عندما قطعوا رأسي…

خاص- ثقافات

*محسن حامد/ ترجمة: إبراهيم قيس جركس

أسمَعُ صوت زجاج النافذة يتحطّم. لكنني لم أترك مكيّف الهواء في وضعية التشغيل، لذا هذا سبب تحطّم زجاج النافذة. أقوم من سريري. أتمنّى بأني لم أكُن في عمري هذا. أتمنّى لو كنتُ عجوزاً مثل والِدَي. أو صغيراً كابني. أتمنّى لو بلم أكُنْ أنا مَنْ عليه القول لزوجتي أن تبقى في مكانها، وأقول لها بأنّ كل شيء سيكون على مايرام بلهجة لم تكن لتصدّقها هي، ولم أكُن لأصدّقها أنا نفسي. كلانا يسمع الأصوات والصيحات بالطابق السفلي. “ضعي عليكِ بعض الملابس”، أقول لها، “سيكون من الأفضل أن تغطّي جسدكِ”.

انقطعت الكهرباء، لذلك أنا أستخدم ضوء جهازي الخليوي لأعثر على طريقي. أسمع أصوات رجال يصعدون الدرج الخشبي مهرولين. أغلق باب غرفة النوم  خلفي وأقفله. ظلال تتسابق وتتقدّم وتتقافز على ضوء المشاعل. أرفع يديّ مستسلماً، “أنا هنا”، أقول لهم. أريد أن أقول ذلك بصوتٍ مرتفع ومسموع، لكنّ صوتي بدا كهمس الأطفال. “أرجوكم، كل شيء على مايرام”.

أنا الآن مُلقى على الأرض. ضربني أحدهم. لا أعرف ما إذا كان قد ضربني بقبضته أم بعَقب البندقية. فمي مليء بسائل غريب. لا أستطيع إخراج كلمة واحدة منه. أتلعثم وكأنّ شيئاً ما كبيراً موضوعاً داخل فمي، لذا عليّ أن أُبقيَ فكّي مرتخياً ومتدلّياً نحو الأسفل لأتمكّن من التنفس. يداي خلف ظهري مربوطتان من المعصمين. يبدو وكأنّه سلك كهربائي، ذلك النوع من الأسلاك الذي تربطه حول كرة مضرب عندما تلعب لعبة كريكت الشوارع في طفولتك. أنا الآن مُلقىً على وجهي، واشعر بألمٍ مُبَرّحٍ من وضعيتي، لذا أحاول إصدار بعض الأصوات قبل أن أفقد الوعي.

أنا الآن بين رَجُلَين. إنّهما يحملانني من تحت إبطَيّ ويجرّانني من باب منزلنا الأمامي. لا أدري كم مضي من الوقت. لكنّ الليل لم ينجلي بعد. أرى أنّ الكهرباء قد عادت، وأضيئت مصابيح البوّابة الأمامية. الحارس يبدو ميتاً. إنّه رجلٌ عجوزٌ، وهو يرقد الآن بلا حراك متكوّراً على نفسه وكأنّه كان يتلوّى من شدّة الألم. وجهه يبدو نحيلاً وشاحباً. كأنّه كان يتضوّر جوعاً. أتسائل كيف قتلوه. أنا أنظر إليه، أبحث عن أيّة إشارة أو دليل على وجود دم. لكنّني لا أمتلك الكثير من الوقت.

أعتقد أنّهم أربعة رجال. يركبون سيارة من نوع تويوتا كورولا 81 فضية اللون. كُنّا فيما مضى نمتلك سيارة كهذه عندما كنتُ صبياً صغيراً. لكنّ هذه السيارة تبدو في حالة يرثى لها. إنّهم يفتحون صندوق السيارة الخلفي ويحشرونني بداخله. لا أستطيع أن أرى أي شيء. جانب وجهي يستلقي فوق أرضية الصندوق الصلبة، أمّا الجانب الآخر يستند على إطار العجلة الإحتياطية. أشعر بإطار العجلة يتلصق بوجهي. أو ربما وجهي ملتصق به. الإطار يضرب وجهي بقوّة في كلّ مرة تمرّ فيها السيارة فوق مطبّ أو حفرة. يبدو الأمر شبيها بزيارتي لطبيب الأسنان، عندما تشعر بالألم أثناء العملية، وأنت تعرف في صميم قلبك أنّ الأمر سيزداد سوءاً، لكنك تنتظر وتُحامل وتقنع نفسك أنّ الألم سيخفّ قريباُ.

أشعر بأنني محموم، تصيبني حمّى شديدة كحمّى الملاريا تجعلني أرتعش وأتنقّل مابين حالة النوم واليقظة. أرجو ألا يكونوا قد قتلوا ابني وزوجتي ووالِدَيّ. أرجو ألا يكونوا قد اغتصبوا زوجتي. أرجو أن يفعلوا مايشاؤون بي، لكن دون أن يسكبوا الحمض عليّ. أنا لا أريد الموت، لكنني لا آبه. كل ما هنالك هو أنني لا أريدهم أن يعذّبوني. لا أريد لأحدٍ أن يسحق خصيتي بكمّاشة حديدية، أو أن يطفئ سيجارته في مقلتي. لا أريد لهذه السيارة أن تبلغ نهاية رحلتها. بدأت أعتاد على وضعي الحالي.

إنّهم يخرجونني من الصندوق. أرى نور الشمس. إنّهم ضخام الجثّة. أضخم منّي. إنّهم يقتاونني الآن إلى داخل منزل بجدران التصقت عليها بقايا قشور طلاء قديم، ووضعوني داخل حمّام بدون نوافذ، فقط مصباح كهربائي يتدلّى من السقف. كنتُ قد بَلّلتُ نفسي وملابسي عندما كنتُ بداخل صندوق السيارة، والآن أشعر بحكّة رهيبة في قدماي نتيجة البول الجاف. أنا لا أصدر أيّ صوت. أنا فقط أجلس هنا لا أبارح مكاني، أهَيّئ نفسي للتعاون معهم. أتمنّى لو أتذكّر كيف أصلّي، لكنتُ طلبتُ منهم أن يسمحوا لي بالصلاة. وأثبت لهم بأنني مثلهم أشبههم، لكن لا يمكنني المخاطرة في ذلك, فسأرتكب خطاً ما حتماً، وإذا لاحظوا ذلك، ستسوء الأمور أكثر بالنسبة إليّ. ربما يمكنني التمتمة بكلمات غير مفهومة أو مسموعة، وسيعتقدون بأنّني متديّن وأصلّي.

يعودون إليّ عند حلول الظلام. إنّهم يتكلّمون بلغة لا أفهمها. لا أعتقد أنّها العربية أو الباشتوية. ما كنه هذه اللغة؟ هل هي شيشانية؟ ما هذه اللغة اللعينة بحقّ الجحيم؟ من هؤلاء حقاً؟. الدموع تنساب من عيناي. هذا جيد. كلّما بدوتُ مثيراً للشفقة أكثر، زادت فرصي في النجاة. “أسيادي”، قلت بلجهة أوردية مستعطفة قدر الإمكان، “ما الذنب الذي اقترفته؟… أرجو منكم السماح”. فمي لا يعمل بطريقة مناسبة، لذا يجب عليّ التكلّم ببطء. حتى أنّني أبدو كرجل مخمور، أو كأنّ أحدهم قطع نصف لساني.

إنّهم يتجاهلونني. أحدهم يجهّز آلة تصوير مرفوعة على ثلاثة قوائم. ورجلٌ آخر يركّب مصباحاً موصول بمدّخرة شبيهة ببطارية السيارة ويسلّط الضوء أمام آلة التصوير، موقع التصوير. أعرف تماماً ما الذي يجري. أنا لا أريد حدوث أياً من ذلك. لا أرغب أن أكون ذلك الكبش. مثل الكبش الذي أحضره والداي من أجل “العيد الكبير”. كنتُ أعلفه بعد عودتي من المدرسة. أبقيناه مدّة أسبوعٍ كامل. كنتُ أكسر له باقات خضراء من الشجيرات المتاخمة للسياج الذي كان يحيط بالمكان الذي كنّا نضعه فيه، وكنتُ أقدّمها له. كان كبشاً لطيفاً، لكنّ عينيه كانتا ميّتتين. لم تعجبني عيناه آنذاك، بل كنتُ أحبّ الطريقة التي يمضع بها طعامه. كان حيواناً أليفاً ومُدَلّلاً. أنا لم أدَلّله، لكنّه كان أليفاً. كان يمتلك قدمين ضئيلتين، وكان يرفع بهما بدنه فوق حجارة السياج ليصل إلى أوراق الشجيرات الخضراء. والداي جعلاني أشاهد ذلك الرجل الذي قَدِمَ إلينا في يوم العيد وطرح الكبش أرضاً وثبّته، تلا صلاةً قصيرة، ثمّ قام بذبحه قرباناً إلى الله.

“انظروا، لا تفعلوا ذلك، رجاءً”. الآن أنا أتكلّم بالإنكليزية، أتأتئ وأتفوّه بكلام غير مفهوم. الكلمات تسيل من فمي بشكل تلقائي. لا أستطيع منعها من الخروج. إنها مثل دموعي تماماً. “كنتُ ملتزماً دوماً. لم أكتب شيئاً عن الدين. لطالما كنت محترماً طوال حياتي. إذا كنت قد ارتكبتُ خطأً ما، رجاءً أخبروني. قولوا لي ماذا أكتب. لن أكتبَ مجدداً. لن أكتب حرفاً إذا لم تكونوا تريدون ذلك. الآمر برمّته لايهمني. إنه ليس بالأمر الهام. صدّقوني. أنا مثلكم، نحن متشابهون، أقسم لكم”.

يضعون شريطاً لاصقاً على فمي، ويطرحونني أرضاً على بطني. أحدهم يقف خلفي ويشدّ شعري رافعاً رأسي حتى تنكشف رقبتي. لا يخلو الأمر من بعض الإيحاءات الجنسية، إذا يبدو كإحدى الحركات التي تشاهدها في الأفلام الإباحية. أتسائل ما إذا كانت زوجتي على قيد الحياة، وإذا كان ستضاجع رجلاً آخر من بعدي. ترى كم رجلاً ستضاجع؟… آمل ألا تقدِم على ذلك… آمل أنّها ماتزال حية.

أرى الآن السكين الطويلة أمامي يمسكها الرجل الرابض فوقي. أسمعه يتحدّث موجّهاً كلامه إلى آلة التصوير. لا أرغب في المشاهدة. أغمض عيناي. أريد أن أفعل شيئاً يجعل قلبي ينفجر لأموت على الفور. لا أرغب بالبقاء هنا.

الآن أسمع ما يجري. أسمع صوت دمي يتدفّق خارجاً من أوردتي وشراييني، ثمّ أفتح عيناي لأرى الأرض مضرّجة مصطبغة بدمي كالحبر الأحمر، وأستمرّ في المشاهدة ريثما يفرغ كله من جسدي، وأغدو خاوياً كالجثة.

_محسن حامد: روائي من أصل باكستاني ولد في مدينة لاهور عام 1971. يعيش في الولايات المتحدة ويكتب رواياته باللغة الإنكليزية. أشهر رواياته _من بين عدّة روايات أخرى_ The Reluctant Fundamentalist، والتي ترجمت إلى اللغة العربية بعنوان “الأصولي المتردّد”، ثمّ تحوّلت غلى فيلم سينمائي. وله رواية حديثة صدرت مؤخّراً بعنوان Exit West قيد الترجمة الآن.

المصدر:

https://granta.com/a-beheading/

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *