اعتذار النوارس للموتى


خاص- ثقافات

 

*عبد الرحيم التوراني

 

لما أوصى رئيس ومؤسس جمعية دفن الموتى بحرق جثته بعد وفاته، وذر رمادها من

 فوق على ساحل المدينة لم يفلح أعضاء مجلس الجمعية في ثني الرئيس عن وصيته الغريبة عن عالمهم والمتناقضة مع ميثاقهم الإيمان.
كما لم يستسيغوا إقدام شخص، مثل الرئيس المؤسس، على كتابة مثل هذه الوصية الإلحادية، خصوصا وأنه عرف بين الناس بإيمانه وتقواه، وبتفانيه في العناية بمقابر المدينة وتزيينها بالأشجار والورود والأزهار والنباتات، حتى صارت تنافس أجمل المنتزهات.

– إقبار الميت إكرام للدفين.. وأنت أعلم منا..
– الكفن الأبيض طهارة..
– إن الله عز وجل قال في الكتاب الكريم: “ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ”.. 
– ماذا سنقول للناس بعد أن يعرفوا مضمون وصيتك الغريبة؟

هكذا خاطبوا رئيسهم الدائم محاولين إقناعه. لكنه لم يسمع كلامهم. فالرئيس المؤسس كان منعشا عقاريا كبيرا، يفهم في مساحات البقع والمتاجرة والسمسرة في الأراضي أكثر من كلام الفلسفة والآخرة والإيمان.

وجد أعضاء المجلس أنفسهم يصوتون بالإجماع على إقالة الرئيس المؤسس.

ومما جاء في بيان الإقالة: 
“لقد اكتشفنا متأخرين تضليله لنا وإلحاده، واعتذارنا كبير لكافة الموتى. السابقون 

 منهم واللاحقون”.

بعد وفاة الرئيس المُقال، حرص أبناؤه على تنفيذ الوصية، أحرقوا جثة والدهم، اكتروا طائرة هيلوكبتر لتذر رماد الجثة فوق الساحل. مما أفزع وروّع نوارس البحر الوديعة. ثم أرسلوا لمجلس جمعية دفن الموتى، وقد كان مجتمعا أثناءها للتداول في تعيين رئيس جديد، برقية موقعة باسم محام وكلوه عنهم، وتتضمن طلبا وديا، مضمرا بتهديد الاضطرار للتوجه إلى القضاء، ومفاد الرسالة: إخلاء أراضي المقابر التي مر عليها عشرون سنة من الوجود، لتعود لفائدة الورثة. إذ أن الرئيس المؤسس كان قيد حياته، قد أعار بعضا من البقع التي يملكها للجمعية لاستعمالها مدافن لموتى المدينة، وحدد المدة بعقدين من الأعوام، كما هو مدون في وثائق الإعارة المرفقة.
وبدل البحث عن رئيس جديد لجمعية دفن الموتى، وجد المجتمعون أنفسهم يبحثون عن منعش عقاري جديد يقنعونه بإعارتهم بقعة للدفن. ولما استعصى الأمر عليهم أكدوا على أنه لا يهم إن كان المتبرع ملحدا.
بعدها لوحظ اختفاء النوارس البيضاء، فيما زاد تحليق مروحيات الهيلوكبتر فجرا فوق ساحل المدينة.

 

(بيروت)

 

 

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *