بورخيس صانع المتاهات: إذا أردت أن تتعلم شيئاً اقرأه

*محمود عبد الغني

لا نستطيع تصنيف كتاب “بورخيس صانع المتهات” (كتاب جماعي، المركز الثقافي العربي، 2017) بترجمة الناقد والمترجم المغربي محمد آيت لعميم. هل هو كتاب نقدي يتناول أعمال بورخيس؟ أم كتاب عن ردود فعل قُرّاء بورخيس عبر العالم، ومن ثقافات ولغات مختلفة؟ أم هو عمل عن أثر بورخيس في الكُتّاب الناشئين، ما دام يوفر مادّة تعليمية عن صناعة الحكايات والتخييل؟ أم هو عن نظرية الترجمة عند بورخيس؟ أم هو مجموعة من التنبيهات والإرشادات الضرورية لقُرّاء ومستخدمي التراث؟ أم مُعين مختزل لمؤرخي الأدب أو مدرسي تاريخ الأدب؟

للإجابة نقول إنه كتاب في كل هذه القضايا وزيادة، يولّد حماسة نادرة لإتمامه من دون ملل بفضل الترجمة المشرقة، واللغة الصافية، التي حاكى فيها المترجم آيت لعميم، لغة ومنهجية “صانع المتاهات”، التي يمكن اختزالها في الشفافية والدائرية. فكل مقالة هي حكاية لا تكتمل إلا بقراءة المقالة المجاورة لها في الكتاب. وكأن المقالات، المنشورة في منابر وكتب عديدة عبر مراحل زمنية متباعدة، اتفقت على موعد للقاء في كتاب واحد.

بالإضافة إلى صناعته للمتاهات، فبورخيس أيضاً يتسمُّ بخاصية مراقبته للتحولات الأدبية في تاريخ الآداب شرقاً وغرباً. ففي مقالة “التأثيرات الشرقية في شعر بورخيس، تتناول زوجته “ماريا كوداما” إعجابه الكامل بقصيدة الهايكو اليابانية، وعودته المتكررة إلى الملاحم، تلك القصائد التي تحكي عن كل شيء. إن عقل بورخيس مهيأ كلياً لتقبل هذه الآداب، سواء كانت يابانية أو إسبانية أو إيطالية أو عربية.

إنه أديب يؤمن بحماس زائد بعالمية النصوص العظيمة. وعالميتها تعني انتشارها خارج حدودها الإقليمية أو القومية الأصلية، وإقبال المترجمين عليها، في كل الثقافات واللُّغات، وصناعتها لقارئ يتقبّلها ويقرأها من دون انقطاع. بورخيس إذن يتأمل الكون كاملاً وليس جزءاً منه. الكون الذي رآه في حرف “الألف” العربي: “رأيت الأرض فوق الألف” (قصة بعنوان الألف).

كتاب “صانع المتاهات” يساعدنا على إيجاد أجوبة عديدة عن أسئلة طالما طرحها قُرّاء بورخيس: ما سرُّ إعجاب بورخيس بكتاب “ألف ليلة وليلة” وبقصائد الهايكو اليابانية؟. سرّ الإعجاب كامن في حجم القطعة الأدبية. فـ”ألف ليلة وليلة” مجموعة هائلة من الحكايات، لتتذوقها أكثر وتتأثر بأمثولاتها بشكل أفضل، عليك أن تقرأها كقطع منفصلة تلتقي في بوتقة واحدة. الشيء نفسه بالنسبة للشعر الياباني “الهايكو” الذي يعمل بواسطة أسطر قليلة على التقاء الزمن بالفضاء في نقطة واحدة. وهناك شكل شعري آخر تحدثت عنه ماريا كوداما يُدعى “التانكا”، وهو شكل شعري ياباني انحدر منه “الهايكو”. إذن هنا نحن أمام سرّ آخر هو اهتمام بورخيس بأصل الأشكال. وهنا نقع على فكرة “النص النهائي” التي ظلّ يرفضها، لأن النهائية “لا تتعلق سوى بالنص الديني أو الكسل”.

إذا أردت أن تتعلّم شيئاً اقرأ بورخيس، هذه هي نتيجة الغوص في 254 صفحة من الكتاب. إنه درس الدهشة الأدبية (الأرجنتينية/ اللاتينية)، الممزوجة بالدهشة اليابانية والإغريقية. دهشة تتعلّم من كل شيء، من شكل الحرف إلى أصل الأدب إلى دورة الزمن. درسٌ شامل في كيفية الحكم على ما تقرأ من روايات أو قصص أو أشعار، حيث يكون من الأفضل الحكم على العمل في كلّيته، أما الأجزاء والتفاصيل فهي موطن الشيطان.

يقول بورخيس متحدثاً عن كاتب اسمه “لوجونس”: “إذا تأمّلنا عمله كله، فهو كاتب كبير، لكن إذا أخذناه صفحة صفحة، نصادف الكثير من الرداءة” (ص. 31). الصورة النهائية للعمل هي الأهم، لأنها هي ما تبقى عندنا. بهذا المعنى يتحدث بورخيس عن كل الكُتّاب: بودلير، دوستويفسكي، بروست، فولكنر، فيرجينيا وولف، ابن عربي… إلخ.

إن النظرة الكلية هي مصدر تقدير للأدب والأدباء عبر تاريخ طويل لا نهاية له. تاريخ مليء بالتضحية. كل هؤلاء “ضحّوا بأنفسهم حتى يكون في المستقبل كتّاب أكثر جودة منهم”.

________
*ضفة ثالثة

شاهد أيضاً

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي

“المثنوى”و”شمس” من كُنوز مَولانا الرُّومي منال رضوان     المثنوى المعنوى، وديوان شمس لمولانا جلال …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *