وديدة

خاص- ثقافات

*محمود شقير

       وديدة تنهض الآن من نومها الأبدي، ترتدي فستانها الوردي، تمشط الشعر الذي ينسدل على الكتفين، وتمضي في طرقات بيت لحم الوديعة، تلقي تحية المساء على مجموعة من الشباب التابعين للجان الحراسة العزلاء، تحدثهم عن شهداء اليوم الذي مضى، وتقول إنها لم تعد تذكر العدد الكلي للشهداء، لكنها تعرفهم واحداً واحداً، وتمضي فيما شباب الحراسة يرمقونها بمودة وإعجاب. تسمع من بيت مجاور بكاء طفل، يكبر الشوق في صدرها، تعتب على الأم التي تترك الطفل في أسر البكاء، تودّ لو أنها تدخل البيت لكي تهدهده حتى يكف عن البكاء، غير أنه يهدأ في اللحظة التالية، فيطمئن بالها، وتمضي.

       وديدة تقترب من بيت الشهيد الذي قضى هذا المساء، تجتاز ساحة البيت حيث يحتشد الرجال الذين يضمرون الحزن في القلوب، غير أن أصواتهم تلعلع بالحديث في السياسة وعن الدولة القادمة. فكأنهم في مهرجان. وديدة تدخل إلى حجرة النساء، تقبل أم الشهيد ثم تبكي حيناً مع الباكيات، وترقص حيناً آخر مع الراقصات اللواتي يتفجعن على الحبيب الذي مضى قبل أن يحرث الحقل، قبل أن يُحظى بقبلة من صبية، قبل أن يتعلم عادة التدخين واحتساء الخمرة في ليالي السهاد.

       وديدة تمضي إلى بيت أهلها الذي يقع على الطريق بين المدينة والمخيم، وديدة اعتادت منذ أشهر أن تزور أهلها كل مساء، تتفقد سريرها الصغير، ألعاب طفولتها، والفساتين التي ظلت محفوظة في البيت منذ كان الفراق، تساعد أمها في المطبخ، تقشر البطاطا، تنظف المجلى، تخرج بسطل القمامة إلى الفناء، تطمئن على أبيها الذي يعود مرهقاً من يومه الطويل، ثم تغادر البيت قبل أن تطفر الدموع من العيون.

       هذا المساء، وديدة الصبية عادت إلى بيت أهلها كالمعتاد، غير أنها لم تجدهم ولم تعثر عليهم حتى الآن، فقد كان البيت مغلقاً بالشمع الأحمر، ومن حوله يتحلق الجنود بأسلحة وعتاد.
_______

*روائي وقاص فلسطيني.
من مجموعته “صمت النوافذ”/قصص قصيرة جداً/ منشورات الأهالي/ دمشق/ 1991

شاهد أيضاً

يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت

(ثقافات) يَنبثُ لِي شارِبٌ.. منَ الصَّمت حسن حصاري منْ يمُدُّ لي صوْتا غيرَ صوْتي الغائِب؟ …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *