تمرةُ الغراب…قراءة في السلسلة القصصيّة تاجر الأوهام للكاتب محمّد النّعاس*

خاص- ثقافات

*عبد المولى الشريف

أواخر العام 2015 وبعد حصوله على جائزة خليفة الفاخري للقصة القصيرة والتي نظمتها حركة تنوير بالتعاون مع المكتب العربي لإذاعة هولندا العالمية ، أطلق الكاتب الليبي محمد النعاس عبر مدونته الشخصية سلسلته القصصية الجديدة والمعنونة بأوراق التوت تاجر الأوهام ، والتي تتناول الشخصية الليبية عبر أحداثها التي تدور في حي التوت وهو حي متخيل يقع على أطراف العاصمة طرابلس .

الذي لفت انتباهي وشدني في القصص السبع المنشورة من هذه المجموعة هو موضوعاتها الساخنة الملتقطة من الأحداث اليومية للوضع الإجتماعي المعقد في ليبيا ، وبحكم دراستي في علم الإجتماع وإطلاعي على الغياب التام لأمثال هذه المتون الأدبية التي تعكس الواقع عن مناهج كليات العلوم الإنسانية في ليبيا وحضور مناهج في غالبيتها ماضوية من هنا تحديدا جاءت فكرة كتابة هذه القراءة في مجموعة تاجر الأوهام للنعاس ، قراءة إنطباعية تركز على موضوعات القصص وتحولات شخوصها ، وإمتدادتهم في الواقع الإجتماعي الليبي وأهمية مثل هذا النوع من الكتابة لتوثيق المرحلة المعقدة التي تمر بها ليبيا على جميع المستويات ولعل أهمها إجتماعيا .

في البداية يعرفنا الكاتب على شخصية تاجر شجرة التوت الذي يتخذ من الشجرة مستقرا له يجلس في سيارته وينتظر  الزبائن كل يوم يبيعهم كل شيء وما النعاس كاتبنا العزيز إلا أحد هولاء الزبائن الذين إنتهى بهم المطاف في سيارة  التاجر الذي يهنئه بالجائزة التي فاز بها ويعرض عليه فكرة هذه السلسلة القصصية التي تدور أحداثها في حي التوت وينتهي بعقد هذا الإتفاق معه : ” ما رأيك يا سيدي الكاتب؟ ما رأيك بأن نعقد صفقة العمر بيننا؟ تعبت من الدنانير التي تجزيها عليّ ، ما رأيك أن نوقع عقد اتفاق وتعاون بيننا؟ ما أحتاجه لن أخبرك به حتى موعد احتياجي له، وبما أنني أعرف ما تحتاجه، سأوفره لك منذ هذه اللحظة، هيا لا تتردد، ستصبح كاتب الكتاب وعميد ما تريده ، إنها فرصة العمر لا تتكرر…سيأتي يوم وتلعن نفسك إن لم توافق. تفل في يده، طلب مني أن أتفل في يدي، وضع ورقة بين يدينا وتصافحنا، نظر إلى الورقة بزهو، كانت عيناه تمتلئان بالنصر، قال إذ ذاك: حسناً.. “

إذا تم عقد الاتفاق ، التاجر سيوفر موضوعات القصص والكاتب سيكتبها على أننا سنلاحظ أن شخصية التاجر تتداخل في السرد في كل قصة تقريبا فتارةً يتولى هو مهمة قيادة السرد وتارة يتولى الكاتب هذه المهمة ، فمن تكون هذه الشخصية من يكون هذا التاجر ؟

يبدأ النعاس هذه المجموعة بقصة أشرف 27 سنة خريج كلية الطب البشري والثائر الذي قضى ستة أشهر مصابا خارج البلاد ، والذي لم يترك عملا إلا وعمله وفلح فيه باع السلاح وهو لا يزال طالبا وثار ضد نظام القذافي تاجر بالدولار هكذا هو أشرف لم يستقر في عمل وكان يتردد على التاجر الذي يقول عنه : ” كان يعاني من ما قد يمكن أن تسميه في المصطلحات العلمية ” الوسواس القهري”، كائن ما احتل عقله وخرّب مجموعة من الأعصاب وهو يضع عقلاً مختلفاً عن غيره “

لينتهي به الحال صيدلانيا نهارا وصانع حبوب مهلوسةٍ ليلا ، وكل هذا بمعية التاجر ، أما جريمته فبدأت بشكه في خيانة زوجته حياة زميلته السابقة في الكلية ، هذا الأمر جعله يتآمر مع إبن عمه على أن يبيت مع زوجته ليدخل عليهم أشرف ويثبت شكه بخيانة زوجته ويرديها برصاصتين في لحظتها قبل أن يضيف الرصاصة الثالثة في رأس ابن عمه .

 في ثاني القصص والموسومة برجل الحاوية نتعرف على داوود الأمريكي 35 سنة أعزب ، داوود نتاج التربية على ثقافة الأخر لا يعرف عن مجتمعه إلا أنه مجتمع بدويّ صحراوي متخلف لأنه : ” كان يتمتع بحالة من الرهاب وتأزم في الغرق داخل بحر الثقافة الأمريكية سماه الناس الأمريكي، هنا ووسط أناس يشار لهم بالإرهابيين والمتوحشين كان يتصور أنّه يعيش وسط حفنة من الكائنات الفضائية، يراهم بدواً يرتدون الأعبية تلفهم الصحراء أو بدلاً التصقت بها أتربة القبليْ ممزوجة بالقمامة المرمية في بطن الطريق مخلوطةً بالقاذورات ورائحة المجاري، أوبئة يمكنها أن تقتنص حياته كما قد كان سيفعل السقوط من أعلى دولابه، الليبوفوبيا التي حملها داخله جعلته يحاول أن يصنع بالوناً يحميه من كل شيء يمشي، يزحف، يطير أو حتى تتناقله حبات الغبار على هذه الأرض إلى اليوم الذي يأتيه فيه بطله ويطير به بعيداً عن اللعنة المصابة بها ولايات الإغريق الثلاث. ” داوود كان من الحالمين بالهجرة ما جعله يقضي عمره في إكتناز المال ، وهذا ما قاده إلى سيارة التاجر طمعا في أن يشتري بطله الذي سيطير به بعيدا عن هذه البلاد . . لينتهي به الحال وبمعية التاجر في يد إحدى عصابات الخطف والإبتزاز مقيدا يرتعب داخل إحدى الحاويات .

في القصة الثالثة سيف الخلافة نتعرف بالشيخ البرونصي البشرة بلال اليتيم الصوت الصادح بالحق داخل حي التوت وصاحب البضاعة التي لا تبخس لأن تجارته كانت مع الله يبيع عقود التزكية لأهل الحي بمعية التاجر ، وبمعية التاجر أيضاً ينتهي به الحال في أحضان دولة الخلافة ، بعد أن ذبح غريمه كمال الصايع في حي التوت دون رحمة ودون أن يرف له جفن . . كمال الصايع الشخصية الرئيسية في القصة الرابعة قداحة الصايع ومن هنا يبدأ النعاس تقريبا في ربط السلسلة ببعضها البعض .

القصة الرابعة قداحة الصايع الثلاثيني الذي لم يعمل منذ صغره إلا في قراءة الكتب والمتشبع بالنظريات الشيوعية ، وابن البادية في آن واحد ! ، والذي يعيش في حياة مترفة في أرقى شقق حي التوت والشيوعي أمام الرفاق في المقاهي ، كمال يعيش حياةً قوامها التناقض الصارخ كمال الذي تربي مع أبناء قبيلته على حفلات مضاعجة الحيوانات ، وينتهي به المطاف في ممارسة اللواط ، كمال كان أحد زبائن التاجر إلا أنه حدثت مشكلة بينهما لينتهي به الحال تحت رحمة موسى الشيخ بلال بتهمة الإلحاد والزندقة .

 في خامس قصص المجموعة والتي كانت على جزئين تحت عنوانين مختلفين الأول فرعون الألف ليلة وليلة والجزء الثاني نجيب العشرون ليلة وفي الجزئين يعود بنا النعاس إلى القصة الأولى لنتعرف على نجيب ناجي 27 سنة شاب مصري خريج كلية الطب البشري والابن الوحيد لطبيب مصري هو من أحد الأطباء الشخصيين للقائد ، نجيب ناجي ليس كغيره من العمال الوافدين لليبيا أدرك مبكرا ما يتعرض له الأجنبي الوافد في هذا المجتمع فتعلم كيف يخفي مصريته جيدا أمام البدو الذين يعيش معهم فكان لا يتحدث بلهجته إلا مع( أشرف شخصية من القصة الأولى) زميله أيام الكلية ورفيق العمل في الصيدلية كانا يعملان معا بإقتراح من التاجر في صناعة الحبوب المهلوسة والإتجار بها ، كما في عصابة للخطف والإبتزاز ، نجيب كان يعاني من عنصرية تجاه المجتمع الدخيل عليه عنصرية تكونت عنده مع السنين كرد فعل على ما يراه من معاملة لأبناء جلدته وهذا ما أضطره مبكرا أن يتعلم كيف يخفي نفسه أمامهم ، ولا يظهرها إلا مع أشرف زميله في البزنس ، إلا أن أشرف لم يشفى غليله بعد من قتله زوجته وابن عمه ، ليتجه شكه وبتلميح من التاجر إلى نجيب الفرعون ، لينتهي الفرعون تحت رحمة أشرف أقرب من في هذا البلد إليه .

القصة السادسة والتي جاءت في أربعة أجزاء هي أطول قصص هذه المجموعة وفيها نتعرف على مسعود سعد مسعود الجديد الملقب بالطلياني 33 سنة وهو سليل عائلة متشبعة بالإنتهازية وإستغلال الفرص ، يجد نفسه بمعية وتخطيط من التاجر وعبر سلسلة من الأحداث المعقدة على مدار أربعة اجزاء صحبة كلب في سويسرا ـ وقصة  مثيرة تهز الصحافة السويسرية عن شاب ليبيّ قطع المتوسط من أجل كلب جاء طالبا اللجوء له في سويسرا فلنقرا معا هذا الجزء من القصة : ” ليس جيداً أن تبقي كلباً في الظلام…إن لم يكن مسعوراً سيصبح كذلك، إن الناس في ليبيا يبقون كلابهم في الظلام لا يرون الشمس لأشهر إلا في أوقات الطعام حتى يتوحشون فيتمكنون من حماية منازلهم من اللصوص والمتلصصين ” ولنواصل هنا أيضاً : ” الأمر أنّ الناس في بلدي لا يهتمون كثيراً بالحيوانات، هناك القلة من يفعلون ذلك لا أنكر هذا، لكن السواد الأعظم لن يهتم كثيراً بكلب صدمته الحياة بأن يكون ضحية الميلاد في الأزقة، كائنات الأزقة والشوارع سواءً أناس أو غيرهم هم الدرجة الدنيا من مجتمعي ” قبل أن نكتشف أن القصة كلها مفبركة من أجل اللجوء ، لينتهي الحال بمسعود ضحية إنتهازه الموروث مشردا في متنزهات زيورخ .

خاتمة هذه القصص جاءت تحت عنوان إغتيال الفراشات وفيها أول حضور نسائي مكثف في هذه المجموعة حيث نتعرف على ملاك الرائد 20 سنة من سكان حي التوت ينتهي بها الحال في سجن الأمن الداخلي لأن شقيقها عبدالسلام كان من الثوار المتمردين على نظام القذافي وفي السجن نلاحظ خوض ملاك عديد الحوارات عن وضع المرأة في المجتمع : ”  لم تكن الجدران التي تلفنا هي ما يقض مضجعنا بل الأجواء والابتعاد عن البيت ، الإحساس بالغربة وبانعدام الآمان، السجن الاعتيادي الذي يحرسنا فيه أهلنا ”  وهنا أيضا ملاك متحدثةعلى لسان رفيقتها في السجن : ” كانت تجيب على تساؤلاتي إتجاه تصرفاتها الغريبة وتجاهلها لوجودها هنا ” نحن يا حبيبتي في السجن… سواءً هنا سواءً في المنزل” ” .

من الأمثال التي يوردها الثعالبي في التمثيل والمحاضرة : ” فلانٌ وجد تمرة الغراب ” يضرب لمن أصاب ما يريد ، لأن الغراب إنما ينتقي من التمر أجوده وأطيبه ـ وهذا ما يبدو عليه النعاس في تقديري في هذه السلسلة قابضا على تمرة الغراب ، ينتقى أكثر المواضيع جوهرية : اليوميّ الساخن المسكوت عنه والمهمش في المجتمع ويعيد إنتاجه ببراعة العارف ليعكسه في مرآة السرد ببراعة ، إن كل هولاء الأبطال السبعة موجودون في الواقع الليبي والطرابلسي على وجه الخصوص حيث تدور أحداث القصص ، فأشرف الثائر الذي إنتهى به الحال قاتلا مجنونا موجود في كل مدينة ليبية ، وداوود صاحب الفكر المغلق والمعقد الحالم بما وراء البحر فما أكثر داوود هنا ، والشيخ بلال رجل الدين الذي إنتهى به الحال في أحضان دولة الخلافة فهو في كل شارع ، أما كمال صاحب الشخصية المتناقضة دعيّ الثقافة والمدنية والبدويّ في آن ستجده في كل مقهىً :  يسألك عن قبيلتك وأصلك وعرقك في تناقض صارخ قبل أن يرفع لك شعار الدولة المدنية التي نريد ! ، أما الفرعون فالقصص عن العمال الوافدين وما يتعرضون له وردود أفعالهم فهي كثيرة ، ثمّ مسعود الإنتهازي بالوراثة يكفينا أن نتطلع إلى التعاملات والرشاوي داخل الدوائر الحكومية كأبسط مثال ، مثال آخر هو تهريب ثروات البلاد أيضاً ، أما عن المرأة فليست في ليبيا فقط بل هي في تقديري في المنطقة بأسرها : تربت على أن تكون فراشةً ما يجعلها على الدوامِ ضعيفةً سجينةً ومُغتالةً .

………

في محاولة للإجابة عن السؤال السابق من تكون شخصية تاجر الأوهام ؟

:

تاجر الأوهام في تقديري هو بطل هذه المجموعة بإمتياز فهو الذي أشار على أشرف بجريمته وعلى يديه إنتهى داوود مجنونا ، وبحجر واحد أنهى بطلين من أبطال هذه المجموعة هما الشيخ بلال وكمال الصايع والتاجر أيضا من ورث الفرعون وبتخطيط منه وصل مسعود إلى سويسرا . . تاجر الأوهام دون كيشوت حي التوت بجدارة . . إن التاجر هنا من الممكن أن يكون أي شخص نعرفه  ـ وأشمل نفسي هنا ـ  من المجتمع مليء بالقصص ، القصص التي في جلها إن لم تكن كلها لا يرضى إلا أن يكون هو البطل على الدوام . . إن إختيار النعاس لكلمة تاجر على ما يبدو له دلالة رمزية معينة فالتاجر كثير اللقاء بالناس وكثيرة هي القصص التي تمر عليه والجوه والأسماء ، أما الوهم فهو وهم البطولة الذي يجعل من التاجر دون كيشوت بإمتياز أو بطلا من ورق وما أكثرهم هنا .

*محمّد النّعاس كاتب ليبيّ شاب من مدينة تاجوراء شرق طرابلس . . له تاجوريا مجموعة قصصية ، ورواية إنسان .

_____________________________

للأمانة : رابط مدونة الكاتب وفيه السلسلة القصصية التي تتناولها هذه القراءة

__________

*شاعر وطالب علم اجتماع من ليبيا

 

شاهد أيضاً

فصل من سيرة عبد الجبار الرفاعي

(ثقافات)                       الكاتب إنسان مُتبرع للبشرية …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *