئة وأساتذة وكتبه وله مسؤولون عنه، يرضون بالفكر الحر أو يقمعونه، وله موروثه، الذي قد يطوّر من الأسئلة ما يشاء، أو يراوح مكانه، أو يتلكأ أمام أسئلة طرحها غيره قبل قرون، من دون أن يلتفت إلى معنى الزمن واستعماله، أو أن يكترث بمعنى المقارنة، التي تظهر الفارق بين شعوب حرّة وحيّة تعيش في الحاضر، وشعوب أخرى تعيش سعيدة في العصور الوسطى.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *