شذريات… عشتُ في الحب

*د. حورية الظل

شاعر الهند العظيم وفيلسوفها «رابندرانات طاغور» (1861- 1941) الذي أصبح خالداً كنهر الغانج كان فيلسوفاً ومتصوفاً ومبدعاً ومصلحاً ومحباً للإنسانية. نال جائزة نوبل (1914). وقد تخصص في كتابة الشعر والقصة والمسرحيات والمقالات.. كما كان رساماً. من أشهر أعماله، ديوانه «جيتنجالي».

وصفه غاندي بأنه منارة الهند، وقال أندريه جيد عن أشعاره: «ليس في الشعر العالمي كله ما يدانيها عمقاً وروعة»، ولما نقرأ شعر طاغور نحس بذلك الإشراق الصوفي والفيض النوراني الذي يمتد عميقاً في ثناياه، ونلمس تلك النفحة الروحانية الشفافة التي لا تخطئها العين، وتطالعنا من خلال ذلك الشعر روحه المحلقة عالياً في سماوات الصفاء، ونسمع خفق قلبه المترع بالمحبة والمفعم بالمواجيد ونخْبر بعضاً من مجاهداته في سعيه الحثيث إلى الارتقاء الموصل لنور اليقين.

إن شعر طاغور يضيء أرواح الباحثين عن الحكمة، لأنه إشراقات تزخر بالمعاني الروحية وقبسات تتلألأ بنور المحبة، وما يزيد من جلال هذا الشعر وروحانيته تلك الموسيقى اللفظية التي تنبجس من ثناياه في عذوبة، فتنضاف إلى المعاني وتمتزج بروح القارئ في يسر وسلاسة لتسربلها بالنور والسلام، واختيار طاغور لتكثيف لغته وترميزها لم يكن مجانياً، وإنما فعل ذلك ليُمكن القارئ من إطلاق خياله بعيداً في عوالم لا يمكن القبض على أطرافها.

إن اطلاعنا على ما كتبه طاغور، يفشي لنا برسالته التي تلخصت في نشر المحبة والخير والجمال بين البشر. ومن أشعاره اقتطفنا هذه الشذريّات.

أيها النور الذي يغمر الكون، يا قبلة العيون، يا عذوبة القلب

النور يرقص في مركز حياتي، وحبي يتجاوب مع دفقة النور.

***

إن قلبي لن يجد سبيله نحو من ترافقهم

بل نحو من لا رفيق لهم، بين الفقير والحقير والضائع.

***

هب لي ذلك الندى النقي كمطرك الذي يبارك الأرض العطشى ويملأ جرار البيت الفخارية

هب لي ذلك الحب الذي يود أن ينفذ إلى أغوار الوجود،

ثم ينساب، نسغاً خفياً، في أغصان شجرة الحياة، ليبعث الثمار والأزهار.

هب لي ذلك الحب الذي يسربل القلب بالأمن.

***

إن كل ما في حياتي من بحة وتنافر يذوب ويصير إلى تناغم عذب

وتبسط عبادتي جناحيها، كطائر فرح في هيَمانه عبر البحر.

***

سأحاول دوماً أن أقصي الشرور من قلبي، وأن أدع حبي محفوفاً بالزهر.

***

إنهم يأتون بقوانينهم ونظمهم ليقيدوني، ولكنني أنجو منهم دوماً، إذ إنني أنتظر الحب فحسب، لأهب نفسي أخيراً بين يديه.

***

سأنتظر ساكناً في الليلة المتلاحمة النجوم، ورأسي منحنٍ مطرق،

سيقبل الفجر بلا ريب، وستنقشع الظلمة، وسيسيل صوتك في رعشات مذهبة تنسرب عبر السماء

حينذاك ستتسق كلماتك في أغنيات، حول أي عش من أعشاشي، وتتشقق أغنياتك زهوراً في جميع منعطفات غاباتي.

***

رباه، يا ملك السموات لقد أفعمت قلبي بحبك، وتجليت لي بقربك.. رباه لو لم أكن موجوداً فأين يتجلى حبك؟

***

آه أيتها الشمس، أشرقي في القلوب الدامية التي تتفتح زهراً في الصباح.

لا تدع الساعات تمر في الظلمة، وأشعل مصباح الحب من قبس حياتك.

***

أبق لي بعض نفسي فحسب، حتى يتيسر لي أن أدعوك: يا جماع نفسي،

أبق لي بعض إرادتي فحسب، حتى يتيسر لي أن أشعر بوجودك، إلى جانبي، وأن أوافيك مع الأشياء كلها، وأن أقدم إليك حبي في أي لحظة.

***

هذه صلاتي إليك، يا مولاي، اضرب، اضرب جذور ذلك الفقر في قلبي،

هب لي القوة لأتحمل في يسر، آلامي وأفراحي،

هب لي القوة لأجعل قلبي مثمراً في خدماته،

هب لي القوة، لأضع قوتي في شغف، تحت إرادتك.

***

أنتَ الذي أريد، أنت وحدك، فليردد قلبي هذا دون انقطاع،

إن كل لذاتي التي أنعم بها، ليلاً ونهاراً، هي زائفة حتى اللباب.

وكالليل الذي يخفي في ظلمته رغبة النور في الانبثاق، فإن في أعماق شعوري تدوي هذه الصيحة: أنت الذي أريد.. أنت وحدك.

***

تلكم هي لذتي: أن أنتظر وأترقب على جانب الطريق، حيث يسعى الظل وراء النور، ويوافي المطر في أعقاب الصيف.

من الفجر إلى الغروب أقف هنا، أمام بابي، إنني أعرف أن اللحظة السعيدة ستقبل فجأة، حين يتيسر لي أن أرى.

***

لن تقدر شمسك ونجومك أن تواريك عني إلى الأبد

كم من صباح ومساء، تناهى فيهما خفق خطاك، إلى السمع، وتسلل رسولك إلى قلبي، وأسرى إلى ندائه.

***

لما فتحت أخيراً عيني، واستيقظت من غفوتي، ألفيتك منتصباً أمامي، وقد غمرت رقادي بابتسامتك

لكم خشيت أن تكون الطريق طويلة شاقة، وأن يكون الجهد المبذول في الوصول إليك صعباً قاسياً.

***

هناك حيث تنفسح السماء دون حدود، لتستطيع الروح أن تنبسط محلقة، هناك تزهو الروعة ناصعة بيضاء، ليس ثمة نهار ولا ليل، لا شكل ولا لون، ليس ثمة كلام أبداً، أبداً.

***

في هذا العالم المضني، الذي يعج بالجهد والكفاح، هل أقف أمامك وجهاً لوجه؟

وحين أنتهي من عملي في هذه الدنيا، يا ملك الملوك، هل أقف وحيداً صامتاً أمامك وجهاً لوجه؟

***

وانقضت أيام، كان يقدم فيها السابلة إلى هنا ليغسلوا أقدامهم المرهقة

وكانوا يستيقظون صباحاً متوثبي النشاط، وكانت العصافير تملأ أعطافهم بهجة،

ويطلع رأس الزهر نحوهم من غبار الدرب في تحبب وود،

ولكن لم يستقبلني مصباح واحد منير حين قدمت إلى هنا،

فلست بضيف أحد في نهاية يومي.

***

إن كلامك بسيط، غير أن كلام الذين يتحدثون باسمك ليس ببسيط

إنني أعي صوت نجومك وصمت أشجارك

إنني أعلم بأن قلبي يود أن يتفتح كالزهرة، وإن حياتي قد أُفعمت من ينبوع خفي.

***

إن الحب الذي يجمع بيننا يا حبيبي ليس عبثاً

مرة تلو المرة، عصفت بي ليالي الرياح المزمجرة، مطفئة مصباحي

تجمعت الشكوك السوداء، لتمحو النجوم كلها من سمائي

مرة تلو المرة، تحطمت السدود لتدع فيض الماء يجرف حصادي، ومزق اليأس والنحيب أطراف سمائي

وقد تعلمت أن ضربات الألم تتوالى في حبك، ولا تتوالى في جمود المنيَّة البارد.

***

يبحث الرب عن مرافقين ويطالبهم بالمحبة

أما الشيطان الذي يبحث عن أرقاء، فإنه يطلب منهم الطاعة.

***

النهاية الحقيقية ليست في استشراف الحد الأقصى

بل في بلوغ كمال لا حد له.

***

في صبابتي وحبي لك

وعيت معنى الفرح المتجلي في معرفة الحقيقة.

***

يفتح لي نور الشمس باب الكون، ويفتح لي نور الحب باب كنوزه.

***

حين يوافي الموت، ويفضي إليَّ بصوت خفيض،

إن أيامك في الحياة قد شارفت نهايتها، تُراني أستطيع أن أجيب؟

إنني لم أعش فحسب، بل عشت في الحب.

***

أيها النورُ، يا نوري.. أيها النورُ الذي يملأ الكون، أيها النورُ الذي يُقبّلُ العيونَ

أيها النورُ الذي يلطّف القلوبَ

إن النور يا حبيبي يرقص في مركز حياتي

والنورُ يعزفُ يا حبيبي فوق أوتار حبي وتنفتح السماواتُ

وتهبُّ الريحُ بوحشية. وضحكةٌ مدويةٌ تعبرُ الأرضَ

إنّ الفراشاتِ تنشر أشرعتها على بحرِ النور

وأزهار الفلّ والياسمين ترفع رؤوسها على تموجات النور

والنورُ ينكسرُ في أشعةٍ ذهبيةٍ فوقَ كل غيمة يا حبيبي وينثرُ الجواهرَ المعطّرة.

ومن ورقةٍ إلى أخرى

يا حبيبي تنسابُ بهجةٌ وسعادةٌ لا حدّ لها

إنَ نهرَ السماءِ فاضَ وغمرَ الكونَ بالبهجة.

***

أجلْ، إني لأعرفُ أنّهُ ليس سوى حبّك،

ذلكَ النورُ الذهبي الذي يتراقص فوقَ الورقِ،

وتلكَ السُّحُب الكسلى التي تبحرُ في السماء، وهذا النسيم الذي يخطرُ

فيترك طراوته على جبيني

إنّ نورَ الصباح قد غمر عيوني، وتلك هي رسالتك إلى قلبي

وإني لأخفضُ وجهي، فأرى عينيكَ تُحدّقان في عينيّ.

***

اجعل حياتي بسيطة مستقيمة شبيهة بقصبة الناي

حتى تملأها بموسيقاك.

***

إن الوقت الذي تستغرقه رحلتي طويل، فالدرب طويلة، لقد خرجت وعلوت المركبة، عند انسياب أول شعاع من نور، وتابعت سفري في قفار الدنى، تاركاً أثري فوق شتيت النجوم والكواكب.

إن أبعد مرحلة هي التي تجعلني أكثر دنواً منك.

لقد تركت عينيَّ تنظران بعيداً، فترة طويلة، قبل أن أغمضهما وأقول: أأنت هنا؟

هذا السؤال، هذا النداء: آه أين هو؟ ذاب في دموع آلاف الجداول، وغمر العالم في موجة هذا اليقين: هأنذا.

***

مهلاً يا قلبي، ليكن وقت الفراق عذباً، لا تدعه يصبح موتاً، بل تتمة

ليتحول الحب إلى ذكرى، ولينقلب الألم إلى أغنيات

لتكن آخر لمسة من يديك رقيقة كزهرة الليل

توقفي أيتها النهاية الرائعة، لحظة، واذكري، في صمت كلماتك الأخيرة.

***

من أنت أيها القارئ؟ أنت الذي ستقرؤني بعد مائة عام؟

ليس في مكنتي أن أبعث بزهرة واحدة من هذا الإكليل الربيعي، ولا بشعاع مذهب واحد من تلك السحب هناك

لكن افتح الأبواب وتأمل في المدى القصي

واجنِ من حديقتك الزاهرة، الذكريات العطرة الفاغمة من الزهر المصوح منذ مئة عام

فقد يكون في ميسورك أن تشعر، والسرور يملأ عطفيك، بالفرحة الحية التي تغنت، ذات صباح ربيعي، مريقة صوتها الهنيء، عبر مئة عام.
_______

*الاتحاد الثقافي

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *