أن تقول كلّ شيء وأي شيء في الرواية (1)

*ترجمة وتقديم : لطفية الدليمي

   كنت قد  ذكرتُ في تقديمي لكتابي المترجم ( تطور الرواية الحديثة ) الصادر عام 2016 عن دار المدى عدداً من الخصائص الفريدة التي تجعل من الرواية فناً إبداعياً لايكاد يطاله أي فن إبداعي آخر باستثناء الفن السينمائي ربما ؛ ولكن تبقى الغلبة تميل لصالح الرواية لكون السينما فناً متطلباً يستلزم قاعدة مالية ولوجستية مكلفة ، ثم دعمتُ تلك الخصائص لاحقاً بأربع مقالات بعنوان ( ظلال السرد المهمشة : مقاربات في الفن الروائي ) تمثل إستكمالاً للتقديم السابق وإضاءة لخصائص مميزة مسكوت عنها في الفن الروائي ، وأحسب أن هذه الخصائص الفريدة هي ماجعل الرواية – والمعاصرة منها بتحديد أدق – قادرة على قول كلّ شيء وأي شيء في حياتنا المعاصرة .

   إنه لأمر يسرّني أن أستكمل هذه المقاربات في أهمية الفن الروائي وأسبقيته على الألوان الإبداعية الأخرى بأن أقدّم ترجمة للفصل الأول المعنون ( قول كلّ شيء ) من كتاب ( الرواية المعاصرة : مقدمة قصيرة جداً ) لمؤلفه البروفسور ( روبرت إيغلستون ، وقد صدر الكتاب عن جامعة أكسفورد المرموقة عام 2013 .

      روبرت إيغلستون Robert Eaglestone : أكاديمي وكاتب بريطاني ولِد عام 1968 ويعمل أستاذاً للأدب والفكر المعاصر في قسم اللغة الإنكليزية بجامعة لندن ، وتضمّ أعماله موضوعات متعددة مثل : الأدب المعاصر ، النظرية النقدية ، الفلسفة الأوربية المعاصرة  إضافة إلى دراسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي .

   تستكشف أعمال البروفسور إيغلستون الطريقة التي يعمل بها الأدب وبخاصة علاقته مع الموضوعات الخاصة بالأخلاقيات ، وكانت هذه العلاقة الموضوعة الجوهرية التي تناولها في كتابه الأول ( النقد الأخلاقياتيّ : القراءة بعد ليفيناس ) الذي درس فيه النظرية الأدبية للفيلسوف إيمانويل ليفيناس . يركّز إيغلستون في أعماله كثيراً على الموضوعات الخاصة بالذاكرة والإعاقات الروحية والذهنية كما يمنح أهمية خاصة لفكر كلّ من  جاك دريدا وحنّة آرندت .

   يعمل البروفسور إيغلستون بصورة موسّعة في ميدان الأدب المعاصر ، وتتناول أعماله كتابات الأدباء المعاصرين وبخاصة سلمان رشدي و جي. إم. كوتزي ، ويهتمّ إلى جانب ذلك بتعليم الأدب على المستويين المدرسي والجامعي ، وقد كتب دليلاً مرشداً يعدُّ مرجعاً بشأن تعليم الأدب للطلبة .

image002

   ألّف البروفسور إيغلستون العديد من الكتب ، أذكر منها التالية :

–  دراسة الإنكليزية : مرجعٌ لطلبة الأدب ، 2009

  • Doing English: A Guide for Literature Students, third revised edition(London: Routledge, 2009 translation 2003. Arabic Japanese translation 2013.

 

–  الهولوكوست ومابعد الحداثة ، 2004 

  • The Holocaust and the Postmodern, Oxford: Oxford University Press, 2004, . Japanese translation 2013.

 

–  النقد الأخلاقياتيّ : القراءة بعد ليفيناس ، 1997

  • Ethical Criticism: Reading After Levinas , Edinburgh: Edinburgh University Press, 1997

      وله أيضاً كتاب ( الرواية المعاصرة : مقدمة قصيرة جداً ) الصادر عن جامعة أكسفورد عام 2013 والذي أقدّم ترجمته في الصفحات التالية ، وينبغي التنويه أن البروفسور إيغلستون إشترك في تحرير العديد من الكتب المشتركة ، وأذكر على وجه التحديد مشاركته المتميّزة في تحرير كتاب موسوعة بلاكويل في النظرية الأدبية والثقافية ( الجزء الثاني ) المنشورة عام 2010

Blackwell Encyclopaedia of Literary and Cultural Theory Volume 2 (1966 to Present day) (Oxford: Blackwell, 2010).

                                                                  المترجمة

                                               

                         قول كلّ شيء

 

   الأدب ميدان يبعث على التفكير – حيث تُستَكشَفُ الأفكار وتُعاشُ وتُمتَحَنُ مع كلّ ماتنطوي عليه من تعقيد يبعثُ على الفوضى المحيّرة ، وقد تبدو هذه الأفكار أحياناً في غاية البساطة : ماذا لو وقعتَ في براثن حبّ مَنْ يبدو غير خليق بحبّك ؟ ماالذي سيحدث لو ظهر ثمة خائن في شبكتك الجاسوسية ؟ ؛ لكن ثمة أحيانٌ أخَرى قد تكون فيها الأفكار أكثر تعقيداً من سابقاتها : كيف يمكنني مثلاً إعادة هيكلة ذاكرتي بحيث تغدو قادرة على إستعادة حادثةٍ ما ليس بوسعي تذكّرها ؟ ربما تكون مفردة ( أداة تفكير ) ليست بالمفردة الدقيقة لوصف الأدب لأنها تنطوي على وصفٍ بالغ المحدودية لنطاق مايمكن أن تفعله الرواية بالأفكار ، ولكن على كلّ حال فإن الطريقة التي يعمل بها الأدب كأداة للتفكير ملتصقة تماماً بما عليه نحنُ – وأعني بذلك سمتنا الإنسانية . الأدب يُعنى بالكيفية التي نجعل بها أنفسنا واضحة ومفهومة لنا ؛ ومن هنا تنبع أهمية الرواية المعاصرة لأنها ترمي في المقام الأول وقبل كل شيء لأن ترينا من نحنُ في زماننا هذا الذي نعيشه .

derrida2

   أعتقد بصورة حاسمة أن الرواية هي الطريقة الفضلى لفعل هذا ( أي لفهم من نحن ؟ ) بالمقارنة مع الفنون الأخرى لأنّ الرواية هي الوسيلة الأكثر إعمالاً للفكر ، والأكثر قرباً للروح الإنسانية ، والأكثر ملامسة للنزوعات الشخصية ؛ إذ على خلاف الفنون البصرية أو العمارة أو الموسيقى أو الألعاب الحاسوبية فإن الرواية هي الوحيدة التي توظّف اللغة فحسب . إنّ كل واحد فينا هو – على وجه التقريب – مُستخدِمٌ خبير للغة ، ولكنّ الأمر الأكثر أهمية هو أنّ كلّ واحد فينا هو خالقٌ خبير في ميدان اللغة : لانفتأ كلّ يوم نستخدم الكلمات للتعبير عن أنفسنا ولحكاية أقاصيص ولنمذجة بعض جوانب واقعنا . نتشارك كلّنا اللغة وتزدهر حياتنا بواسطتها ، وفي العادة نجد أنفسنا نخوض علاقة مشبعة بالحميمية مع المادة الروائية بأكثر ممّا نفعل مع المسرح أو الفلم السينمائي ، وعلى خلاف الشعر أو الرسم فإن الرواية تتأسّس على السرد الذي قد يعبّر عن نفسه أحياناً بأشكال غاية في التعقيد ، والسرد ذاته سمة نتشاركها جميعاً مع الرواية أيضاً – إلى جانب سمات أخرى – لأن كلّ واحد فينا هو مؤلّف ونسّاجٌ ماهر للسرد في جميع الحكايات التي نخبِرُها للآخرين كل يوم ، ويمكننا أن نختبر قيمة السرد الروائي في حكاياتنا اليومية من خلال المعايير الرفيعة والمتطلّبة لإختيارنا الشخصيّ للكلمات والحكايات وكذلك من خلال نماذجنا الشخصية التي ننتخبها للتعبير عن الواقع . يُلاحَظُ في العادة أن الروايات تدفعنا إلى نوعٍ من الإنغمار الكامل ( بأكثر مما تفعل الفنون الأخرى ) لأن قراءة روايةٍ ما يستلزم من الوقت أطول بكثير ممّا تستغرقه مشاهدة فلمٍ سينمائي أو الإستماع إلى قطعة موسيقية ، وكذلك لأن قراءة الرواية تحتاج طاقة أكبر من الطاقات المكرّسة للفعاليات الأخرى ، وهذا هو بالضبط موضع الأصل في منشأ عباراتٍ على شاكلة ” أن تنسى نفسك بين دفّتي كتاب ” أو تلك الأخرى التي تقول ” الكتاب يتحدّث معي ” – تلك العبارات ونظائرها التي نفهم منها أن الرواية شيء أكبر من محض حبر على ورق أو كلمات مسطورة على شاشة حاسوب . نحنُ نعيش في الروايات بأكثر ممّا نفعل مع أي لون فنّي آخر ، وبعد قراءتها فإن الروايات تظلّ معنا ( وهو مايُعرَفُ بظاهرة ” مابعد القراءة ” ) . كانت الرواية – ولم تزل – الشكل الفني الأكثر عمقاً في تأثيره والأكثر توغّلاً وتماسّاً مباشراً بالكائنات الإنسانية .

442750

   بالإضافة لكلّ ماقلناه سابقاً بشأن الرواية فإن الرواية المعاصرة هي الوسيلة الفضلى للتفكير بشأن ( من نكون ؟ ) لأن الرواية هي الوسيط الذي يوفّر حرية في التعبير أكثر بكثير من الحرية التي توفّرها سائر الأشكال الفنية الأخرى . يُلاحظُ في هذا الشأن أن ليس ثمة تعريف حقيقي حاسم للرواية ؛ فهي ليست ببساطة شيئاً مُختلقاً مثلما أنها ليست وسيطاً يحكي حكاية فحسب . ينزع كل تعريف في أصل معناه لإقامة حدود أو غايات ، وليس مو الواضح أبداً ماغايات الفن الروائي أو إذا كان أصلاً ثمة غاياتٌ للرواية . الفيلسوف الفرنسي الإشكاليُّ جاك دريدا Jacques Derridaالذي تفكّر في معنى الأدب وكتب الكثير بشأن هذه الموضوعة – وصف الأدب على أنه ( مؤسسة تعجّ بالغرابة ) وجادل بأنّ ” مؤسسة الرواية ….. توفّر مبدئياً القدرة على قول كلّ شيء ، وعلى الإنطلاق بعيداً عن كلّ القواعد والمقيّدات ” ، وهو بهذه الشاكلة يعرّف الرواية بأنها شكل من الكتابة ليس له تعريف وليس ثمة من حدود مقيّدة تكبح قدرته على قول مايستطيع قوله ، والنتيجة الأكثر أهمية التي تترتّب على هذا الأمر أن الرواية يمكنها الإستجابة لكلّ جانب من جوانب العالم التي يشغف بها الكاتب ويرى نفسه مولعاً بها ، ويمكن على هذا النحو أن تتناول الرواية أي شيء وكلّ شيء معاً ، كما يمكنها أن توظّف أي شكل يختاره الكاتب . العالُم الذي نعرفه متعدّد الوجوه ومعقّد للغاية ، وهكذا هي الرواية ( وينبغي أن تكون ) ، وليس ثمة قواعد صلبة وسريعة لقراءة ( فضلاً عن كتابة ) الرواية ؛ إذ يمكن للرواية أن تمضي أينما أرادت وأن تفعل أي أمرٍ شاءت وعلى نحو مطلق غير مقيّد ، وهذه الفكرة التي تسّم الرواية المعاصرة ( إلى جانب الدهشة والحرية المطلقة كذلك ) هي الخصائص التي يحكي عنها هذا الكتاب ويبتغي إبرازها بشأن الرواية المعاصرة .
_________
*المصدر: المدى

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *