مُدن تهرب من بين اليدين

*د. حسن مدن

هناك مدن تنشأ علاقتنا بها قبل أن نراها. وما نفعله حين نراها هو أن نعقد مقارنة بين تلك الصورة التي تشكلت في أذهاننا وبين الصورة التي رأيناها عليها أو بها. من بين هذه المدن، بالنسبة لي، العاصمة الأردنية عمان، التي أزعم أن أكثر ما جعلني أعتقد أني أعرفها هو كتاب عبدالرحمن منيف «سيرة مدينة».
قرأت هذا الكتاب قبل سنوات، ثم رأيت عمان، فجهدت لأطابق أو أقارن بين سيرتين، رغم أن منيف، حتى وهو يكتب سيرة المدينة من حيث هي أمكنة ووجوه، ظلَّ ذلك الروائي الذي لم يستطع مقاومة إغراء السرد، رغم إصراره على أن «سيرة مدينة» ليس كتاباً روائياً.
أكثر ما استوقفني في كتاب منيف إصراره البليغ على أن المدن ليست هي المعالم، مهما بلغت البراعة في استعادة تفاصيلها، وليست المياه والأرض والأشجار، وهذه كلها أو بعضها لا تزال قائمة أو يمكن تخيلها، فالمدن لا تقتصر على البشر، رغم أن هؤلاء هم الذين يعطونها القوام والنكهة.
وعند الحديث عن الماضي يلاحظ الكاتب أنه لا يمكن استعادة الفترة الزمنية الماضية باستعراض ما وقع خلالها من أحداث، إذ رغم فائدة ذلك لأنه يضعنا في الطريق الصحيح، إلا أنه لا يوصلنا إلى ما نريد.
«المدينة، أية مدينة، كل هذه الأشياء معاً وغيرها، وقد تداخلت وترابطت وتفاعلت بحيث أصبحت مختلفة عن العناصر التي كونتها مع استمرار صلتها بها واختلافها عنها».
هذا ما يخلص إليه عبدالرحمن منيف في إيجازه لفكرة أن المدينة هي الحياة بتعددها وتنوعها، في الأمكنة والبشر ورائحة المطر وهي التراب أيضاً، هي الزمن ذاته لكن في حالة حركة. المدينة، بالنسبة للمراقب المرهف، هي طريقة الناس في النظر إلى الأشياء وطريقة كلامهم، وكيف تعاملوا مع الأحداث التي وقعت وكيف واجهوها وكيف تجاوزوها. إنها، والحال كذلك، تمثل الأحلام والخيبات التي ملأت عقول الناس وقلوبهم التي تحققت، وتلك التي طاشت ثم خابت، وكم تركت من العلامات والندوب والجروح، «المدينة هي الدموع التي تودع بها من غادروها مضطرين مؤقتاً أو إلى الأبد، وهي البسمات التي تستقبل بها العائدين».
هذه هي المدينة، وأشياء أخرى كثيرة وتفاصيل صغيرة.. فهل يمكن استعادتها.. هل يمكن استعادة ضوء الشمس الغاربة أو القبض على لحظة الفرح التي كانت ثم مضت. هل نستطيع أن نسترد العاصفة أو نثبت أمواج البحر ونقاط المطر التي تهبط من السماء؟!
ولأن ذلك مستحيلاً، حتى لو حاولناه، لأننا نخفق في استعادة المدينة في لحظاتها الهاربة، نلجأ إلى التوقف عند بعض المعالم أو بعض التفاصيل ووجوه بعض الرجال والنساء الذين كانوا قد مضوا تاركين في القلب والذاكرة بعض الملامح. وهذا ما يفعله عبدالرحمن منيف في «سيرة مدينة»، لا لكي يعرفنا بعمان فحسب، وإنما ليعلمنا كيف نمسك بالمدن التي تهرب من بين اليدين.
ليس من طبيعة المدن أن تبوح أسرارها دفعة واحدة، أو للوهلة الأولى. المدن أسرار، وللإمساك بهذه الأسرار يلزم الرائي وقتاً. هذا إذا تحدثنا عن المدن الغريبة علينا، المدن التي تقودنا إليها الأقدار لهذا السبب أو ذاك. لكن ماذا عن المدن التي نعرفها، عن مدننا نحن؟!
الغريب أننا لا نعرف هذه المدن أيضاً، وإذا عرفناه كحاضر، فإننا لا نعرفها كتاريخ وكتحول. المدينة العربية هي اليوم عرضة لتغييرات ديموغرافية وثقافية وعمرانية سريعة وعاصفة تزيح الصورة التي كانت عليها هذه المدينة حتى قبل عقود قليلة. بحيث أن القاهرة التي صورها نجيب محفوظ في «الثلاثية» مثلاً لا تكاد تشبه في شيء القاهرة اليوم، وما يقال عن القاهرة يمكن أن يقال عن دمشق أو بغداد أو الدار البيضاء أو تونس وسواها من المدن العربية العريقة.
إن المدينة التي كانت تحيط بمركز تجاري وسياسي حي وديناميكي يشع بالحياة وبالنشاط الثقافي والفني، أضحت أشبه بالقرية الكبيرة التي تتمدد أفقياً دونما حدود، وتتغذي بالهجرة الواسعة إليها من الأرياف ومن الأطراف فيما تخفق هذه المدينة في تقديم الخدمات الضرورية التي يفرضها هذا التوسع، لأنه توسع عشوائي وغير مخطط، وبدل أن تكون هذه المدينة حاضنة للفئات الوسطى المتعلمة ذات الصلة بالمؤثرات العصرية، فإنها باتت تدفع إلى قاعها بالمزيد من الفئات المهمشة والمخلوعة التي لا تندرج في سياق اجتماعي محدد، وتهيئ بالتالي الأرضية النموذجية لحالات الاستلاب والاغتراب التي في ضوئها تتكاثر حالات التمرد العفوي الناقم الذي يفصح عن نفسه أحياناً في أشكال شديدة التطرف.
على أن الأمر لا يقف عند حدود هذا الجانب الاجتماعي المباشر، حتى لو بدا حاداً وعنيفاً. إن صورة مدننا العربية في مطالع القرن وما بعدها مشوشة وغائبة عن الذاكرة تماماً. وقليلة بل ونادرة هي تلك الكتابات العربية التي تؤرخ للمدن العربية، ليس بمعنى سرد الأحداث التي عرفتها هذه المدن، فتلك مهمة المؤرخين، وإنما نعني تلك الكتابات الحميمة الأشبه بالسيرة الذاتية للأشخاص، فتكتب سيرة المدن من حيث هي أمكنة وأزقة ومقاهٍ ووجوه وذكريات أليفة. وواضح أن مثل هذه «السيرة الذاتية» للمدن لا يمكن أن تكتب إلا من خلال رموز هذه المدن، أعيانها وشخصياتها الثقافية والاجتماعية الذين طبعوا هذه المدن بطابعهم، والذين أقاموا، بحكم حساسيتهم الخاصة، علاقة بالأمكنة التي تغرب للأسف الشديد.
وما من مدينة عربية تقليدية أخلت مكانها لمدينة حديثة لا تشبهها في شيء كما هي المدينة في الخليج. وهنا بالذات، أكثر من أي مكان عربي آخر، يبدو المكان مهدداً بفقدان الذاكرة، خاصة وإن رموز الجيل الذي يمكن أن يروي ذاكرة هذه المدن رحلوا ويرحلون. فهل شكل ذلك حافزاً لنا لأن نولي هذا الجانب الاهتمام الذي يستحقه، علنا نسجل شيئاً من ذاكرة أماكن وبيوت وأزقة ومدارس كانت لنا حضناً ذات يوم؟!
قبل سنوات قرأتُ شهادة للأديبة الكويتية ليلى العثمان عن: أثر «الكويت القديمة» في كتاباتها. شدتني الشهادة كثيراُ رغم عدم معرفتي بالأماكن الكثيرة التي تتحدث عنها ليلى، ولكني في تلك الأماكن كنت أرى صورة المدينة الخليجية القديمة عامة التي اندثرت لصالح مدينة أخرى لا تشبهنا في الكثير من أوجهها. إن مدننا اليوم عالمية ونتصرف فيها كما نتصرف في أي مدينة عالمية أخرى نزورها.
ومفهوم أن الأدب بالذات أكثر من سواه قادر على وصف تلك «النوستالجيا» القاتلة أحياناً لمدن وأماكن نفقدها، إنه أكثر من سواه قادر على الاقتراب من أدق التفاصيل وأكثرها تعبيراً التي تنسج علاقتنا نسجاً مع الأمكنة. وما زالت التبدلات في المدينة الخليجية، موضوعاً لم يدرس بعد كفاية ولم يكتب عنه إلا أقل القليل بالقياس مثلاً للمادة المكتوبة عن البحر وعالم الغوص أو حتى عن الصحراء، أما بواكير تشكل المدينة الخليجية بوصفها مرفأ وبوصفها علاقات تجارية ومصاهر أولى في التعليم والثقافة فإنها ما زالت بحاجة للكثير مما يمكن أن يكتب عنها.
تقول ليلى العثمان في شهادتها: «إن من عاش الكويت القديمة لا يمكن أن ينسى وجهها الدافئ وبساطة العيش فيها وذكرياته الحلوة والمرة، فالإنسان مهما نضج وكبر، يظل في قلبه مكان للطفولة، ويظل الحنين يشده لأصدائها، لأنها المكان الذي شهد مولدنا، وحملت نسائمه نطقنا الأول، واحتضن أحلامنا الصغيرة التي رفرفت بأجنحتها».
وهذا الكلام يصح على كل الأماكن وعلى كل المدن في الحقيقة. لكن في حال الحديث عن المدينة في الخليج يكتسب الأمر أهمية خاصة لأن غالبية الأماكن التي يدور عنها الحديث لم تعد موجودة أو قائمة. إنها أضحت مجرد ذاكرة بات حتى من الصعب استعادتها.
تقول ليلى العثمان أيضاً: «حين أمر من ساحة الصفاء اليوم، يشدني الحنين لذلك الزمن، أسترجع هذه الساحة التي فتحت قلبها للشمس والهواء وللبشر».
كم من الساحات في مدننا الخليجية، كساحة الصفاء في الكويت، أضحت عالماً آخر لا علاقة له بماضيه، فيشعل الحنين في نفوس أبناء ذلك الزمان لزمن فقدوه؟!
_____
*جريدة عُمان

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *