“المهمة المستحيلة”(2015):ماكينة “أكشن” فخمة تكرِّس المغامرة والتشويق

خاص- ثقافات

*مهند النابلسي

لا أحد يستطيع أن يتجاهل الصعوبة والإثارة التي تمثلت بالمشهد الاستهلالي للفيلم الجديد: التشبث  بطائرة “شحن روسية”  أثناء الاقلاع، ثم الاستيلاء  على شيء “لا نعرف بالتحديد ماهيته وأهميته”، والقفز من الطائرة، لقد أثبت كروز قدراته الاستثنائية كممثل أكشن من الطراز الفريد، عندما أصر على القيام بهذه المشاهد الصعبة دون اللجوء للخدع والبديل، حيث يحاول مخرجو هذه الأفلام جميعهم إقناعنا بأهمية متابعتنا اللاهثة “للأدوات والحركات” الصعبة التي يستخدمها توم كروز لتحقيق أهدافه (عكس ما نفعله بالحياة اليومية عادة حيث يلجأ الانسان أولا للأدوات والحركات السهلة، وهنا تكمن المفارقة لأن السينما هي فن التشويق البصري بعيدا عن الثرثرة المملة).

وهنا يكمل توم كروز سلسلة من الحركات الخطيرة التي كرسها في أفلام هذه السلسلة ابتداء من تعلقه بمبنى المخابرات الأمريكية لانجلي لسرقة قائمة العملاء السريين في الجزء الأول(1996)، ثم يأتى مشهد العراك الخطير بالجزء الثاني(2000) حيث خاطرباحتمال دس السكين الحاد على بعد ربع بوصة فقط من مقلة عينه، مرورا بالقفزة الشهيرة من ناطحة السحاب بشنغهاي في الجزء الثالث(2006) والتي انتهت بالتمرجح الخطير ما بين ثلاث بنايات سكنية، ولن ننسى كذلك تعلقه الحابس للأنفاس خارج جدران برج خليفة الشاهق بدبي في الجزء الرابع (2011)، والتي اعتبرت في حينها حدثا عالميا لغرابته وخطورته، وبالحق فإن مشاهد الأكشن الفريدة هذه قد كرست تألق كروس كنجم يتمتع بمهارات جسدية ورياضية وقتالية لافتة، كما بدا وكأنه يستمتع تماما وخاصة أثناء مطارداته المثيرة “الأكروباتية” بالدراجة النارية.

مع تحلل منظمة “آي ام اف” وطرد ايثان (توم كروز) منها، يواجه نفس الفريق منظمة إرهابية جديدة مرعبة (تدعى السينديكيت)، تتمتع بمهارات خاصة وعملاء جسورين مدربين، وهي تسعى جاهدة لتأسيس نظام عالمي جديد بواسطة إقدامها على تنفيذ سلسلة من العمليات الإرهابية المروعة، وبمواجهتها يسعى ايثان لتجميع فريقه مرة أخرى مع عملاء مختلفين من ضمنهم البريطانية “أليسا فاوست” (ربيكا فيرغوسون) الغامضة الشخصية والمجهولة الانتماء، ويسمي فريقه الجديد “روج نيشن”، محاولا بجرأة وجسارة مواجهة المنظمة الإرهابية الجديدة.

1212

هذا الفيلم الذي أخرجه كريستوفر ماغواير وكتب السيناريو درمر بيرس، هو شريط متميزبالسلسلة الشهيرة، وقد أبدع ببطولته كل من توم كروس، جيرمي رينر، سيمون بيغ، توني فينيغ، وأليك بالدوين بدور رئيس المخابرات، كما النجمة الرائعة ريبيكا فيرغسون بدور العميلة الغامضة أليسا فاوست.

كل المغرمين بسلسلة أفلام جيمس بوند لاحظوا أن مشاهد الأكشن تتماثل هنا لدرجة كبيرة، وربما يوجد اقتباس إبداعي لبعض المشاهد من فيلم هيتشكوك الشهير “الرجل الذي عرف الكثير”، كما لا يخفى الأداء  الرائع المتناسق للرباعي كروس، بيغوفيرغوسون وبالدوين، وبالإضافة لمشهد الاستهلال اللافت، فهناك لقطة طويلة يقوم فيها كروز بالتسلل لغرفة تخزين البيانات تحت بركة مائية ضخمة، ثم يتمكن من حبس أنفاسه لثلاث دقائق قبل أن ينجز مهمته ويستبدل الشريط،ولكنه يفشل أخيرا بتشغيل مزلاج الباب الوحيد المؤدي للخروج، حيث تنقذه صديقته ربيكا (المخلصة والباردة المشاعر)وتحمله  للخارج في لقطة مؤثرة وواقعية، وقد تدرب كروس عن طريق مدرب متخصص لحبس أنفاسه لست دقائق للتمكن من إنجاز هذا المشهد الصعب الذي صور بلقطة واحدة طويلة.

هذا الفيلم تحديدا يبدو كمكينة ضخمة معقدة تحتاج للتزييت المستمر وتصدر الزعيق والطنين (بواسطة المؤثرات والموسيقى التصويرية)، وتحفل بالأجزاء المتحركة والتروس الدوارة، التي تتمثل بمشاهد المطاردات والتفجير والقنص، ومنها لقطات صورت بفينا ومراكش ولندن،  وخاصة مشاهد الاغتيال والقنص الشيقةوالمعقدة بدار الاوبرا بمدينة فينا الرائعة على خلفية المشاهد الصادحة للاوبرا الغنائية الجميلة والتي انتهت بالفشل بالرغم من وجود ثلاثة قناصين غير متوافقين، والتي وجدتها مقتبسة بابداع من مشاهد الجزء الثالث للعراب، وقد تم اغلاق الطريق السريع لمراكش لأربعة عشر يوما لاتمام المشاهد بالبراعة التي شاهدناها، كما تم تصوير مشاهد متتابعة بأغادير والرباط.

 الإثارة والتشويق هما أساس معظم لقطات الأكشن المتنوعة التي تمثلت بقتل “جراح العظام” المرعب بسكين، أو بالتفجير المفاجئ لسيارة المستشار النمساوي،أو بتخدير رئيس الوزراء البريطاني بواسطة ايثان المتخفي بوجه آخر (مع ملاحظة “سماجة” استخدام هذه التقنية بكثرة في السلسلة، والتي استخدمت ببراعة وإقناع بالجزء الثالث تحديدا)، ومرورا بمسح ونسخ محرك الأقراص المشفر.
الفيلم كعادة هذه السلسلة يتطرق لجملة مواضيع منها بيع غازالأعصاب  للإرهابيين،  طريقة تمويل العمليات الارهابية بواسطة سلة عملات عالمية متنوعة من الصعب تعقبها، ثم بطريقة رشوة قائد المنظمة بخمسين مليون دولار مقابل كلمةالمرور، ومقابل تحرير مساعد هانت الظريف (بينجي دانخبير الحاسوب)من الحزام الناسف الملتصق بجسمه، وقد لاحظت أن شخصية الشرير هنا (سولومون لين وقام بدوره الممثل سين هاريس) ليست وسيمة ولا جذابة وإنما منفرة وسادية وشكاكة وربما واقعية، وليست كمثال تتمتع بكاريزمية الراحل “فيليب سيمور” كما بدت بفيلم “جي جي آبرامز” الثالث، حيث لا يمكن تجاهل مشهد استبدال “سيمور” بـ”كروس” (الذي استنسخ باتقان وجهه الأشقر) بالحمام، والذي كان فريدا ولافتا سينمائيا وتشويقيا، وتكمن نقطة الضعف التي لم ينتبه لها أحد هنا بالفرق بين حجم جسم “سيمور” البدين مقارنة بكروس الرياضي متوسط الطول، كما أن تقنية تغيير الوجه تأخذ ساعات وليست مجرد “ماسك” يلبس كقناع وإلا لاستخدمها المجرمون بكثرة.

الفيلم الحالي كما بدا لي يطلق رسالتين متتداخلتين تتعلقان بالتراتبية والبيروقراطية والغموض والتداخل الذي يلف أجهزة المخابرات والجاسوسية وطرق عملها “الملتوية والمتشابكة”التي تفتقر للرقابة والمساءلة، ثم بجملة ذات دلالة تنطق بها العميلة فاوست عندما تقول لايثان “إنهم يسعون دوما لإقصائنا بعد انتهاء مهماتنا”، ويبقى المجاز الموجه للعقول والأفئدة بأن تحذروا “القوى الخارقة المتمكنة” لأجهزة الاستخبارات (الأمريكية والبريطانية تحديدا) لزرع القناعات والاطمئنان لدى الإنسان العادي المرعوب من الإرهاب الدولي بصنوفه.

ومع أني لست من المعجبين بأداء توم كروس وطريقة تمثيله الحرفية، لكني انجذبت هنا لانغماسه المتمكن الجريء بمتطلبات الدور الصعبة، كما يمكن القول إن اسلوب كريستوفر ماغوايرالإخراجي قد تماثل هنا لحد كبير مع مستوى تحفة بريان دي بالما الأولى ذات النفس “الهيتشكوكي” الواضح، وإن كان لم يتجاوزها، وخاصة بثيمة الفيلم التي تتعلق بتشبث “ايثان هانت” المخلص والشغوف بإنجاز المهمات الصعبة مستقلا، وكذلك قتاله الضاري للارهابيين بشكل منفرد خارج عمل الوكالة، كما أن الشريط شكل مزيجا ملخصا للأفلام الأربعة السابقة لجون وو، جي جي آبرامز، وبراد بيرد بالإضافة لبالما،وربما يمثل هذا مؤشرا (والله أعلم)  لمشارفة هذه السلسلة المسلية على نهايتها، بعد ان استنفذت أهدافها ومغامراتها وتكرارها لنفس الثيمات والقصص بأشكال مختلفة ومتجددة، إلا إذا قرر المنتج الجديد نقل أحداثها للفضاء الخارجي والدخول لمعترك “الخيال العلمي”.

أخيرا ستبقى السينما فن شامل مركب “جماهيري ونخبوي” بآن واحد، عصي على الأدلجة والتصنيف والتحيز والتعصب، وسيثبت الفيلم الجيد ذاته مع مرور الزمن سواء نجح تجاريا أم لم ينجح.

 

شاهد أيضاً

العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية

(ثقافات) “طربوش أبو عزمي العلي”:   العلاقة بين الشخصية الحقيقية والروائية في مسلسل التغريبة الفلسطينية زياد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *