استعادة صرخة فرج فودة: قاوم بالكلمة التطرف والإرهاب

*ممدوح فرّاج النّابي

يصفُ الرَّاحِلُ فرج فودة الذي كان ضحية للفكر المتطرف والإرهاب، نفسه في مقدمة كتابه “قبل السقوط” هكذا “لا أبالي إذا كنتُ في جانب والجميع في جانب آخر، ولا أحزن إنْ ارتفعت أصواتهم أو لمعت سيوفهم، ولا أجزع إن خذلني مَن يؤمن بما أقول، ولا أفزع إنْ هاجمني مَن يفزعُ لما أقول، وإنما يؤرقني أَشدُّ الأرق أنْ لا تصل هذه الرسالة إلى مَن قصدت، فأنا أُخاطب أصحاب الرأي لا أرباب المصالح، وأنصار المبدأ لا محترفي المزايدة …” هكذا وضع منهجه فشذَّ عن السِّرب وغرَّدَ يُهاجم خفافيش الظلام، التي راح بكتاباته يؤرِّق مضجعها، فكانت نهايته على أيديهم حتى يخرسوه إلى الأبد.

في الكتاب الجديد الصادر عن دار بتانة 2017 بعنوان “صرخة فرج فودة” لشعبان يوسف وعزة كامل، يستعيد المؤلفان سيرة الكاتب الراحل ومسيرته ومواقفه، بل ويعيدان طرح أفكاره من جديدة والتي كانت أشبه بصرخة احتجاج قبل السقوط، لكن لم يلتفت إليها القائمون على السُّلطة فحدث السقوط الذي كانت بدايته في انتفاضة الخبز 1977، ثم اكتملت جذوته في يناير 2011. في الاستهلال الذي عنونه المؤلفان بــ”مازال القتل مستمرًا” يتناول جانبًا من شخصية فرج فودة الداعي للتسامح والسلام بين الناس في حين كان العالم يعجّ من حوله ببذور الشقاق والنعرات الخلافية التي وصلت إلى الحرابة والتكفير، ما بين نعرات مُتدثِّرة بشعارات إثنية أو دينية وإن كانت في حقيقة الأمر تختفي خلف مطامع سياسية واقتصادية كبرى. قُبح الإرهاب الذي استشرى في كلِّ مكانٍ مع الأسف كان يواجهه بشعارات بيضاء.

مواقف فرج فوده جعلته أحد محاربي ومقاومي العنف في شتّى صوره، ومع الأسف هذه المواقف وضعته صوب نيران واتهامات المثقفين الذين نالوا منه، ومن ثمَّ جاء هذا الكتاب كما يقول المؤلفان بغرض استعادة بعض من مسيرة وأفكار فرج.

يؤرِّخُ الكتاب لبداية الصِّدَام مع الحياة الاجتماعية والتقاليد بصدور كِتَاب “الوفد والمستقبل” عام 1983، وليس لكتاب “قبل السقوط“. ففرج فودة كان عضوًا بحزب الوفد ثمّ استقال منه، فمع إيمانه بأفكار ومسيرة حزب الوفد واعتناقه لمبادئه، كان عدوًّا لجماعة الإخوان المسلمين، وعبر التفتيش في مسيرة نضال فرج فودة يُقدِّم الكِتَابُ جزءًا من الألاعيب السياسية التي كانت تدور في الكواليس، والتنازلات التي قدمتها الأحزاب للإخوان.

كما يرصد المؤلفان السياق الثقافي الذي وُجد فيه فرج فودة، وأنداده كسيِّد القمني ونصر حامد أبو زيد ومحمد سعيد العشماوي وخليل عبدالكريم، ويقرّان بأن سياق عصره يختلف عن السياق الثقافي الذي تواجد فيه طه حسين وعلى عبد الرازق؛ فقد امتاز بمساحة من الليبرالية تفوق ما كانت عليه في عصر فودة. ومع أن فرج فوده يميل إلى ليبرالية عصر طه حسين الذي أنتج كتاب “الشعر الجاهلي”، و”الإسلام وأصول الحكم” لعلى عبدالرازق. إلا أن المؤلفيْن يُنكران هذه الليبرالية ويعتبرانها ليبرالية صورية. وينتهي المؤلفان إلى القول بأن هذه المقارنة ليس غرضها الانتصار لعصر على حساب عصر، وإنما فقط للتدليل بأن آلات القمع والرجعية والتخلف والمطاردة والتكفير والقتل والطرد والتسخيف قائمة وموجودة وفاعلة في شتى عقود القرن العشرين، وذلك بدعم السُّلطات خوفًا وتحسبًا مِن أو ممالأة للجماعات المتطرفة أو استخدامًا لها.

رجل المواقف

محاولات فرج فودة لفضح العوار لم تقتصر على ما نشره في كتابه الأوّل، وإنما واصل مهمته في كتابه الثاني “قبل السقوط” وإن كان هذه المرة داخل منطقة ملغزة حيث ذهب إلى المقدّس وراح يُشكّك في قدسية عصر الخلفاء الراشدين وفق ما وجّه له الاتهام، فمجتمع الفضيلة الذي سعت كل الأدبيات إلى إلصاقه بهذه الحقبة لم يكن متحققًا على حدّ قوله، فالأمان والعدل اللذان سادا في هذه الحقبة الإسلامية لم يمنعا مِن ظهور التطرُّف والإرهاب، فمع كون الخليفة عمر أعدل أهل الأرض إلا أن هذا لم يمنع شياطين الفتنة والإثم والخيانة من أن يُسدِّدوا له طعنة غادرة وهو في أنقى مكان، يؤدِّي أعظم شعيرة.

كما يُعدِّدُ محاولات الاغتيالات التي لحقت بالخلفاء عثمان وعليّ حتى أنه يُشكِّك في وفاة أبي بكر الصديق رضى الله عنه، وينتهي من هذا إلى أن الاغتيال السياسي ليس له علاقة بعملية تحقيق العدالة الاجتماعية، ولكن مع الأسف كانت النتيجة صادمة من المتطرفين، فاعتبروا ما قاله فرج فودة تشكيكا في عصر الخلفاء الراشدين.

أما الاستنتاج الثاني الذي خرج به فودة فيتمثل في فصل الدين عن الدولة، فهناك خلط بين قداسة الدين وقداسة الدولة إن كان للدولة قداسة. ومثلما لم تلقَ أفكاره الرواج وأُلصقت به اتهامات عديدة إلا أن هناك اغتيالاً مَعنويًا مورس عليه، سبق الاغتيال المادي، بإطلاق الإشاعات عليه من جهات مختلفة ومن هذه أنه ذهب إلى إسرائيل وهذا قول منافٍ للحقيقة.

كتاب فرج فودة “الوفد والمستقبل” 1983 الذي كان بمثابة صرخة لمحاولة إنقاذ تاريخ حزب الوفد قد كشف عن باحث عنيد قادم مع أنه أول كتبه، فقد كانت أفكاره الانتقادية من منطلق أهمية هذا الحزب الذي خرجت من عباءته كوادر مهمة في كل المواقع الإبداعية والفكرية والعلمية والسياسية والاقتصادية كطلعت حرب وهدى شعراوي وعلى إبراهيم وطه حسين وعلى عبدالرازق وسلامة موسى وإسماعيل مظهر، خاصة وأن سياسيات الحزب أخفقت فيما بعد، وشهد الحزب نفسه انشقاقات كثيرة.

فمقدمة الكتاب جاءت رومانسية وغير ملزمة لأحد بتبنّي أفكارها إلا أن المتن كشف عن بشائر صراعات وخصومات ستندلع في المستقبل، فينتقد فودة الذين يؤيدون السُّلْطَة، ويحذِّر من هذا التأييد المطلق، عبر حكاية لعبة الأحزاب التي أنشأها السادات، وسقط في فخّها الكثير من الرموز، كما حذَّر في هذا الكتاب من أخطار التهرُّب الضريبي، حاثًا على أن تتخذ الدولة إجراءات صارمة مهما قست الظروف، ضاربًا الأمثلة بالبلاد التي تقيم اقتصادها على التحصيل الضريبي وكيف أن المقارنة تنسحب لصالحها فهي تشهد تقدمًا في التعليم والصّحة والثقافة في حين أننا نواجه التخلف والتراجع والجمود. وهذا الكتاب كان بمثابة بداية لاحتجاج مفكِّر مصري مخلص، بغض النظر حول اتفاقنا أو اختلافنا حول بعض ممّا قاله. فبعد حادثة اغتياله توالت النكبات فتم تكفير الدكتور نصر حامد أبو زيد عام 1993 وتم التفريق بينه وبين زوجه، ثم محاولة اغتيال نجيب محفوظ. وهو ما يعني أن خفافيش الظلام بدأت تنتشر وتتوغل.

وبالمثل يشير إلى أخطار توغُّل ونمو الإسلام السياسي، حيث فلسفته أن العدل غاية النص وأن مخالفة النص من أجل العدل أصحّ في ميزان الإسلام من مجافاة العدل بالتزام النص.

يرتكز مشروعه على أربعة محاور هي نقد الإسلام السياسي، نقد الإسلام السياسي التاريخي، حتمية الاجتهاد وإعمال العقل، والدفاع على أُسس الدولة المدنية الحديثة. وكان يوجِّه خطابه إلى الجماهير بأسلوب شيق وبسيط وبعرض سلسل فيهتم بالجماهير دون الوقوف عند المثقفين وحدهم. وقد أرجع أسباب الهزيمة إلى تنامي التيارات الدينية في مصر والعالم العربي.

مسيرة وأفكار

يركز الفصل المعنون “مسيرة وأفكار” على أهم كتابات فرج فودة ويستعرض لجملة أفكاره التي كانت تُغرِّدُ خارج السرب، وتعدُّد من مواقفه النضالية لتبصير الأمة ولفت انتباهها، وإن كان يبدأ من نهاية المطاف حيث يبرز نتيجة هذه المغايرة والخروج عن السرب فاستعرض دوافع وطريقة اغتيال فرج فودة، والتبريرات التي ساقتها الحركات الإسلامية لتبرّر استئصالها لهذا السرطان كما وسموا به فرج فودة، وقد اعترف القاتل عبدالشافي رمضان أنه أخذ التكليف بسبب فتوى عمر عبدالرحمن مفتي الجماعة الإسلامية. ويتطرق إلى حملة من الترهيب والتهديد نالت من الدكتور فرج فودة، حيث كانت تصله رسائل التهديد قبل حادثة الاغتيال.

وتطرّق الفصل إلى الأفكار الرئيسية التي شكَّلت محور كتبه وصارت محل خلاف فيما بعد، كموقفه من زواج المتعة والجماعات الإسلامية، ورأيه في الحجاب والعمليات الفدائية على نحو ما فعل سليمان خاطر بقتله 7 من الإسرائيليين، وعن تعديل الدستور، وعن تنامي التيار الإسلامي ووصوله إلى الحكم في السودان، وتساؤله حول هل كان نظام الخلافة إسلاميا حقا. وإجابته كانت بـ”لا”. مُعددًا للأدلة كقتال أبي بكر الصديق للممتنعين عن دفع الزكاة، ورفض عثمان بن عفان القصاص من عبيدالله بن عمر بن الخطاب، وغيرها من الإشكاليات التي مازالت مفتوحة وتؤجج الصراع كلما أعاد النظر إليها في سياق رؤية عصرية.

الكتاب في نهايته مزوّد بملحق بالقصائد التي نشرها فرج فودة في بعض الدوريات، وبالمثل تضمين لشهادته في حقّ الكاتب محمود حامد، صاحب رواية “مسافة في رأس رجل”، والشهادة تأتي تأكيدًا لمبدئه في الدفاع عن الحرية وموقفه الرافض للحجر عن أفكار الكاتب أو تقييد أفكاره.

الكتاب على الرغم من صغر حجمه إلا أنه قدم صورًا مُتعدِّدة لشخصية الراحل، متجولاً في أفكاره التي فتحت في وجهه نيران الأصدقاء والأعداء معًا، حتى انتهتْ به إلى الاغتيال في مشهد يؤكِّد دومًا رفض أنصار معسكر الإرهاب لصوت العقل.
________
*العرب

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *