فخ الفايسبوك

*عبده وازن

قاومت الفايسبوك طويلاً حتى وقعت في فخّ إغرائه. لكنني حتى الآن ما زلت في موقع القارئ و «المعلّق» ولم استحل كاتباً فايسبوكياً. وقد أباشر ذات يوم الكتابة على صفحاته عندما أشعر أنني في حاجة إلى تدوين شذرات وانطباعات سريعة. فالكتابة هنا لا تحتمل الإطالة ومثلها القراءة، فقارئ الفايسبوك يبحث عن المختصر ولو لم يكن مفيداً دوماً. وهذا ما التمسه شخصياً على خلاف القارئ الذي أكونه إزاء الكتاب، وحينذاك تغدو القراءة ضرباً من المتعة الساحرة. وقد يكمن سر الفايسبوك في الإيقاع السريع الذي تفترضه الكتابة على صفحاته أو قراءتها، ناهيك عن استعراض «النصوص» البصرية من صور ورسوم ولوحات… وقد يكمن هنا أيضاً خطر الفايسبوك: صفحات تنقلب وتمضي لتحلّ محلها صفحات تنقلب وتمضي، وهكذا دواليك، حتى لتشعر أحياناً أنك تلهث وراء ما تقرأ ولا تكاد تلتقط نفساً. وإذا تأخرت يفوتك ما يفوتك من وقائع وأخبار وجمل، وغالباً يفوتك الكثير منها. إنها هنا متعة القراءة السريعة والمتوالية… وهذا ما يفرض عليك اختيار «أصدقاء» تحبهم أو تود متابعة أخبارهم وإصدارتهم وتعليقاتهم وانطباعاتهم. ولا يمكنك أن توسّع أفق «الأصدقاء» الطارئين الذين يطرقون باب الفايسبوك، فحينذاك ستضيع في غابة من الأسماء وتفقد لذة «التواصل». وحدهم أصحاب المشاريع الترويجية يستفيدون من هذا «البازار» المفتوح الذي قد يتحول إلى حملة إعلانية لا نهاية لها.

لعل أكثر ما جذبني إلى الفايسبوك هو المفاجآت التي قد يحملها إليك، وأجملها مثلاً صورة صديق ولأقل بصراحة صديقة لم ترها منذ عشرين أو ثلاثين وربما أربعين عاماً وقد أصبحت سيدة وأماً وربما جدة، فيخالجك شعور غامض، فيه من الحبور ما فيه من الأسى، فتتذكر أياماً مضت وتتحسر عليها وتكتشف في تلك الصور المستعادة أنك تقدمت في العمر والذكريات. وقد يخطر في بالك أن تبحث عن صورة لفتاة أحببتها في مقتبل الفتوة والشباب لتعلم أين أصبحت وكيف، وتروح تبحث بلا جدوى في أحيان ولكن مع قليل من أمل…

لا شك في أن الفايسبوك أضحى في عالمنا العربي آخر فسحة متاحة للحرية، ممارسةً وتعبيراً وعيشاً. لا رقيب هنا مبدئياً، حتى الرقيب الذي أوجدته بينك وبين نفسك لا وجود له هنا. الفايسبوكي يكتب بحرية ويقول ما يشاء ويرتكب حماقات ويثرثر ثرثرة «الحمقى» كما قال إمبرتو إيكو، لكنه يعلم أن ردوداً ستنهال عليه ولا قدرة له على منعها. ومهما سعت الرقابات الرسمية إلى مطاردة المدونين فهم قادرون على التحايل عليها مبدلين أسماءهم وتواقيعهم. يكتب المدونون محتجين وساخطين ومعترضين وكأن الفايسبوك ساحة تظاهر، وقد يمارس بعضهم أفعال التخريب مجازياً ولا من يحاسبهم. وقد يتجاوز بعضهم الخطوط الحمر فيتمادون في القدح والذم وكيل التهم جزافاً وإطلاق الإشاعات من غير هوادة.

وعلى رغم ما يعتريه من شوائب يظل الفايسبوك فسحة حياة وعيش شبه يومي. هو أشبه بمقهى يلتقي فيه الأصدقاء ولكن ليس حول فنجان قهوة، وقد يصبح أشبه بحانة يتبادل فيها السمّار كؤوس الكلام وقد يثملون فيتعتعون… الفايسبوك فسحة للحياة في كل ما تعني ولو سلباً في أحيان. هايدبارك، يلتقي فيه الشعراء والروائيون والصحافيون وأشباه هؤلاء من متأدبين ومستشعرين ومتنطحين إلى عالم الكتابة في ما يرتكبون من أخطاء في المعنى والمبنى ولغة الضاد. حقق الفايسبوك الشعار الذي أطلقه مرة الشاعر الفرنسي لوتريامون ومفاده أن الشعر يجب أن يكتبه الجميع. وهنا ليست الكتابة وقفاً على الشعر بل تنسحب على الأنواع كافة.

يمكن الفايسبوك أيضاً أن يكون معرضاً للصور بحسب ما شاءه أصلاً مخترعه مارك زوكربرغ، وكم من فايسبوكي أو فايسبوكية شاءته فعلاً شاشة صغيرة لاستعراض الجمال على اختلاف تجلياته. وهذه الصور تستحق وقفة بذاتها.
______
*الحياة

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *