مارك شاغال.. خرافات الألوان

*غيث خوري

يقف مارك شاغال (1887- 1985)، بين عمالقة الفن التشكيلي في القرن العشرين، وهو الفنان الأصيل والملون الفذ والمبتكر الخلاق الذي فتح بخياله الواسع وحنينه العميق، الطريق أمام مدارس الفن على أنواعها، مستمداً منها تارة ومغذياً لها تارة أخرى، ومعارضاً لها أحياناً كثيرة، فكان له أسلوبه الشاعري الرمزي، الذي جعله واحدا من أكثر الفنانين المعاصرين شعبية، بينما منحته حياته الطويلة وإنتاجه الفني المتعدد نفوذاً فنياً على نطاق عالمي واسع.

اتبع العديد من أقران شاغال تجارب طموحة أدت في كثير من الأحيان إلى التجريد، أما تميز شاغال فيكمن في إيمانه الراسخ بالأسلوب المجازي الرمزي، والذي حافظ عليه برغم تشربه وفهمه للأفكار التي طرحتها المدرستان التكعيبية والوحشية، على أن هذا الأسلوب الذي بدأت ملامحه تتضح من وقت مبكر لدى شاغال، كان بمثابة العنصر المفتاحي في فرادة الفنان على صعيد الرؤية والطرح، حيث كانت لوحاته العامرة بالخيال والشاعرية وملامح القرية التي عاش فيها، وجنوحه نحو اللا معقول في تمثيل الأشياء إضافة إلى حسه الفكاهي العالي، هي السبب في تأكيد حضوره وأصالة اشتغاله الفني.
ولد مارك شاغال في العام 1887 لعائلة فقيرة في قرية فيتيبسك الروسية، وقد ظهرت بوادر موهبته الفنّية أثناء دراسته في المدرسة الروسية، وعلى الرغم من رفض والده، إلا انه بدأ عام 1907 دراسة الفنّ على يد الفنان «ليون باكست» في سانت بطرسبرغ، وفي هذا الوقت اتضحت ملامح أسلوبه المميّز الذي عرف به، وقد دفعته موهبته نحو فرنسا شأنه شأن كل فناني عصره، حيث انتقل إلى العيش هناك مشاركا في الحياة الفنية الزاخرة التي احتضنتها باريس منذ مطلع القرن العشرين، إلا أن شاغال وطوال مسيرته الفنية الطويلة، بقي متعلقا بصور القرية التي نشأ فيها، وظل ذلك الحنين والدفء المجتمعي يناديه في ذكرياته وأحلامه، وفي هذا الصدد يقول الفنان نزار صابور: «أبدع شاغال، على امتداد ثمانين عاماً، عالمه الأسطوري، وفيه امتزجت على نحو مبكر الأسطورة والواقع، والحكايات الخرافية وعناصر الحياة اليومية لبلدته فيتيبسك، وأوجد في أشكاله خليطاً معقداً لمشاهداته البصرية وذاكرته الشعبية، مع فكر قومي طقسي وفلوكلوري وحلمي، وإدراك بسيط وساذج للعالم، مع هلع طفولي.. هذه الطريقة الخيالية المستوحاة من الواقع، جعلت السورياليين، في عشرينات القرن العشرين، يهتمون بلوحات شاغال، من خلال بحثهم عن أفكار مبدعين قريبة من أفكارهم.. لكنّه اختلف عنهم، فطريقته الخيالية في خلط الأشكال لم تتجاوز التصورات الواقعية، ولم يكن فيها اختلاق متعمّد للرؤى المرعبة المفتعلة».
دأب شاغال على إيجاد تعابير بصرية لذاكرته، خصوصاً روسيا الطفولة، هذا الخيال الذي جعله يرسم الشخوص طافية في الهواء وكائنات خرافية وحيوانات طائرة ومخلوقات هجينة نصفها إنسان ونصفها الآخر حيوان، وحيوانات تعزف على الآلات الموسيقية، كالأبقار والماعز والدجاج، ليوظفها كلها في أسلوب المجاز والاستعارة، محررا الأشكال من عقالها ومزحزحا في التصورات البشرية للأشياء عبر كسر قوانين الطبيعة، مضفيا عليها اللون الذي برع في استخدامه وتوظيفه مانحا تلك اللوحات بعدا بصريا أقرب إلى الحلم والفنتازيا.

ارتبطت أعمال شاغال بمفاهيم وتصورات الجمال الريفي، وقد أكد هو دوما على أن أعماله مهما كانت تحوي من غرائبية إلا أنها قريبة الصلة بالطبيعة، إذ يقول: «عندما أنتهي من رسم لوحة، أحمل إلى جانبها شيئا من صنع الله.. (صخرة أو وردة أو فرعاً من شجرة أو حتى يدي).. كاختبار نهائي، وإذا كانت اللوحة تتماشى وتقف جنبا إلى جنب مع شيء لا يمكن للإنسان صنعه، فإنها لوحة حقيقية وأصيلة، أما إذا كان هناك تضاد وصراع بين الاثنين، فإنه فن سيئ».
يظهر حنينه إلى مكان نشأته منذ وقت مبكر في مسيرته، ففي لوحته «أنا والقرية» وهي واحدة من أشهر أعماله على الإطلاق، يخلق شاغال جنة رعوية استمدها من الريف الروسي، وكانت هذه اللوحة علامة مبكرة على النهج الذي سيجعل منه فنانا مؤثرا في حركة التشكيل العالمية.
في هذا العمل المبكر تظهر تأثيرات الوحشية والتكعيبية في ممارسة شاغال الفنية، والتي تختلف عن أسلوب بيكاسو أو ماتيس، حيث إنه أكثر حرية في تحريك واستخدام عناصره الزخرفية، وهنا يقول شاغال: «بالنسبة للتكعيبيين، فإن اللوحة هي عبارة عن سطح مغطّى بالأشكال في ترتيب معيّن. وبالنسبة لي، اللوحة هي سطح مغطّى بتصاوير للأشياء ولا أهمّية فيها للمنطق».
مشهد آخر تنطق به لوحات شاغال، وهو ترحاله الدائم ونزاعه النفسي بين الأماكن، من روسيا إلى فرنسا إلى الولايات المتحدة.. كل تلك الرحلات التي لم يخترها طواعية، تركت أثرها في فنه، فها هو في لوحته «باريس من خلال النافذة» يعكس مشاعره المنقسمة بين حبه لباريس المعاصرة من جهة وبين حنينه لأنماط الحياة القديمة والتقليدية في روسيا. لذا نرى الشخصية التي تظهر في الجزء الأسفل إلى يمين اللوحة وهي تنظر في الاتجاهين، وجه نحو روسيا وآخر نحو باريس، وفي لوحته «الزمن – نهر بلا ضفاف» مشهد سوريالي يصوّر ساعة برقّاص تسبح عبر النهر، وسمكة بجناحين ضخمين تجلس فوق الساعة وتعزف على الكمان بشرود في دلالة إلى حياته التي تشبه حياة السمكة التي تنتقل من مكان إلى آخر.

اهتم شاغال طول حياته المديدة، إضافة إلى التصوير، بتصميم المناظر المسرحية والأزياء والرسوم الجدارية والزجاج المعشّق وأعمال الخزف والفسيفساء، ففي عام 1910 ساعد في ديكورات باليه «نارسيس»، ونفّذ رسوماً جدارية وديكورات في المسرح الصغير في موسكو عام 1919 1920، وصمّم ملابس وديكورات لباليه سترافنسكي «طائر النار» في نيويورك عام 1945. وبدأ في 1963 العمل في رسوم سقف غراند أوبرا في باريس، وفسيفساء «الفصول الأربعة» للبنك الوطني في شيكاغو عام 1972، وزجاجاً معشّقاً لنوافذ متحف نيس. وفي عام 1977 نفّذ زجاجاً معشّقاً للمعهد الفني في شيكاغو، ولكنائس في فرنسا وبريطانيا عام 1978، ومن أبرز أعماله في هذا المجال جداريته الكبرى «السلام» التي كشف الستار عنها في سبتمبر/ أيلول عام 1964 في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، وقد نفذها بقياسات ضخمة (عرضها 538 سم، وارتفاعها 358 سم)، تعبيراً عن إعلاء قيمة الإخاء بين البشر وضرورة العيش المشترك، وقد أوصى شاغال بتنفيذ هذه الجدارية تخليداً لذكرى الأمين العام السابق للأمم المتحدة في ذلك الحين داغ هامر شولد، الذي كان قتل في حادث طائرة مفتعل فيما كان يقوم بمهماته في العالم.

عندما أحس شاغال بثقل الحياة البشرية وعنفها، حاول أن يعرض لواقع البشرية الراهن من خلال لوحته «الحرب» والتي بدت فيها ألوانه مغايرة للعادة، داكنة بين الأسود والبني محملة بالتشاؤم وخيبة الأمل، وقد وظف شاغال فيها كثيراً من المفردات والعناصر الدلالية كالزوجين ومعهما طفلهما الرضيع، والمجاعة، والموت، والنار، ومحاولات الهرب.

عرف شاغال كيف يحفر اسمه في تاريخ الفن الحديث، وكيف يجد مكانه بين الفنانين الكبار.

_______
*الخليج الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *