السلطعون.. ديستوبيا الباحثين عن الحب

*فاطمة نبيل

الديستوبيا ببساطة هي أدب المدينة الفاسدة، الذي يروي عادة عن حياة مجتمع خيالي وفاسد ومخيف، وينتظره مستقبل مظلم، ومن هنا سنبدأ الحديث عن «The Lobster» أو (السلطعون).

في عالم تقود أفكاره العاطفية الأفلام الهوليودية الأمريكية ذات الطابع الخفيف الكوميدي، التي ترتكز دومًا على فكرة أن لكل منا شريك روحي ينتظر أن تجمعهما النهاية السعيدة، يأتي فيلم «The lobster»، لكي يضع في إطار كابوسي ديستوبي ما يراه أنه أسس العلاقات العاطفية لهذا الزمان ويردّ هذه العلاقات لأصلها الحيواني الأوليّ قبل أن تهذبه الحضارة.

الفيلم الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان السينمائي لعام 2015 هو إنتاج أمريكي/ فرنسي/ إنجليزي/ يوناني/ أيرلندي/ نيوزلندي/ هولندي مشترك، وهو الفيلم الروائي الطويل الأول الناطق بالإنجليزية لمخرجه يورجوس لانثيموس، وقد كتب له السيناريو مع إيفنايميس فيليبو، وقام ببطولته كلًا من كولين فاريل، وريتشل وايز، وبن ويشا.

عالم لا يحتمل العزاب

نحن هنا في مكان ما في العالم، في حقبة ما في المستقبل، في مجتمع لا يحتمل العُزّاب، حيث يبدو الحب أزمة وجود بالأساس، ويصبح على كل فرد أن يجد له شريكًا وإلا تحول إلى حيوان – بالمعنى الحرفي لا المجازي– يختار نوعه، على ألا تتجاوز مدة بحثه عن شريكه 45 يومًا، وعلى الشريكين أن يجتمعا على شيء مشترك بينهما، وأن يتم ذلك في فندق خُصص لذلك، يفرض رقابة صارمة على سلوك نزلائه الجنسي، ويرتدي فيه الجميع ملابس متشابهة وكأنهم في سجن.

نخوض مع شخصية الفيلم الرئيسية الذي نعرف لاحقًا أن اسمه «ديفيد» رحلة البحث عن الشريكة المثالية له في الفندق، بعد أن هجرته زوجته وبات عليه أن يلحق عقد الـ45 يومًا المنفرط، إذ لا مجال حتى للتعافي من قصة الحب المنتهية.

وفي فترة إقامتهم في الفندق يزيد ارتداد البشر إلى صورتهم الأولى، فكل ماضيهم ومستقبلهم وأحلامهم ومشاريعهم تسقط ولا يتبقى سوى الصفة الأبرز فيهم، والتي عليهم وضعها دومًا في إطار من أجل إيجاد الشريك المناسب حتى لو كذبوا.

فنجد الرجل الأعرج، والفتاة ذات النزيف الأنفي، والرجل المتلعثم، أما البطل الرئيسي فقد اختار كما ذكرنا أن يتحول إلى سرطان بحر إذا لم يستطع أن ينال الشريكة التي تتوافق معه، لأن السلطعون في نظره هو الحيوان المثالي، فهو من ذوي الدم الأزرق كالأرستقراطيين، كما أنه يستطيع أن يعيش حتى 100 عام، والأهم أنه يتمتع بالخصوبة الجنسية كل تلك السنين، عسى أن يساعده ذلك على تحقيق التواصل العاطفي الذي افتقده إنسانًا.

ولأن الحب لا يمكن أن نجده في فندق كل نزلائه من راغبي المواعدة المهددين بالتحول إلى حيوانات، ولا سبيل لزيادة أيامهم في دنيا البشر إلا باصطياد المزيد من الوحيدين؛ في إشارة واضحة لنمط العلاقات العاطفية الذي بات يسود العالم الحديث، لكل ذلك فإن ديفيد لا يجتذب سوى امرأة بائسة محبة للبسكويت بالزبدة.

الحب على طريقة العالم الحديث

تبدأ التنازلات بعرض مشاركة البسكويت، وعرض الحب، وطرح مميزاتها كأنثى تجيد وترحب بكل أنواع الجنس، لكن الابتزاز لا يقود عادًة لعلاقة عاطفية ناجحة ولا يسفر إلا عما يُعرف باسم الحب من طرف واحد، وبالفعل ترفع الذكر (المحبوب) عنها مما أدى إلى انتحار سيدة البسكويت خشية أن تتحول إلى حيوان.

أما ديفيد الذي رغم رفض حب سيدة البسكويت بعد أن عُرض عليه، فيقع في حب سيدة بلا مشاعر؛ لا محبة، ولا كراهية، ولا غضب. كان يمكنها خنق طفل رضيع بقلب بارد، ومن أجل أن يثبت أن التوافق يجمعهما – حيث لا يصح أن تُبنى العلاقات على الكذب – يصبح عليه أن يتظاهر بإنه مثلها بلا قلب، حتى في أوقات وصالهما الجنسي يجب عليه أن يصمت ولا يظهر أي مشاعر ولا يقبّلها، ولا تحمل لمساته أي رسائل.

ولأنه لا يجيد التمثيل، ولأن من الصعب عادًة أن تتظاهر بكونك لا تحب شخصًا في حين إنك تحبه، تمامًا كأن تتظاهر بالحب في حين إنك لا تحب، فيكون جزاؤه قتل شقيقه والذي كان بدوره قد تحول إلى كلب بعد أن فشل في أن يجد شريكة.

وهروبًا من فاشية مجتمع الفندق الذي يرفع شعار «لا مكان للعُزّاب في هذا العالم» ومن أجله يصطنع النزلاء السعادة الزائفة وإلا لن يعودوا أبدًا إلى المدينة؛ هروبًا من كل ذلك يفر ديفيد إلى الغابة حيث يعيش المنعزلون الذين فشلوا في العثور على شريك، بعد أن رفضوا التحول إلى حيوانات، لكن فرارهم لم يضمن لهم أية سعادة فقد اجتمعوا معًا مكونين مجتمعًا لا يناقض مجتمع الفندق، فهو الآخر شديد التطرف، لكن إذا كان مجتمع الفندق قائم بالأساس على الجمع بين العُزّاب وإن كذبوا أو تظاهروا بالسعادة، فإن مجتمع الغابة لا يحتمل الحب والمحبين، وعلى رأسه قائدة تتوعد من يُضبط ممارسًا المغازلة أو التقبيل، أما الجنس فعقاب ممارسته أسطوري، لم يجرؤ أحد على تجربته.

وفي الغابة التي صورها الفيلم كما كانت توصف في روايات الرعب القوطي، تصبح الحياة انتظارًا طويلًا للموت.

ثورة فاشلة على الحب

هناك يعرف ديفيد الوحدة، وكم يؤلم عندما لا يمكنه فرك الألم بمرهم، وأن عليه أن يحفر قبره بيده إذ لا يتوقع من أي شخص آخر فعلها، أو أن يحمل جثمانه ويرمي بعض التراب على القبر، وأن لا يرى بأسًا في الوحدة حتى مماته، مادام يستمع للموسيقى وقتما شاء، ويمارس العادة السرية وقتما شاء، وأن يتحدث مع أي شخص وقتما شاء، معتقدًا أنه لن يشتاق للرفقة على الإطلاق.

في الغابة يخوض ديفيد مع غيره من المنعزلين مغامرة الكشف لمجتمع الفندق عن حقيقة هشاشة الحب الذي يعتقدون أنه يجمعهم، وأنه سواء جمع الطرفين صفة ما مشتركة أم لا، فالآلية التي جمعتهما لن تصمد أمام اختبارات الحياة المتتالية.

لكن حتى في مجتمع المنعزلين يمكن للمنعزل أن يقع في الحب، ويرغب في الوصال، ويشعر بالغيرة، والشوق، واللهفة، واضطراب المحبين، فيجمع الحب وقصر النظر بينه وبين زميلته المنعزلة والهاربة أيضًا من جحيم الـ45 يومًا – والتي اختار الفيلم أن تصبح الرواية من وجهة نظرها – يتبادلان الإشارات رغم فاشية محيطهما، ويحمل الأرنب الذي تفضله الفتاة طعامًا دومًا رسائل الحب الصامت بينهما.

لكن الثمن سيكون فادحًا، بعد أن كشفت رئيسة المجموعة أمرهما، وأفقدت الفتاة بصرها، ويصبح ديفيد كأوديب الذي اختار أن يفقد بصره طواعية من أجل ينال الحب والحرية.

نظرة من عدسات المخرج

يلعب المكان في الفيلم الدور الأهم، فيُظهر الفندق أشبه بالإعلانات الدعائية السياحية، وفي الغابة تجد الطبيعة على صورتها الأولى التي لا تحتمل إلا الحب، ولا تعرف كل هذه التعقيدات السلطوية، وبينهما المدينة الجافة تحاوط شاحنتها الضخمة مطاعمها، ولا مكان للترفيه أو المتعة فيها إلا المولات التجارية الكبرى حيث الشراء ودعم الحياة الاستهلاكية الفارغة.

يمد الفيلم الخطوط على استقامتها معلنًا بوضوح أن نمط العلاقات العاطفية الذي فرضته الحضارة الحديثة على آلية المواعدة ومؤسسة الزواج لن يقود إلا إلى سعادة زائفة، سعادة قوامها الصفات المشتركة بين المحبين، لكنها لن تؤدي إلا لمزيد من التعاسة وهشاشة الصلات، كالصور التي نراها يوميًا على مواقع التواصل الاجتماعي ينشرها الملايين من المحبين حول العالم، في محاولة لإقناع أنفسهم والآخرين بسعادتهم الزائفة وابتسامتهم الميكانيكية.

ويؤكد الفيلم أن هذا النمط من العلاقات الذي جعل الإنسان دائمًا في بحث سيزيفي عن الحب، وإلا لفظه المجتمع، لن يقود إلا لمثل هذا الجنون، وأن الإنجاب ليس وسيلة لتحسين العلاقات الزوجية، ولن ينشأ عنه إلا جيل جديد من التعساء المشوهين الباحثين عن الحب، مهما قدم الفندق من عروضًا تمثيلية مباشرة عن مزايا المواعدة والشراكة العاطفية.

بموسيقى كابوسية مقبضة، وشريط صوتي يناقض الصورة، كأن نرى مشاهد مطاردة المنعزلين تصاحبها موسيقى ناعمة، وأداء تمثيلي دقيق، ونقلات مونتاج  سريعة القفزات لا تميل إلى الاستفاضة في الشرح، فليس المهم ماذا حدث، ولا كيف، لكن المهم نتائج الحدث، يحث الفيلم مشاهده على التفكير في إنه قد يقضي عمره بأكمله يبحث عن الحب المثالي بمقاييس المجتمع فلا يجده، والأهم أنه يجعله يسأل نفسه هل وجد الحب حقا أم أنه يدعيه ككل المدعين هروبًا من كابوس الـ45 يومًا؟
___
*ساسة بوست

شاهد أيضاً

في اليوم العالمي للشعر: كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !

(ثقافات) كمَنْ يَحْرُثُ البَّحْرَ / وَيَكتُبُ فوْقَ المَاء !  هذا ما قاله المكسيكيّ خُوسّيه بَاشِيكُو …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *