الحنين إلى الخيمة

خاص- ثقافات

*يوسف غيشان

 

الرجل لم (يقّصر ) معها فقد أسكنها قصرا هو أكبر قصور الإمبراطورية، وأحاطها بالجواري والخصيان ، دندشها بالذهب والفضة والجواهر المستلبة من خزائن ملوك ذلك الزمن . لكنها أنكرت هذه النعمة العارمة وظلت (قالبة بوزها) وهي تنشد بكل حزن:

لبيت تخفق الأرياح فيه          أحب إلى من قصر منيف

 

….إلى آخر القصيدة التي تفضل فيها لباس الخيش على حرير القصر  ونباح كلب البادية على ضرب الدفوف ورقص الجواري والغلمان.

أما الرجل فهو معاوية بن أبى سفيان الخليفة الأموي الأول ومؤسس الإمبراطورية العربية الكبرى ، أما المرأة فهي ميسون بنت بجدل الكلبية زوجته ،وبنت وزيره الأول  .

هنا ندرك سر الشعرة غير المقطوعة عند معاوية ، لا شك في انه تعلم تلك الحكم الأباعر وحليب النوق  ونباح كلب اجرب يحوم حول جيفة نتنة.

نتمنى أن تكون  القصة مجرد زوجة نكدة ، إذ أن حلها سهل .. فيمكنه أن يبني لها خيمة قرب القصر كما يفعل الكثير من بدو الإنترنت حتى الآن ، وان يجلب لها شلية غنم وعدة بعارين وكلب اجرب ، وإذا لم يعجبها الأمر يمكنه أن يطلقها ويخلص من وجع الرأس والبنكرياس )وهذا مافعله معاوية فيما بعد).

لكن القصة  للأسف كانت تعبيرا عن  نمط تفكير أعرابي – عربي ، والعكس صحيح  ، وقد تنبه للموضوع أحد المستشارين النابهين لوزير الخارجية الأميركي  الأسبق هنري كيسنجر  ، ووضع أسلوب الخيمة والقصر في التعامل مع الزعماء العرب . ليس مجالنا هنا  الخوض في تفاصيل الدبلوماسية الأميركية، لكنه أسلوب نجح تماما  بل اكثر مما  توقع أصحابه … إذ تم التعامل مع الزعماء العرب على طريقة شيخ القبيلة الذي إذا أرضيته رضيت عنك القبيلة بأكملها وأخذت ما تشاء منها بكل طيبة خاطر ، وهذا يشمل العرض والأرض والمال والعيال ورأس المال ودكّة السروال . .

أقول نجح هذا الأسلوب اكثر مما توقعوا …  حيث تحول الأسياد إلى خدم في اقل من ربع قرن من سريان مفعوله ، وتحولوا من قول : نعم ، إلى قول :- نعم سيدي .

كان في السابق على رئيس الدولة  الأميركي أو وزير خارجيته أو من هو من ذات الفئة  أن يحصل على ما يريد ويأمر بما يشاء ، أما الآن فقد أنيطت هذه المسؤوليات غير الجسام  بموظف صغير في الخارجية أو في البنتاغون أو حتى في سفارة أميركا في كل دولة عربية.

الحنين إلى الخيمة دفع العربي الأعرابي إلى التآمر على إمبراطوريته فور نشوئها ، لذلك حاول استبعاد كل مكونات المدنية والحضارة  خصوصا تلك المكونات التي قد تلغي  إمكانية  تحول الدولة إلى مجموعات من البدو الرحل على الإبل ،لذلك تم استبعاد استخدام العجلة مع أن المركبات التي تجرها الدواب كانت معروفة من قبل حرب طروادة قبل نشأة الإمبراطورية اليونانية بقرون . كما انهم لم يقيموا السدود ولا الإنشاءات الكبرى ولا المسارح والملاعب والعمارات العظيمة … واعتبروا أنفسهم بدوا رحلا لا يربطهم رابط بالأرض عدا تجميع الجزية وتبذير أموال الرعية على الملذات . لم يراكموا رأس المال  ولم يأبهوا بغير الأماكن التي تصلح لنهب أموالها، فالمال وسخ يدين يربط الإنسان بهذه الدنيا الفانية.

مؤامرة الأعرابي على نفسه ظلت مستمرة حتى الآن ، لكن الإسلام والعروبة كانا يرقعان ما يفسده الأعرابي حتى أضناهما الأمر .

 اعتقد إننا في الطريق للعودة إلى الخيمة .. خلال اقل من ربع قرن …. حيث نفرح بجعير الناقه ونباح الكلب الأجرب ونتحول إلى محمية طبيعية لأنسان ما قبل التاريخ والجغرافيا.

_________
*كاتب أردني

ghishan@gmail.com

شاهد أيضاً

الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر

(ثقافات)  الكاتب والكِتابة وأثر فيرتر مصطفى الحمداوي يقول أومبرتو إيكو بإصرار لافت للانتباه: “لطالما افترضتُ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *