هل نخسر الأدب؟

*ياسين طه حافظ

لعلّه سؤال صادم أو هو سؤال لا يبشر بكلام طيب وراءه. ولكني اتحرك في المنطقة الوسط لا اريد الاحتكاك سلفاً بأيّ من الحدين أو من المملكتين. مملكة الأدب والمملكة البديلة التي رسمت لنفسها حدوداً ولم يتضح تكوينها بعد.

في بلادنا اختلاف لدور الادب ولمستوى الاحترام له عما في أي بلد وحتى عن الآداب الاوربية التي ابتعدت عن السذاجة والتبسيط. فنحن لا نجد في شعر القرن التاسع عشر هناك قصائد، اشعاراً عن الختان والاعراس والولائم والترحاب بقدوم أو ثناء على فضل أو مبادرة لزيارة اطمئنان. لا نجد هذا الفراغ الكبير كما هو الحال عندنا فلا رواية مهمة ولا مدرسة فكرية غير ما ورثناه. ما هو حاضر هو الادب  والاهتمام في القصائد. وهم الشعراء الذين يشتمون، يحرضون ضد الاوضاع المزرية، ضد الحكام أو ذم من يكرهون. انه الهجاء الذي ارتدى بزةً أخرى فحظي بقبول. هل يمكن القول لم يكن لنا في القرن التاسع عشر ادب؟ لكي لا نستفز المعتزين بما كان، نقول كان لنا ادب متخلف وكانت بذور تتلامع بانتظار أن تكون ادباً جديداً ومختلفاً. لكن الادب، وقد انهينا الآن الربع الاول من القرن العشرين، لا يقنع أحد بما حققه من تقدم. شعر تقليدي بثيابه وموضوعاته القديمة وبدايات كتابات قصصية، نحترمها بشائر خير، لكننا غير مقتنعين بها فناً روائياً متقدماً. هي كتابات مضحكة اذا قارناها بروايات القرن التاسع عشر، أي قبلها بقرن، في بلدان اخرى. لنا محترفو خدمات سياسية في قصائدهم ذوات الايقاعات المتكررة والمتسترة بعيوب المجتمع لا المزهوة بالفن الجديد لتكسب الاهتمام.
وما أن بدأ الأدب الجديد وعرفنا ماذا يعني الشعر وماذا يعني الشخوص المأزومون والمتمردون والباحثون عن حل والذين تشققت قشرة الكلام عن مكبوتاتهم، حتى برز ثانيةً أولئك الذين كانوا يوظفون الأدب لأغراضهم. حججهم كثيرة، منها حاجة الناس وخدمة المجتمع. وهذا ايضاً يعني حاجة احزابهم وفئاتهم وتنافسهم على السلطة أو على الحضور الاجتماعي أو الجدوى عبر الولاءات والافكار. أن اهتمام الساسة، اهتمام الاحزاب والحركات الوطنية بالشعراء ، أيّ بأصحاب الطاقات التعبيرية سببه انهم يحتاجونهم اصواتاً للتظاهر. يريدون فصحاء خطباء ونظامين. هم احتفظوا بصوتهم لاغراض اخرى وصيّروا الادب صوتهم الثاني لمخاطبة الحشد. طبعاً لا لينتجوا ادباً ولكن لينقلوا عبر هذا الادب افكارهم وهنا المطب! هو منزلق آخر سقط فيه من كان يمكن أن يكونوا أدباء كباراً …
وبدلاً من أن يؤدي هذا الاهمتام بالأدب، بأساطين اللغة، البلغاء، النظامين… الى مرحلة جديدة في الادب هم على حدودها، حضر الالتزام. حضر بدْءَ التفتح وقسم الحركة الادبية الى قسمين. قسم وحده لا يكفي لاحداث التغيير وقسم ارتضى المهمة الوطنية واتقد حماسةً للجديد وانه سيجدد من خلال، وفي الدائرة التي ارتضاها فهي شاسعة ويمكنها أن تستدعي الافكار الانسانية وتنشئ فيها ابداعات جديدة. استند كلامهم هذا الى ما يشهدون من شعراء وكتاب عالميين حققوا مجداً في العالم كله. لكن لماذا لم يتحقق عندنا مثل ذلك؟ السبب أن أولئك متصلون بالعالم لغاتٍ وثقافات وهم ينطلقون من ارض خصبة في ثقافاتها وفنونها. بينما نحن نعيش على مقطوعات وبضع كتب تُرجِمَتْ وما نسمعه ويقال لنا.
السياسة غير معنية بالتقدم الفني ولا بغنى الموضوعات. حاجتهم واضحة ومحددة  وما تبقى لحسن المظهر أو للزهو الحضاري وامتياز التجديد. وكما كان زمن الخلفاء والسلاطين برز في هذه المرحلة شعراء. الفرق واضح اجتماعياً، ان أولئك كان ولاؤهم وخطابهم للحاكمين وهؤلاء للحركات الوطنية وللاحزاب التي ينتمون اليها أو لعموم المشاعر الوطنية.وبسبب من هذه الازدواجية، الرغبة بالتجديد والحضور ضمن ظواهر الفن الجديدة وبين المهام الاجتماعية، هم لم يقطعوا صلتهم بالعمود الشعري ولا بالهجاء الاجتماعي لأنهما حاجة جماهيرية متوارثة. وتبنوا الهم الاجتماعي أو الوطني الذي كان، وما يزال، مثيراً ومطلوباً. لكنه من ناحية اخرى اثقلَ خطى التقدم  الى الجديد.
يحضرني الآن شاعران كبيران لا مجال ابداً للتقليل من شاعريتيهما، هما الجواهري الكبير والسياب المجدّد والكبير. بينهما عبد الوهاب البياتي هو الذي انتبه مبكراً لهذا الحرج، فاستطاع بذكاء أن يذوِّب الثورية بالشخصي والتراجيدي بالصوفي ويبقى شاعراً حديثاً محتفظاً بالحس الثوري. صحيح هو تحدث عن الثورة الخائبة لكنه تحدث عن خيبة الانسان أو عن خيبة مسعى العشاق، بتعبير شكسبير!
ولذلك زيادة اهتمام السياسيين واصحاب الاهتمام السياسي، الوطني أو غير الوطني، زيادةً عن الحد، هي، كما يقول كالفينو، نذير سوء. هو اهتمام في معظمه ضد الادب. لأن الادب سيحيق به الخطر الداهم وهو تحت رعايتهم. لكن ثمةَ نذير سوء آخر عندما لا يبدي الناس اهتماماً بالأدب. ونحن نعرف مثلاً ما يقوله الجنرالات والاطباء الكبار والمحامون واصحاب الاعمال في الادب. واي ملامح تبدو اذا ذُكِرَ امامهم! مثلُ هذا يحدث بقدر كبير مع اكثر السياسيين، الاقطاعيين والبرجوازيين جهلاً وتبلّدَ حس. فهم حذرون يخشون الادباء غير المترزقين، يخشون من أي استعمال للغة يضع مصداقيتهم موضع شك …
المشكلة تبدو بحجمها الكبير المؤسف حينما يكون الحل، وهو حل مغامر، بالتجاوز والتجديد. فالطليعيون من الادباء يعانون من قلة القراء. هذا وهم في اوربا مثلاً. فكيف هنا ومستوى عموم القراء عندنا كما تعلمون ؟ نحن عموماً نعرف الكتب الرائجة!

___________
*المدى

شاهد أيضاً

أول رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي

(ثقافات) أوَّل رسالة دكتوراة رقمية تفاعلية في الأدب العربي: أركيولوجيا الصورة في رحلة ابن بطوطة …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *