دور فـــلـــسـفــة الــبـيئـة فـي غــرس الســلام والأمــن الــبـيـئـي

 

خاص- ثقافات

* جميلة مرابط

 

 ( إعـــادة ارتـبــاطنـــا بروح الــطبــيعــة وإحــسان إلــيــهــا )

 

 

   تعتبر الفلسفة بمثابة الحصان الذي يقود عربة الحضارة ويوجهها، فهي ذلك المجال الفكري الذي ينظر إلى الكرة الأرضية من خارجها بمنظور شامل؛  ثم يدرس عناصرها ويرصد ظواهرها ويحدد الروابط التي تقوم فيما بينها، على نحو حيادي قائم على فكرة لا مركزية الإنسان في هذا الكون وسطوته على الطبيعة.

  وينبني التأطير الفلسفي المعاصر للبيئة على التأسيس النظري لفكرة احترام القيمة الذاتية Intrinsic Values  لعناصر الطبيعة المختلفة، وحقها في الحياة في معزل عن حاجات الإنسان ورغباته اللامتناهية وذلك باستخدام العلوم المعاصرة، كعلم الأخلاق والمنطق واللغة وعلم البيولوجيا وعلم التبيؤ وما إلى ذلك… لإبداع فكر عالمي معاصر ينظر إلى التنوع الحيوي بوصفه كلاً متكاملاً؛ يؤدي الإضرار ببعض أجزائه إلى الخلل بالتوازن العام؛ الذي استغرق مليارات السنين من التطور والإبداع والرقي حتى وصل إلى الحالة التي نراها عليه اليوم.

إن الشعور بأننا جزء من النظام البيئي ولا يمكن أن ننفصل عنه، هو شعور موضوعي وليس شعوراً خيالياً إذا ما انطلقنا من مبدأ أننا جزء من الكل بيننا تأثير وتأثر وبوصفنا نوعا بيولوجيا، نكون لامسنا روح فكرة السلام مع البيئة كما هي السائدة ضمن نماذج السلام الرئيسية في العالم، نبذ كل شكل من أشكال العنف واعتداء، والإحساس القوي بالبيئة الإنسانية مع حسن التعايش السلمي لا ضرر ولا ضرار قوامه ” أن حق الاستثمار والانتفاع والتسخير الذي شرعه الله للإنسان يقابله بالضرورة واجب يقتضي المحافظة على كل الموارد الطبيعية كما وكيفا.

 لذا ينبغي على الفلسفة المعاصرة أن تلعب دورا مهما في مواكبة واستجلاء هذا الفكر، وهي من الإسهامات التي يستطيع الفلاسفة والعلماء والباحثين تقديمها، من خلال كنس النفايات الفكرية العالقة في الأذهان والمعيقة لتقدم المعرفة العلمية بهذا الكون برمته، وترسيخ مفاهيم حب الطبيعة والمحافظة عليها في قلوب الناس وعقولهم وإحقاق التوازن والتناغم بين الإنسان والطبيعة.

  • جدل قيمة الذاتية بين المعرفة وعالم النومينا:

    لقد ساهمت الفلسفة في الماضي في تدمير البيئة الطبيعية لكوكب الأرض، بترسيخ فكرة مركزية الإنسان وأهملت القيمة الذاتية للأشياء الأخرى في الطبيعة، حيوانية كانت أم نباتية. ويعود الاعتقاد بالتفوق النوعي للبشر نسبة إلى الكائنات الأخرى إلى تعريف فلاسفة اليونان للإنسان فقد أعطته العقلانية نبلاً وقيمة بوصف البشر أصل كل قيمة والأوصياء على كل شيء هم الذين يضعون المعيار للقيمة value التي تخص باقي أعضاء مملكة الكرة الأرضية، ويعتبرون أنفسهم أوصياء على الطبيعة، حيث غدا الإنسان يفكر بمعزل عن أي وساطة خارجية ومكتفياً ذاتياً، وعلى الأقل معرفيا.

ومركزية الإنسان فيسلسلة الوجود الكبرى”، استمرت مع الفلاسفة عصر النهضة، ومن أهم هؤلاء الذين يبجلون الذات الانسانية والأنا نجد “ديكارت“، الذي ينظر إلى الطبيعة كآلة ضخمة يمكن تفكيكها إلى أجزاء صغيرة بغية فهمها، وهذه الأجزاء تخضع لقوانين الميكانيكا الصارمة، عن طريق العلم كما كان نداء “فرانسيس بيكون” في مطلع القرن السابع عشر الذي اشتغل لإنجاز موسوعات ضخمة إدراكا منه لما هو قادم من تطور علمي وتكنولوجي، لذلك أراد أن يقدم للناس علوم عصره بلغة بسيطة، نفس الشيء مع “توماس هوبز” الفيلسوف الإنجليزي الذي تأثر كثيرا بكل ما توصل به جاليليو من حقائق علمية في علوم الفيزياء، مثل قانون القصور الذاتي الذي نجد إسقاطاته في الفصل  الخامس من مؤلف التنين( ليفايثان) بعنوان المخيلةthe imagination  حيث فسر الطبيعة والعلاقات الاجتماعية بناءا على هذا القانون… أما الفيلسوف الألماني كانط يعتبر العقل الإنساني وقدرته الذاتية أداة تصيغ الواقع وفقا لقوانين وقواعد ومنظومات تنبع من داخل الإنسان من دون وساطة خارجية، وينتهي إلى أن عالم النوميناNoumenon ، أي عالم الشيء في ذاته، وهو عالم غير معروف ولا يمكن أن نعرف منه إلا عالم الظواهر وحس. فإذا كان الأمر كذلك فإن الطبيعة كلها غير معروفة لنا، فكيف يحق لنا أن نتحدث عن قيمة خاصة داخلية Intrinsic Value للبيئة؟؟؟

وعمقت الثورة الصناعة الأزمة بانشغال الفكر العالمي بمفهوم”التقدم” وغفل عن أبعاده التذمرية، وأصبحنا أمام ضرورة تحديد العلاقات الداخلية للنطاق الإيكولوجي. ومن هنا ظهر ما يعرف بالمعرفة الايكولوجية  Ecology(علم البيئة) وهذا المصطلح استحدث على يد العالم الألماني أرنست هيكل (Ernest hikl) سنة 1866، ويرجع إلى اللغة اليونانية؛ وهو يتكون من مقطعين هما Okios وتعني مكان المعيشة، وlogue وتعني دراسة، أي كلمة الإيكولوجي تعني علم دراسة أماكن معيشة الكائنات الحية وما يحيط بها. ( للإشارة فقط فقد تبني هذا المفهوم عبر قمة ريو دي جانيرو سنة 1992. وقد كان من أهم توصيات القمة اتفاقية حماية التنوع الإحيائي، حيث تم تصنيف حوالي مليونين من الأنواع الحية من الحشرات والنبات والكائنات الدقيقة؛ كما نجد هذا التصنيف للكائنات كان له صور ما قبل الميلاد، نجد هذا في كتاب الطبيب اليوناني أبقراط (377 ق.م)، بعنوان الأجواء والمياه والأماكن، وكذا لأرسطو(22 ط ق.م) في مؤلفات المتعلقة بالتاريخ الطبيعي…)

وفي الحقيقة أن الواقع الذي تدرسه الإيكولوجيا يتسم بالتعقيد لأنه يشمل العلاقات المتبادلة بين ثلاثة مستويات متداخلة، المستوى المادي( العناصر المادية في الطبيعة) والمستوى الحي ( الكائنات الحية) ومستوى الإنسان الذي انبثق بالتوازي مع ما يسمى عصر الإنسان، وارتباطا مع التعقيد  الواقع الإيكولوجي مر التفكير في الأزمة البيئية بثلاث مرحل: اخضرار العلوم واخضرار الدراسات الإنسانية، واخضرار الفلسفة، وهذه الأخيرة (الفلسفة البيئية) تحيل أصول الأزمة البيئية الراهنة إلى الفلسفة التأسيسية التي نشأت في عصور النهضة وبالضبط إلى ديكارت والقسمة الثنائية التي أقامها بين جوهرين( الأنا المفكرة والمادة الممتدة)، وأيضا إلى فكر التقدم والتطور المادي الغربي الدؤوب للوصول إلى مستويات عالية من العيش.

فهل من الممكن، ومن خلال نقد هذه الفلسفات وإظهار حدودها بين وجود الأشياء ووجوبها أن يتم تأسيس لنموذج أخر للتقدم تكون حكمة التفكير والتدبير في أساسه؟؟؟

 

  • حقول الفلسفات البيئية الإنسانية المعاصرة

 

    غالبا ما تقسم حقول الفلسفة البيئية إلى ثلاثة مجالات، حقل الأخلاق البيئية وحقل الثقافة البيئية أو الموروث الثقافي الذي يضم الدين والعادات والتقاليد، وقد سبق أن تناولت الحقلين ضمن أعداد سابقة بمجلة آفاق البيئة والتنمية. أما الحقل الثالث لفلسفة البيئة هو الإصلاحية؛ التي ترى أن جذر مشكلاتنا البيئية لا يكمن في المركزية البشرية ولا في الالتزام بالمعايير الأخلاقية أو الاعتبارات الخلقية أو القيمة الأصلية للكائنات غير البشرية، بل إن التلوث والاستخدام المسرف للموارد الطبيعية والممارسات الأخرى المؤذية، تنبع من السلوك الجاهل والجشع وقليلي البصيرة.

  يمكن كبح مثل هذه الممارسات الحمقاء عبر سن تشريعات وتغيير السياسة العامة، وزيادة التعليم وتغيير القوانين الضريبية، والتأكيد على الالتزامات الخلقية نحو الأجيال المستقبلية، عبر تشجيع الإدارة الحكيمة للطبيعة وترشيد الاستهلاك للموارد؛ وهذه الإصلاحات لا يمكن أن نلمس تجسيدا لها على واقعنا إلا من خلال مراجعة النشاط الفكري للبشر والذي يتم عن طريق التطور النوعي للأفكار والرؤى.

 وهذا فعلا ما كان الحال عليه منذ بداية ستينيات القرن الماضي، عندما أعلن العالم ثورته البيئية تحت تأثير كتابالربيع الصامتالذي صاغته العالمة الأمريكية المتخصصة في علوم البحار راشيل كارسون ( Rachel Carson) ، وأيضا كتابات آرين نايس Arne Naess المستنبطة من  فلسفة  الفيلسوف الهولندي اسبينوزا، ومن داعية المقاومة السلمية في الهند المهاتما غاندي… فإذكاء نار الحرص على البيئة، يمكن غرسه عن طريق الاتجاهات الجديدة للفكر الفلسفي المعاصر، باستجلاء الخصائص والطباع المتجذرة في الفطرة البشرية، كفكرة حب الطبيعة والقيمة الجمالية للطبيعة، الذي نجده عامل مشترك وموحد من شأنه أن يعيد ارتباطنا بالطبيعة بخلق رابط الانسجام ويساهم في خلق علاقات إنسانية سوية مع عناصر البيئة المختلفة، لذا ينبغي على فلسفة المعاصرة أن ترتقي بعقول الفئات المجتمع لكي تعالج هذا المد التذمري الهائل الذي يطال البيئة على نحو غير مسبوق في التاريخ.

 

  • ترسيخ السلام البيئي بفكر فلسفي معاصر:

يكمن صميم الفلسفة البيئية منذ القدم إلى الآن، في التأمل والتجرد للوصول إلى حقيقة تجسد علاقاتنا إزاء أنفسنا وإزاء الآخرين من البشر وغير البشر من كائنات حية وغير الحية، ثم تعمل على تأسيس مشروع إنساني لوجودنا في العالم، مشروع عماده الانسجام والتوافق والتناغم بين الطبيعة والإنسان.

فالفكر الموحد ينبني دائما على القضايا المصيرية تخص الجنس البشري بأكمله، وليس حكرا على فئة أو بلد أو شعب. وفكرة بناء السلام مع البيئة والمحيط الذي يشغله الفرد يتطلب توافقا بين الفرد ومجتمعه وانسجاما مبني على الاحترام المتبادل، ورفض كل أشكال العنف والانتقاص من قيمة أي كائن، لذلك ثمة مصلحة مشتركة في البقاء مرتبطين بفكرة أن كوكب الأرض يشكل منظومة بيئية متكاملة مترابطة ومتداخلة؛ على نحو يجعل كل عنصر من عناصر هذه المنظومة على القدر نفسه من الأهمية، فبالرغم من أن الطبيعة لها قيمة فقط كأداة لتحقيق الغايات البشرية، إلا أن هذه الغايات معقدة وكثيرة، تمتد من الغذاء الذي تزودنا به الحيوانات والنباتات وصولا إلى المتعة الجمالية التي تثيرها المناظر الطبيعية البرية.

فالبعد الفلسفي الذي أحاول توضيحه والإنطلاق منه يكمن في محاربة التقوقع حول الأنا الضيقة، والبحث دائما عما وراء الفكرة وما لا تراه العين و ما لا تسمعه الأذن، من أجل خلق وعيا عميقا لدى مختلف الأفراد، بأن هناك قوانين طبيعيّة تنتج الحياة وتسيِّرها وتنظمها، وتتخطى البعد المادي ككائن له حاجات جسديّة، إلى حقيقة وجودنا كجزء من هذا الكون وأن نعرف أننا شركاء وليسنا أسيادا،  وأن البعد الكوني هو العامل الأصيل والأساسي في حياتنا.

ومن خلال هذا الإدراك العميق، سنتوصل إلى حقيقة أن الحياة على الأرض معدّة أصلا لتكون فردوسًا إذا تناغمت حاجات الإنسان مع عدالة هذه القوانين التي تتوزّع بدّقة على جميع المخلوقات؛ وهذا الإدراك أيضا سيقودنا إلى حقيقة أعمق بكثير من الأولى والتي تتجلى في اكتشاف معنى وجودنا والغاية من وجودنا، إذاك نتوقف عن قيادة أنفسنا إلى العدميّة وهذا ما سيشجع أكثر على السير في طريق السلام والتحرر من رغبات المؤذية النابعة من داخل الإنسان .

فالإنسان المتوازن عقليا وفكريا ونفسيا يشع بالمحبة، محبته للناس وإلتزامه بالحياة كإطار تتفاعل فيه الأفكار والقيم النبيلة، وليس كوعاء فارغ تتكدس فيه شهوات التملك والتكاثر واللاستقرار وعدم اليقين وفتح باب الخوف المؤذي إلى التطرف على جميع مستوياته حتى مع عناصر البيئة من موارد مائية وغذائية… لهذا ينبغي إبداع فكر ديناميكي قائم على وجود مشترك بين الإنسانية في مجموعها وفي علاقتها مع المحيط الإيكولوجي.

 

________

*باحثة في القانون العام والعلاقات الدولية

جامعة سيدي محمد بن عبد الله كلية العلوم القانونية والاقتصادية والاجتماعية ظهر مهراز – فاس – المغرب

 

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *